الشمولية المتخفية.. تغيير الإنسان لحماية النظام
كتاب «الإنسان المتحول.. هدف الثورات الشمولية» لفيليب بيشو برافار

شهد العالم وسيشهد مئات الثورات ضد ما سمي أنظمة فاسدة ومستبدة ومجرمة، وأتى «ثوار» نسبوا أنفسهم لمبادئ سامية، من قبيل العدالة الاجتماعية والمساواة والديموقراطية، غير أن هؤلاء سرعان ما تحولوا هم أيضا إلى نسخ مطابقة لأسلافهم الذين أطاحوا بهم، وهذا تماما ما يسميه الكاتب هنا بـ«الثورات الشمولية»، مستدلا بحالات تاريخية موثوقة لثوار تحولوا لمجرمين حرفيا. صحيح أن التاريخ يسجل القضاء على تجارب شمولية دامية، على غرار النازية والشيوعية، لكن هناك تحولات جوهرية في قلب الأنظمة الديموقراطية تجعلها تعيش بعض مظاهر الشمولية المقنعة، حيث السعي لتغيير الإنسان ليصبح تغيير الأنظمة متعذرا.
الثورة لا تعني التحرر دوما
عند فيليب بيشو برافار الشمولية المتخفية هي نظام سياسي شمولي يحاول إخفاء طبيعته السلطوية أو الاستبدادية من خلال تبني مظاهر ديمقراطية أو مؤسساتية كاذبة. هذا النوع من الشمولية لا يفرض سلطته بشكل علني، بل يعمل من خلال آليات خفية للسيطرة والتلاعب، مثل التحكم في الإعلام، وتقييد الحريات المدنية، واستخدام القوانين لتبرير القمع.
فهي أحد نتاجات الحداثة، شكلٌ حديث من أشكال الحكم يختلف اختلافًا جذريًا عن الاستبداد، أو الطغيان، الذي نسميه اليوم «الديكتاتورية»، في هدفه النهائي: تغيير الإنسان. باستسلامها لإغراء الغطرسة، تهدف الشمولية إلى منح الدولة سلطةً مطلقة لطي صفحة الماضي وبناء عالم جديد وإنسان جديد. هذا الإنسان المتغير هو الهدف النهائي لجميع الثورات الشمولية منذ عام 1789، سواءً تجربة اليعاقبة الفرنسية، أو التجربة الشيوعية في روسيا وآسيا، أو تجربة الاشتراكية الوطنية الألمانية.
فبعد محاكمات نورمبرغ، من جهة، وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، من جهة أخرى، تبدو الشمولية قد فقدت مصداقيتها بشكل دائم، وعودتها مستحيلةٌ لزمن طويل، بسبب انتصار ديمقراطية ليبرالية كانت تُعتبر في يوم من الأيام نهاية التاريخ. مع ذلك، لا يزال الطموح إلى تغيير المجتمع والإنسانية، الذي تُعززه العقلية المتمردة السائدة، يتعزز في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، مدعومًا بقبضة الدولة الخانقة المتزايدة على المجتمع، وآليات المطابقة الفكرية، التي تُعدّ حركة «اليقظة» أحدث تجلياتها وأكثرها تطرفًا. في عصر ما بعد الإنسانية، وعلم تحسين النسل الجديد، لا يزال خطر الاستبداد قائمًا. لذا، تبدو إعادة النظر في تاريخ الاستبداد أمرًا ضروريًا.
فالشمولية أو الحكم الشمولي نظام سياسي يرتكز على وجود حكم الحزب الواحد ولا يقبل وجود معارضة سياسية في البلاد، وتكون فيه للدولة سلطة كاملة على المجتمع وتسعى للسيطرة على جميع جوانب الحياة العامة، والخاصة أيضا إذا دعت «الضرورة» إلى ذلك. غير أن المفهوم، حسب الكاتب، اتخذ معنى «إيجابيا» خلال عشرينيات القرن الـ21 من قِبل الفاشيين، وأصبح متداولا بشكل كبير في الخطاب السياسي الغربي المناهض للشيوعية خلال حقبة الحرب الباردة لتسليط الضوء على أوجه التشابه بين ألمانيا النازية والأنظمة الفاشية من جهة، والشيوعية السوفياتية من جهة أخرى.
يمكننا الكتاب من إعادة قراءة التاريخ السياسي الحديث، للوقوف على ملامح ما يسمى بالشمولية السياسية واختلافاتها عن السلطوية. فقد تمت صياغة مفهوم الشمولية بأنها «شمول» السلطة السياسية من قبل الدولة في عام 1923 من قبل «جيوفاني أمندولا»، الذي وصف الفاشية الإيطالية كنظام مختلف اختلافا جوهريا عن الديكتاتوريات التقليدية. تم تعيين معنى إيجابي للمفهوم في كتابات جيوفاني جنتيلي، المنظر الرئيسي للفاشية. استخدم جنتيلي مفهوم الشمولية للإشارة إلى بنية وأهداف الدولة الجديدة، وهي «التمثيل والتوجيه الشامل للأمة والأهداف القومية». ووصف الشمولية بأنه مجتمع تؤثر فيه آيدولوجية الدولة والسلطة على معظم المواطنين. ووفقا لبينيتو موسوليني، هذا النظام يسيس كل شيء روحي وبشري، «كل شيء داخل الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة».
