
أصبحت أخبار الموتى خارج جائحة كورونا لا تهمنا كثيرا. فأن يصدر قرار حكومي بإغلاق ثماني مدن وتمنح للمواطنين خمس ساعات لمغادرتها واللحاق بمدنهم الأصلية لتمضية العيد وينتج عن ذلك قتلى في حوادث سير فذلك أمر عادي، طالما أن رئيس الحكومة أعلن أنه يتحمل مسؤولية هذا القرار وأن تحمل هذه المسؤولية لا يترتب عنه أي أثر.
وقبل أسبوع انقلبت حافلة في نواحي أكادير ومات 12 مواطنًا وجرح 20، لكن وقع وفاة 19 مواطنًا بفيروس كورونا يظل الأكثر رعبا من كل الوفيات الأخرى التي تحدث يوميا بالعشرات لأسباب مختلفة. والسبب واضح، فمصدر رعب هذا الفيروس هو أنه لا يوجد علاج أو لقاح ضده حتى الآن.
ونحن نتفهم أن يموت المواطنون بسبب فيروس كورونا لأن الفيروس لم يجد له الطب علاجا فعالا حتى اليوم، لكن لدينا فيروسات أخرى يموت بسببها المغاربة مع أن العلاج متوفر وبسعر جد منخفض.
وقبل أسبوعين خلد العالم اليوم العالمي لمحاربة الالتهابات الكبدية، الذي يصادف 28 يوليوز من كل سنة، وتزامن هذه السنة مع الأزمة الصحية الناتجة عن جائحة كورونا، حيث أصبح المصابون بمرض الالتهاب الكبدي أكثر عرضة لخطر الموت بسبب الفيروس، لكن إذا كنا لا نملك دواء لكورونا غير الوقاية فإننا بالمقابل نملك دواء لعلاج التهاب الكبد الفيروسي من نوع “س” الذي يعتبر من أخطر الأمراض التي تؤدي إلى الوفاة بعد تشمع كبد المرضى.
وحتى نعطي مثالا بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة الالتهابات الكبدية، فإن دواء التهاب الكبد الفيروسي من نوع “س” غير متوفر بالمستشفيات العمومية منذ خمس سنوات، مع العلم أن الدواء كان ثمنه باهظا يصل إلى حوالي 80 مليون سنتيم، وكانت الوزارة تقتنيه من شركة أمريكية، وعندما بدأت تصنعه شركة وطنية بثمن أقل (3 آلاف درهم) منذ سنة 2015، أوقفت الوزارة الصفقة، لهذا فالمشكل ليس ماديا، وإنما مخطط لخدمة مصالح اللوبي الأجنبي المتغول، ولم يتم الإعلان عن الصفقة إلا خلال شهر شتنبر من السنة الماضية، بعد حصول شركة أمريكية على ترخيص الإذن بالبيع في السوق، خلال شهر مارس من السنة الماضية، قبل أن يلغي الوزير الحالي الصفقة، نظرا للخروقات والتلاعبات التي شابتها، والتي كنا قد كشفنا عنها في هذا العمود.
إذن يظهر أن جهات داخل مديرية الأدوية والصيدلة التابعة لوزارة الصحة، التي تتحكم في منح رخص تسويق الأدوية، أصبحت رهينة في قبضة لوبيات الشركات الأجنبية، وما يؤكد ذلك توجه المديرية نحو ضرب الصناعة الوطنية، وتشجيع “أخطبوط” الشركات متعددة الجنسيات، كما وقع بخصوص تأجيل إعلان صفقة لتزويد المرافق الصحية العمومية بالأدوية المستعملة في علاج مرض التهاب الكبد الفيروسي من نوع “س”، منذ خمس سنوات، وذلك إلى حين حصول شركة أمريكية على الترخيص بالإذن بتسويق نوع من الدواء تصنعه هذه الشركة، رغم وجود ثلاث شركات وطنية تصنع نفس الدواء، مع العلم أن هذا الفيروس القاتل يعتبر ثالث مسبب للموت في العالم.
وتعرف جميع المستشفيات العمومية بالمغرب غيابا تاما للأدوية المستعملة في علاج مرض التهاب الكبد الفيروسي من نوع “س”، منذ خمس سنوات، بسبب ضغوطات مارستها لوبيات نافذة داخل وزارة الصحة من أجل تأجيل إعلان صفقة لتزويد المرافق الصحية العمومية بهذه الأدوية إلى حين حصول الشركة الأمريكية على الترخيص.
هذا الدواء غير متوفر بالمستشفيات العمومية منذ سنة 2016، رغم أن الالتهاب الكبد الفيروسي يقتل ثلاثة آلاف مغربي كل سنة، ورغم أن شركة وطنية تمكنت من صناعة دواء جنيس لمعالجة هذا المرض، وحصولها على الإذن بتسويقه بثمن منخفض بمبلغ 3 آلاف درهم مقارنة مع الثمن الذي كانت تبيع به إحدى الشركات الأمريكية بمبلغ 80 مليون سنتيم.
