حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

دين و فكر

جدلية النص والواقع.. اللغة والنصوص الكتابية

بقلم: خالص جلبي

حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: وذاك عند أوان ذهاب العلم قال، قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة، قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟

هذا الحديث مفصلي لفهم جدلية النص والواقع، أو اللغة والواقع، ولخطورة البحث فقد قمت فيه بتشريح هام أضعه بين يدي القارئ.

عرضت قناة «ديسكفري» بحثا عن الكذب، توصل الباحثون فيه إلى كشف الكذب ليس من خلال الكلمات، بل من حواف وظلال الكلمات، وكيفية نطقها، وتعبيرات الوجه السريعة المرافقة للحن القول. وهذا يعني أن الكلمة المنطوقة لم تعد مصدر ثقة. وبتعبير القرآن هي فاسق «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا»، وحتى نتبين صدق القول ومطابقته للمعنى، فهو عملية معقدة من عدة جوانب. وحتى لو قال من قال صادقا، فلا يعني أنه أصاب الحقيقة، وهذا يعني أن هناك حجبا فوق حجب أمام الإمساك بحقيقة جزئية ومتغيرة لا تنفك عن التملص من أيدينا بأشد من الإمساك بسمكة في الماء. وليس كل شاهد واع بما يرى، والكثير من الناس يعيشون قرنا كاملا، ولكن بوجود بيولوجي وليس ثقافيا، فإن سألت أحدهم عن أحداث القرن، لم يرو لك شيئا ذا بال. والكثير من العمال الأتراك الموجودين بألمانيا لا يعرفون ألمانيا، إلا ساعات عمل ووجبة ثقيلة وزيارة بعضهم، ويبقى أحدهم عشر سنوات، بدون القدرة على نطق عشر كلمات ألمانية على نحو صحيح. فهذا وجود، وفيلسوف يسبر أعماق الثقافة ويجتمع بأدمغة المجتمع النابهة وجود، ولكن لا يستوي الأعمى ولا البصير ولا الظل ولا الحرور ولا الظلمات ولا النور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات.

نحن نظن أننا نتعلم اللغة في المدرسة عبر القراءة والكتابة، ولكن الواقع أن اللغة ليست واحدة، بل ثلاث تتشكل طبقا عن طبق. والطفل يفهم تعبيرات الوجه، قبل أن يستوعب كلمة واحدة. وعندما يتعلم نطق الكلمات، يستوعب من جديد أن هناك لغتين ما ينطق وما يقصد، فقد يقول أحدهم للآخر: «مرحبا»، وهو يعني أن لا مرحبا بك. وهنا تبرز حواف جديدة من (لحن القول)، غير ما حمل على الصوت. وعندما أراد القرآن تعليم نبيه حقيقة المنافقين، قال إنه سيفتح له نافذة مزدوجة على (السيمياء ولحن القول)، «ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول». وعندما يدخل الطفل المدرسة، يبدأ في تعلم أكثر اللغات سطحية، وصعوبة وحيدانا عن المعنى، والحاجة إلى التأويل. وهكذا فنحن أمام ثلاث لغات «الصامتة» واللغة «الصائتة» واللغة «المكتوبة».

فأما المرحلة الأولى فهي «اللغة السلوكية»، أو اللغة التحتية، والمفاهيم التي تنتقل بها تكون عفوية، سواء من يوحي بها أو من يتلقاها ويتقبلها الطفل عادة على نحو غير واع، لهذا كثيرا ما ننكر أننا مصدر هذا السلوك، عندما نصاب بالحرج من بعض تصرفات أطفالنا. وإلقاء الضوء على هذه المرحلة حاسم في فهم خلفية السلوك، ولكن الجميع يمر عليها مرورا عابرا غير مدقق، ولا معاد، ولا نبذل جهدا في إبرازها ولا قدرة لنا على ذلك، والإنسان بشكل عام لا يقدر أن يعطي للشيء المهمل قيمة، إلا في ما ندر، والذي أبرز هذه الزوايا المظلمة من التصرف الإنساني، هو أساليب التخصصات الدقيقة الحديثة في علوم الألسنيات، التي أخذت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها، ولكنها مهملة وغير مركز عليها عندنا «وكَأَيِّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها مُعْرِضُون». وفي العادة لا ينتبه الإنسان إلا بالتنبيه، والقليل من الناس، وفي بعض الظروف النادرة، وفي جو من المعاناة.