إي سنغ مان، الذي أصبح لاحقا أول رئيس لكوريا الجنوبية، استخدم مصطلح الشمولية في كتابه «اليابان من الداخل إلى الخارج» الصادر عام 1941 لوصف الحكم الياباني لدول آسيوية عديدة وصنفه بأنه معارضة للعالم الديمقراطي، حيث للأفراد أهمية أكبر من المجتمع نفسه.
أما فريدريش فون هايك، فساعد في تطوير فكرة الشمولية في كتابه الناقد للاشتراكية والمدافع عن المنافسة الاقتصادية والمعنون «الطريق إلى العبودية» الصادر عام 1944. وفي المقدمة، يظهر هايك تناقض القيم البريطانية الغربية مع ألمانيا النازية تحت حكم أدولف هتلر، مشيراً إلى أن الصراع بين اليسار واليمين داخل حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني هو صراع دائم بين الفصائل الاشتراكية المتنافسة. وقال عن ألمانيا وإيطاليا وروسيا إن «تاريخ هذه البلدان في السنوات التي سبقت صعود نظام شمولي فيها أظهر بعض الميزات التي لا نعرف عنها». وقال المؤرخ البريطاني الموالي للاتحاد السوفييتي، إدوارد هاليت كار، إن الاتجاه بعيدا عن الفردية ونحو الشمولية في كل مكان أمر لا خطأ ولا لبس فيه، وأن الماركسية اللينينية هي النوع الأكثر نجاحا من الشمولية، مستدلا بالنمو الصناعي السوفييتي ودور الجيش الأحمر في هزيمة ألمانيا النازية.
الديموقراطية مشروع غير مكتمل
يؤكد فيليب بيشو برافار أن الديمقراطية الليبرالية تتناقض مع الشمولية، وجادل أن هذه الأخيرة ترتكز على الاعتقاد بأن التاريخ يتحرك نحو مستقبل غير قابل للتغيير وفقا لقوانين معروفة، مستدلا بأفكار حنة آرنت في كتابها «أصول الاستبداد» الصادر عام 1951 والتي حللت فيه ظواهر النازية والستالينية، وجادلت بأن الأنظمة والدول الشيوعية والنازية كانت أشكالاً جديدة من الحكومة، وليست مجرد نسخ مجددة لأنظمة قديمة من الطغيان. ووفقا لآرنت، مصدر جاذبية الجماهير للأنظمة الشمولية هي عقيدتها، والتي توفر إجابات واحدة ومريحة لكل أسرار الماضي والحاضر والمستقبل، وتضيف أنه، بالنسبة للنازية، كل التاريخ هو تاريخ من الصراع العرقي أو الإثني، وللاشتراكية، كل التاريخ هو تاريخ صراع الطبقات الاجتماعية، وبمجرد قبول هذه الفرضيات يمكن تبرير كافة إجراءات الدولة بالاحتكام إلى طبيعة وقانون التاريخ المفترض، وبالتالي عقلنة إنشاء نظام الدولة الاستبدادي.
درس كثير من العلماء، ومن مختلف الخلفيات الأكاديمية والآيدولوجية ظاهرة الشمولية، وقدموا تعريفات مختلفة لها ولكنهم جميعهم يتفقون بأن الشمولية هي السعي إلى تعبئة المواطنين لدعم الآيدولوجية الرسمية للدولة، وغير متسامحة مع النشاطات التي لا تخدم أهداف هذه الدولة، تستلزم القمع وسيطرة الدولة على الأعمال التجارية أو النقابات العمالية، ودور العبادة أو الأحزاب السياسية.
شئنا أم أبينا، فإن الشمولية، التي ميزت القرن العشرين تجد أصلها التاريخي، إن لم يكن الفكري، في الثورة الفرنسية، لأن مشروع تجديد الجنس البشري لم يكن ليُحد. وليس من قبيل الصدفة أن أكد البلاشفة، عام 1917، عزمهم على تحقيق ما عجز عنه اليعاقبة. ولكن إذا ابتعدنا قليلاً عن الأحداث وسردها، ندرك أننا أمام ملف هائل، ملف يفرض دراسة مستفيضة للشمولية الحديثة، وكلمة «حديث» لا طائل منها لأنها ظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحداثة. وأعاد فيليب بيشو برافار بناء هذا الملف في عمل توليفي رائع، يبدأ بالأصول الأيديولوجية، ويوضح أهمية الفترة 1789-1794، ويستعرض تجربتي الشيوعية والنازية الرهيبتين، ويختتم بتحذير جدي من وجود الروح الشمولية داخل الديمقراطيات الحديثة.
