
سعيد الباز
تداول مرتادو «الفايسبوك» منذ زمن غير قصير العديد من الفتاوى الغريبة والشاذة يصدرها بعض ممن يسمى بالدعاة والشيوخ، أضيف إليها البعض ممن انخرط دون وازع فكري أو معرفي إلى تسفيه النظريات والكشوفات العلمية أو ممارسة النقد الأدبي من زاوية متخلفة، كنا نعتقد واهمين أنها من مخلفات النقد الأدبي التى عفا عنها الدهر. هذه الخرجات الإعلامية التي تصادف أحيانا التعليق الساخر وخلق الفرجة، وفي أحيان أخرى نوعا من الاهتمام المستبطن. لكنها في النهاية تبرز ما آل إليه وضع البلدان العربية والإسلامية من تصدر المشهد الإعلامي في المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية لأشخاص يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة أو شيوخ، يفتون في أمور قد لا تخطر على بال إنسان يمتلك ذرة من العقل، وفضلا عن غرابة هذه الفتاوى ولا عقلانيتها أحيانا، فإنها تلقى رواجا منقطع النظير مما يدعو إلى التساؤل، هل نحن في دورة جديدة من دورات الانحطاط الفكري والعقلي لمجتمعاتنا العربية الإسلامية؟
لكننا بالرجوع قليلا إلى الوراء سنلاحظ بشكل غريب أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة تماما، فقديما شهدت البلاد العربية موجة مماثلة لما نراه الآن، حيث ظهرت فتاوى بسبب غزو الكثير من المنتجات الجديدة القادمة من أوربا لأسواقنا. وهكذا حرم بعض فقهاء المغرب شرب القهوة والشاي، ثم تناول التبغ أو الدخان على فترات زمنية، ما لبثت العادة الاجتماعية أن تغلبت على كل هذه الممنوعات. وفي المشرق تم المنع والإباحة بحسب مزاج الحكام أو استغلالهم ذلك في مصلحة سياسية ظرفية، وأنزلت العقوبات على شاربي هذه الأصنفة من المشروبات بلغت حدا من التعنيف، نكاد لا نفهمه بمنطق عصرنا. ومن بين أغرب قضايا التحريم التي تثير الضحك اليوم، تحريم الأزهر الوضوء من الصنابير، لعلل واهية، ولم يتم إزالة هذا التحريم إلا باجتهاد من فقهاء الحنفية، لذلك ما زال المصريون يسمون الصنبور بالحنفية. إن تاريخ المحظورات في تاريخنا يبرز لك حقيقة أساسية، هي أن بعض الأوصياء على معتقدات الناس الخاصة يرغبون في إحكام سيطرتهم وتعزيز سلطتهم بتوجيه السلوك الاجتماعي وفق نموذج غير قابل للتحقيق على أرض الواقع، إلا بالإكراه أو بمصادرة العقل. إن الجانب الساخر في هذا الموضوع قد لا يخفي هذه الرغبة الجامحة في احتكار المجال العام، والتسلط على السلوك الإنساني وفق تصور يتنافى ومعطيات الواقع وإكراهاته، قد يصل في بعض الأحيان إلى درجة الفضيحة التي تتداولها كبرى وسائل الإعلام كما هو الشأن مع الداعية الذي أفتى، هذه سنوات قد مضت، بإهدار دم الفأر «ميكي ماوس»، بطل السلسلة الشهيرة للرسوم المتحركة، حيث سارعت القنوات الأمريكية إلى بث هذا الخبر في ساعات الذروة، ما أسهم في إضحاك الأمريكيين أكثر مما أضحكهم الفأر «ميكي ماوس». أما علة التحريم لديه فهي أن «ميكي ماوس» و«توم» و«جيري» حيوانات نجسة ومكروهة لا يجوز مشاهدتها، وقد فاته أن يحرم في الوقت نفسه كتاب «كليلة ودمنة» ومعها كل الأحاجي التي ترويها الجدات للأطفال. في حالة أخرى يقرر مفت آخر عند سؤال عن حقيقة الديناصورات، برفض الإجابة عن وجود الديناصورات من عدمه، بدعوى أن الجهل بوجودها من الأمور التي لا ضرر منها، وغاب عنه أن الإنسانية لو حكّمت منطقه الفاسد لما وصلت إلى هذا التقدم العلمي الذي ينعم بخيراته و يمكنه من التصريح بهذه الترهات. أما آخر المضحكات المبكيات أن يؤلف كاتب من هؤلاء كتابا من هذا النوع، سماه «الفايسبوك» آدابه وأحكامه… لتستمر هذه الجوقة في الخرجات الإعلامية التي وإن كانت تخلق جوا من فرجة سريعة الزوال يتبادلها رواد وسائط التواصل الاجتماعي، فإنها تخفي بداخلها أزمة فكرية عميقة فهي على حد قول المتنبي «ضحك كالبكاء».