أما «المرحلة الثانية» فهي مرحلة الكلام ونقل الأفكار والتصورات باللغة، وهي مرحلة كشف عنها العلم، أنها تتم مع نمو الحنجرة، بعد السنة الأولى وبالتدريج، وربما يصدم الطفل في هذه المرحلة، ولكن يمتصه بالسلوك، ولا يقدر أن يعبر عنه باللغة. ويرى ويكشف أن هذا الأسلوب فيه كثير من النفاق وعدم الصدق والتوافق، كيف نقرر أشياء باللغة ولا نلتزمها بالسلوك، وهذا التحول قارة جديدة من العلم ينبغي كشفها. وهنا يقع الإنسان في أول أزمة عقلية مع استخدام مقود اللغة، أن فيها وجهان ظاهر وباطن، ولا تعني كل كلمة ما يراد منها. والمجاملات التي نقوم بها يوميا، وقف عليه عالمان لغويان، لاكتشاف مقدار الكذب في أحاديثنا، في بحث نشرته مجلة «دير شبيغل» الألمانية، فوصلا إلى نتيجة إحصائية مفزعة تفيد بأننا نكذب، بمعدل عدة كذبات في بضع دقائق. وكما يقول التكريتي في كتابه «الهندسة النفسية» عن (البرمجة اللغوية العصبية NLP)، إن المشكلة تكمن أصلا في اللغة، فهي تحتوي على خروق يصعب رتقها، وأهمها عيوب ثلاثة لا سبيل لإصلاحها، هي التعميم والتشويه والحذف، وتفصيل هذه العيوب الثلاثة للغة يعرفه العاملون في مدرسة البرمجة اللغوية العصبية (LNP). 

وأما «المرحلة الثالثة» فهي مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة، وما يتعلمه الإنسان من القراءة سطحي أكثر من المرحلتين السابقتين. فالطبقة الأولى «السيميائية» عميقة وكتيمة وراسخة وعفوية، أما الثانية فدونها في العمق، في حين الثالثة فهي عائمة. ولا بد من كشف دقيق موسع لهذه المراحل، للدخول إلى التمييز بين اللغة الصامتة، واللغة الصائتة، واللغة المرسومة على الورق بالحروف.

إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين، فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونه بوعي، يتمكن من حل كثير من المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين.    

والدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي والمتكلم والذي لا يقرأ، وبين المثقف والمتعلم الذي يقرأ، والأول محتقر مهان خجول، ولكن سلطانه أعمق كثيرا من هذا المتعلم، وإن كان يعطى له احترام كبير، إلا أنه بدأ يُسحب البساط من تحت قدميه، فهذا الاحترام مبالغ فيه ووهم مسيطر على النفوس.

أما المرحلة الأولى فلم أر من أعطاها عناية تستحقها كما يجب، وحاول الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» أن يبحث عنها، ليس عن هذه المرحلة بالذات، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها، فالعالم الإسلامي على اختلاف لغاته يتكلم لغة ثقافية واحدة، ويعيش نظاما فكريا واحدا محميا ومحروسا ومحصنا، ومدافعا عنه بإحساس دقيق ممتاز وبحساسية مرهفة، ويشعر بالخطر إذا خرج قطاره عن سكته، فلهذا الجميع في توافق تام، لحراسة شجرة الحياة الثقافية.

وإلى الآن لم ندخل في نقاش فعلي، أو محاولة تطبيق هذا المنهج على بحث مشكلة «ابن آدم والعنف ومشكلة الإنسان». والمشكلة في تقديري ليست في ابن آدم ولا في العنف، وإنما في أسلوب الفهم، كيف نعرف الصحيح من الخطأ؟ وكيف نفهم عن الله؟ وما هذا الله؟ وكيف نفهم الصواب؟ وما المشكلة؟ وكيف نعرف أن المشكلة حلت؟ وهل لنا قدرة للتلقي عن الله بالطريقة الأولى، أم الثانية، أم الثالثة؟ هذه الكلمات والأفكار أكتبها موجزة جدا، ومبتورة، وغير متناولة بدقة وعناية وتأمل.