يُخصّص فيليب بيشو برافار أحد فصوله للكاتب الإيطالي المرموق، أوجينيو كورتي، الذي تروي روايته «الحصان الأحمر» قصة جيل، جيل الشباب المولودين بعد الحرب العالمية الأولى، الذين عايشوا مباشرةً النظامين الشموليين الدمويين في عصرهم. يُعدّ الرعب اللاإنساني السمة المميزة لكلٍّ من السوفييت والنازيين. تُؤكّد كورتي نفسها على هذا النحو في مستشفى عسكري في بولندا: «من جهة، قبل مغادرتهم، ذبح السوفييت آلافًا من برجوازية المدينة، بمن فيهم العديد من النساء والكهنة، فأردوهم قتلى برصاصة في مؤخرة الرأس؛ ومن جهة أخرى، قتل النازيون، عند وصولهم، جميع المجانين المحتجزين في مستشفى الأمراض النفسية، واستولوا على المباني لتحويلها إلى مستشفى عسكري». يُقارن كورتي القتلة بشهادة الراهبات البولنديات اللواتي كرّسن أنفسهن لرعاية عدد لا يُحصى من الجرحى. إنه مسيحيٌّ يتأمّل في هذا الفيض من الرعب، مُدركًا معاداة المسيحية المُتجذّرة في الشمولية. وهذا يستدعي الإشارة إلى الانتقال من الإنسانية المسيحية إلى الإنسانية الأنانية وعواقبها الأنثروبولوجية.
آليات متخفية للتسلط
مصطلح «نظام سلطوي» يدل على حالة يكون فيها صاحب السلطة واحدا وهو الفرد الديكتاتور، أو مجلس عسكري أو مجموعة نخبوية صغيرة تحتكر السلطة السياسية. النظام الشمولي، من جهة أخرى، يحاول السيطرة على كل جوانب الحياة الاجتماعية تقريبا بما في ذلك الاقتصاد والتعليم والفن والعلوم والحياة الخاصة وأخلاق المواطنين. الأيديولوجية المعلنة رسميا تخترق أعمق روافد الهيكل المجتمعي وتسعى الحكومة الشمولية إلى السيطرة تماما على أفكار وأفعال مواطنيها. الشمولية نسخة متطرفة من السلطوية. التسلط يختلف في المقام الأول من الشمولية في ذلك المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية الموجودة ليست تحت سيطرة الحكومة.
لكن الأهم من ذلك كله هو خلاصة الكتاب. هل ديمقراطياتنا الحديثة، التي نجحت لحسن الحظ في دحر الأنظمة الشمولية في القرن الماضي، محصنة «ضد إغراء الدولة بالاستيلاء على المجتمع والإنسان نفسه، حتى في باطنه، بهدف تحويله كما تشاء»؟ ما الذي يجب أن نفكر فيه، على سبيل المثال، بشأن ما بعد الإنسانية، التي تسعى إلى تحسين البشرية على جميع المستويات – الفكرية والعاطفية والأخلاقية – بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي الحيوي؟ كلا، لم ينتهِ التهديد الشمولي بعد؛ بل إنه يبرز في مظاهر جديدة وأكثر رعبًا.
فلا شك في أن هذا كله يعمل على تضييق الخناق على تدفق الروح المدنية. فالفرد الذى هو أساس تكوين المجتمع، والذى له حق مدنى في الحرية والتعبير عن الرأي، لم يعُد حرا، والقانون، الذى هو ركيزة من ركائز الحياة المدنية، أصبح يطبَق لمصلحة رأي معين غالِب من دون بقية الآراء. بل إن القانون لم يعُد له من معنى في هذا السياق، فهو قانون الغالِب والمُسيطر. ومن ناحية ثالثة يتحول مفهوم المُواطنة، الذي هو ركيزة أساسية للحياة المدنية، إلى مفهوم مشوه، حيث يُمكن أن تنزع السلطة الشمولية المُواطَنة عن الأشخاص؛ الأمر الذى يجعل الأفراد الأحرار غير قادرين على العيش في المجتمع (قد نشير هنا إلى ظاهرة هروب المثقفين والمفكرين والعُلماء من الحُكم النازي وهجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية). ولا تعرف الدولة الشمولية فصلا بين السلطات؛ فالسلطات كلها بين الزعيم أو القائد، الذى تشع منه كاريزما القيادة، الحقيقية أو المزعومة، إلى باقي أرجاء المجتمع. وفى هذا السياق تصبح الحياة المدنية حياة مضغوطة مشوهة. حقيقة أن الأفراد يعيشون في حياتهم اليومية ويتفاعلون من أجل العيش المُشترَك، ويتعاونون في سبيل استمرار الحياة، ولكنهم ليسوا بحالٍ من الأحوال أفرادا أحرارا قادرين على أن يحددوا مصيرهم. فعقولهم، لا بل رؤوسهم مشدودة دائما نحو الدولة، وكثيرا ما تنتابهم حالة خوف شديد من الأجهزة القمعية للدولة الشمولية، وهى أجهزة قوية عالية التدريب والإمكانات.