وقبل حوالي سنتين، عقدت مديرية الأمراض والأوبئة، اجتماعا بحضور عدد من الأساتذة الأطباء، تم خلاله الإعلان عن فتح الصفقة للتباري في وجه الشركات الوطنية في انتظار دخول الشركة الأمريكية للمنافسة، أي بعد حصولها على الإذن بتسويق الدواء، وتمت خلال الاجتماع المصادقة على بروتوكول العلاج المعتمد في الدواء المحلي، الذي هو عبارة عن تركيبة من مادتين منفصلتين، وهما “سوفوسبيفير”، و”داكلاتسفير”، لكن بعد ظرف وجيز، عقدت المديرية اجتماعا آخر، تم خلاله الإعلان عن تغيير بروتوكول العلاج لتمكين الشركة الأمريكية من المشاركة في الصفقة بعد حصولها على الإذن بتسويق الدواء في ظرف قياسي لا يتعدى أربعة أشهر، فيما تنتظر عشرات الشركات والمختبرات مدة لا تقل عن ثلاث سنوات للحصول على الترخيص بتسويق الأدوية، وبالفعل حصلت الشركة على الترخيص وفازت بالصفقة التي فصلت على مقاسها، قبل إلغائها من طرف الوزير.
ولكي نعرف خطورة هذا المرض الذي يفتك بالبشرية، فإن منظمة الصحة العالمية، تقدر عدد المصابين بالفيروس الكبدي “ب” و”س” ب500 مليون حالة في جميع أنحاء العالم، واللذين يتسببان في حدوث وفيات يزيد عددها عن الوفيات الناجمة عن فيروسات “السيدا” و”الملاريا” والسل مجتمعة، وربما ستكون أكبر من عدد وفيات كورونا، وتقدر هذه الوفيات بنحو 1.4 مليون شخص سنويا، ولهذا، بلورت وزارة الصحة في عهد الوزير الأسبق، الحسين الوردي، استراتيجية وطنية جديدة شاملة ومخطط عمل لفترة ما بين 2017-2021 من أجل محاربة التهابات الكبد الفيروسية، وأعطت انطلاقة برنامج وطني جديد للقضاء على التهاب الكبد “س”، وترتكز محاور هذا البرنامج الوطني الجديد الرامي إلى القضاء على التهاب الكبد “س”، على خمس دعامات تهم توفير اختبارات الكشف والتشخيص لداء التهاب الكبد من النوع “س”، ومعالجة المصابين بداء التهاب الكبد من النوع “س”، والوقاية من العدوى، والحكامة والشراكة، وتوفر المعلومات الاستراتيجية حول التهابات الكبد الفيروسية، لكن هذه الاستراتيجية تم إقبارها في عهد الوزير السابق، أنس الدكالي، وجاء الوزير الحالي، خالد آيت الطالب، ليدق آخر مسمار في نعشها.
وتكمن خطورة هذا المرض المعدي في أن غالبية حامليه يجهلون إصابتهم بالفيروس المسبب له لأنه يتطور تدريجيا وببطء، مما يزيد من مضاعفاته الخطيرة التي قد تصل إلى درجة تشمع الكبد أو سرطان الكبد، إضافة إلى مخاطر نقل العدوى للآخرين، وقد يسبب الفيروس عدوى التهاب كبد حادة ومزمنة على حد سواء، تتراوح شدتها بين المرض الخفيف الذي يستمر أسابيع قليلة إلى المرض الخطير طيلة العمر، وينتقل فيروس التهاب الكبد “س” عبر الدم وتتم العدوى بالخصوص أثناء ممارسات الحقن غير المأمونة وعدم كفاية تعقيم المعدات الطبية، ونقل الدم ومنتجات الدم دون فحص، وأضحت العلاجات الجديدة المتوفرة اليوم أكثر فعالية مما يرفع من حظوظ شفاء المرضى، خاصة في حالة الكشف المبكر عن الفيروس الذي لا يوجد حتى اليوم أي لقاح مضاد له، خلافا لالتهاب الكبد “ب”.
لذلك وضعت منظمة الصحة العالمية محاربة داء فيروس التهاب الكبد من أولويات اهتمامها في أفق القضاء عليه سنة 2030، ولهذا انخرط المغرب في هذه الاستراتيجية من خلال وضع استراتيجية وطنية سنة 2016 تمتد على مدى خمس سنوات (2016-2021)، بهدف القضاء على الفيروس نهائيا، والآن بعد مرور أربع سنوات على إطلاق الاستراتيجية، ونحن الآن على مشارف نهاية سنة 2020، وسنة 2021 على الأبواب، نتساءل مع وزير الصحة، أين هي الاستراتيجية وما مصيرها؟
وكان من بين توصيات هذه الاستراتيجية، اقتناء الدواء من طرف الدولة لمعالجة المرضى في المستشفيات العمومية، والقيام بحملات تحسيسية لإخبار المواطنين بخطورة هذا المرض، وكذلك حملات للكشف عن المرض مع توفير الدواء في المستشفيات العمومية، ما يعني أن هناك أيادي خفية تدخلت لإقبار هذه الاستراتيجية لخدمة مصالحها على حساب صحة المواطنين.
ويوجد أكثر من نصف مليون مغربي لا يعرفون أنهم مصابون بالفيروس، فيما يصل عدد الوفيات سنويا إلى ما يقارب 5 آلاف شخص، ورغم خطورة الوضع، لم تقم وزارة الصحة بأي حملة للكشف عن المرض، وأغلب المرضى الذين يعرفون أنهم مصابون بالفيروس يكتشفون ذلك بالصدفة، من خلال الكشف عن أمراض أخرى أو تظهر عليهم بعض الأعراض الجانبية، وتشير الإحصائيات إلى وجود حوالي 50 ألف مريض يعرفون إصابتهم بالفيروس، منهم 6 آلاف فقط استعملوا الدواء الجنيس المغربي، بالإضافة إلى حرمان حاملي بطاقة التغطية الصحية “راميد” من العلاج بالمستشفيات.