وعندما نجتمع مع شخصيات كبيرة معتبرة وذكية ومقدرة في المجتمع، وتتحدث باعتداد ويبحث أحدها عن الروح والنفس والله والرسول، وقال الله وقال الرسول، فيجب أن لا ترهبنا قعقعة الكلمات، أو قال فلان وفلان. نريد أن نتحدث ماذا يحدث لنا، وكيف يحصل الفهم، وكيف انتقلت إلينا هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء، ولنبحث في الأرض، ولنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة.

كيف تصيغ البيئة هذا المولود؟ إن هذا يحدث أمامنا بقوى تحيط بنا وتصدر منا، وليست غيبا ولا خارقة، ولا أنه لا يمكن فهمها أو السيطرة عليها، والمشكلة الخارقة الصادمة التي هي أم المشكلات، أننا حين نقول: قال الله، أو قال الرسول أن قول الله وقول الرسول لا يمكن أن يأتي من الله ولا من الرسول، إلا إذا مر بقنوات وأجهزة من صنع البشر في مراحلها الثلاث، وحتى الله استعمل معنا اللغة التي صنعها الناس العاديون «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم».

هذه النقطة أي أن الله والرسول وكلامهما، وسائر كلام الناس، نتداولها بواسطة المراحل الثلاث التي تمر بها  كل المخلوقات البشرية، وتدخل هذه المفاهيم بواسطة هذه المراحل، ولا يمكن أن نتصل بأفكار الله أو كلام الله أو كتابه، وكذلك ما يتعلق بالرسول (ص)، إلا بواسطة هذه المراحل الثلاث، خاصة نحن الآن ليس أمامنا إلا كتاب بين دفتين، لا نفهمه إلا بواسطة اللغة، أو الكلام محكيا أو مكتوبا. فالمسلمون بكل سذاجة يظنون أن لهم القدرة على الاتصال بالمعاني، التي أرادها الله بواسطة هذه اللغة، دون الرجوع إلى الواقع الذي يتحدث عنه.

إن مشكلة اللغة أي لغة، ومشكلة الدلالة والرمز، ينبغي أن تبحث ليس كشيء خارق أو سحري أو غيبي، وإنما كشيء تقع كل جزئياته تحت سمعنا وبصرنا وملاحظاتنا، وليس منها شيء خفي، إذا أراد البشر تأمل الواقع الذي يحدث أمامنا.

ومن هنا كان إلحاح القرآن على الرجوع إلى الواقع، وطلب الفهم منه بدون ملل، وأكد على مد أشرعة البصر والسمع، وأكد على النظر على نحو معاد ومكرر، وما ألح عليه القرآن فرغه المسلمون من المعنى، وصاروا ينظرون إليه بريبة، ولا يثقون بالواقع الذي هو رصيد الكتاب، والذي جعل الكتاب مبينا كريما عظيما، لأنه ألح وأيد وعاد للنظر، وقال لنا إن اليوم الآخر والمعاد والحق كل ذلك حق مثلما أنكم تنطقون.

نحن الذين ننطق نخرج الهواء برنين معين، بين الحنجرة واللسان والأضراس، ثم نربط المعنى بهذا الرنين بواسطة الذبذبات والموجات الصوتية، وهي قابلة للارتباط بأي معنى، ولهذا وجدت لغات لا نهاية لها ولا حصر، ومنها ذكر القرآن «اختلاف ألسنتكم وألوانكم آية، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون». ولو كان بين الكلمة والمعنى ارتباط غير ربطنا الاعتباطي، ولو كان هناك ربط وجودي، لما كانت في العالم إلا لغة واحدة، ولما قال الله: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم». وبقدر البعثات بقدر الأمم وبقدر اللغات، «وإن من أمة إلا خلا فيها نذير».

هذه الموضوعات لم تبحث جيدا، والبشر هم الذين كشفوا المعاني، وهي لغة فكرية غير اللغة اللسانية، ولا يوجد لها بعد اسم، ولكن مع تداول الموضوع فسيتولد لها حتما اسم، من غير أن نشعر أو نقصد. وعندما يصير الموضوع واضحا، يتولد الاسم الذي نراه نحن. وحتى الله يستخدم المصطلحات التي وضعها الناس، حينما يرسل الرسل بلسان الأقوام. وعندما طلب مشركو قريشا مَلَكا، كان الجواب: «ولو جعلناه مَلَكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون».

وهناك ظاهرة لا نقدر على تحليلها هي ظاهرة دلالة الكلمة ودلالة الواقع. ونحن نظن أن الكلمة أدل على الواقع من أي شيء آخر، ونعتبر أن الأمر بديهي، ولكن الوهم الذي نقع فيه شبيه بالوهم الذي وقع الناس فيه قديما في إدراك حركة الشمس؛ ونحن نعلم كيف تورط الناس في هذا الوهم الواضح الجلي لنا حاليا، ولكنه كان يكلف يومها حياة الناس. وجيوردانو برونو دفع حياته على النار ذات الوقود لمفهوم من هذا النوع، ولكننا نعلم في الوقت نفسه، صعوبة كشف حقيقة الواقع. وهذا يفرض علينا أن نتعمق في فهم هذه الظاهرة، وأن العودة إلى النصوص لم تكن لتحل إشكالية هذه الظاهرة، ولو اقتصر الناس على فهم هذه الحقيقة من الكلام أو اللغة أو من النص لاستمر القتال، ولأمكن أن نؤول النصوص، لأن النص قابل للتأويل. وقصة حركة الشمس ليست الوحيدة، ومنها مثلا قصة خلق الإنسان هل خلق دفعة واحدة، كما جاء في العهد القديم، أو أنه خلق أطوارا؟

كما نرى فنحن الذين نصنع المعنى، ونحن الذين نصنع العلاقة بين الكلمة والمعنى، مع هذا فإن الذي صنعناه وما زلنا نستمر في صناعته، قد لا يزيد على وهم وخيال. والتصور المفصول عن الواقع يمكن أن يطير ويغوص ويحلق، بينما الواقع لا قدرة له على الطيران، بل هو ملتزم ومقيد بالواقع ويمشي ببطء، ولكن هذا المشي البطيء يقطع مسافة، ولكن الخيال وإن كان يطير إلا أنه لا يقطع مسافة ويبقى في مكانه. وينبغي أن نكثر من تأمل هذه الفكرة أو هذه الأوهام، التي عندنا استعداد أن نموت من أجلها، وأن نميت الآخرين أيضا من أجلها. وفي الحياة يمكن أن تصادفنا مثل هذه الأوهام الصادقة، مثل ظاهرة الشمس ودورانها حولنا، ويمكن أن نشاهد «الأصداق» المتوهمة. بعبارة أخرى يمكن أن تكون لنا القدرة على رؤية جانبين: «الأوهام الصادقة» مثل الشمس والقمر وحركتهما، وكذلك «الأصداق الواهمة». ومجرد إيجاد مثل لهذه المقولة صار صعبا، ونموذج على ذلك استيلاء وهم على الناس بأن الناس مجبرون على طاعة الديكتاتوريين، وعدم قول الحق أمامهم، ظنا منهم أن قول الحق يفضي إلى الهلاك، بينما هذا وهم صادق، مثل وهم ظاهرة الشمس وحركتها، بينما هناك شيء حقيقي، ولكن ينظر إليه أنه وهم، وهو محاولة مواجهة الطغيان بكلمة الحق، وأنها وسيلة القضاء عليه أكثر من قتل الطاغية.

ربما ليست العبارة واضحة تماما، ولكن يمكن إدراكها بقلب العبارة، فكثير من الأشياء الحقيقية نفهمها بشكل خاطئ. وبعبارة ثالثة ظن الكذب صحيحا وظن الصحيح كذبا، وهناك حالة ثالثة هي فهم الصحيح صحيحا وفهم الكذب كذبا.

 

نافذة:

التصور المفصول عن الواقع يمكن أن يطير ويغوص ويحلق بينما الواقع لا قدرة له على الطيران بل هو ملتزم ومقيد بالواقع ويمشي ببطء

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى