قوانين لتراكم الثروات وتفاقم التفاوتات وتكرار الأزمات
كتاب «قانون الرأسمال.. القانون في خدمة الثروة واللامساواة» لكاتارينا بيستور

إن قدرة الرأسماليين على إثراء أنفسهم والإضرار بالصالح العام مبنية على «القانون»، لأن امتلاك الأرض أو الورشة، أو الفكرة وما إلى ذلك، في حد ذاته، لا يُوفر سوى أداة، ولا تُصبح هذه الأداة مصدرًا مستدامًا للثروة والسلطة إلا بفضل الحقوق والحماية التي يمنحها إياها قانونها. بلغة مفهومة للجميع، تشرح كاتارينا بيستور عملية تكوين رأس المال. وتروي قصة تكيف القانون لترسيخ القانون الرأسمالي للأرض، والأعمال التجارية، والمعرفة، والديون والطبيعة. وتكشف عن دور «أسياد القانون الخاصين» (هؤلاء المحامون والمصرفيون الذين يطورون القانون العام بفعالية من خلال اختراع العقود والصكوك التي يُصادق عليها القانون). هذا القانون، الذي صممه فاعلون أثرياء من القطاع الخاص ولصالحهم، يؤدي إلى تراكم الثروة، وتفاقم التفاوت وتكرار الأزمات. ولكن، بما أن القانون هو الذي يعطي القوة للرأسمال، فإن المؤلفة استطاعت أن تحدد كيفية تصميم قانون بديل من شأنه أن يضع قانون الأعمال والأسواق والتمويل مرة أخرى في خدمة المصلحة العامة.
كل شيء «قانوني»
تُعدّ مساهمة كاتارينا بيستور في النقاش حول دور القانون في هيكلة الرأسمالية مساهمةً حاسمة. فهي تستكشف مسارًا وسطيًا بين الماركسيين (الذين لا يمثل القانون بالنسبة لهم سوى انعكاس للعلاقات الطبقية) والكلاسيكيين الجدد (الذين يمثل القانون بالنسبة لهم تقنيةً بحتة)، في أعقاب التحليلات المؤسسية التي طورها – من بين آخرين – كارل بولاني. ونستشعر في صفحات هذا الكتاب الأهمية الإرشادية لاستعارة الكود (الحاسوبي) للتعبير عن العلاقة المعقدة بين القانون ورأس المال، منذ بداية العصر الحديث: فهي تتيح لنا إظهار أن هذين الواقعين، بعيدًا عن كونهما خارجيين عن بعضهما البعض، يشكلان بعضهما البعض. بعبارة أخرى، القانون هو اللغة التي يجد من خلالها رأس المال وسائل التعبير عن نفسه والحفاظ عليه. وتُصرّ بيستور على أنه، على مدى القرون القليلة الماضية، مكّن تطوير وحدات قانونية جديدة من إنشاء أصول جديدة (مثل الأراضي والأصول المالية والملكية الفكرية والكائنات الحية) ودفع حدود التراكم إلى الوراء. لعب المحامون دورًا محوريًا في هذه العمليات: إذ استغلوا ثغرات القانون لصالح موكليهم، ما مكّنهم من صعود قوى خاصة (شركات متعددة الجنسيات، بنوك، مستثمرون)، والتي سيطرت بشكل حاسم على الدول القومية في غضون بضعة عقود. ومهما قيل، يبدو أن تشخيص الماركسيين تأكد في نهاية المطاف: ففي بداية القرن الحادي والعشرين، استولى الأقوياء على مساحات شاسعة من القانون، وبالتالي تبدو قدرته على إرساء مبادئ الديمقراطية ضعيفة.
إن تشكيل الأصول المختلفة من خلال اللغة القانونية – «الرمز» – هو جوهر كتاب كاثرينا بيستور. وعلى الرغم من الإشارة الضمنية للمصطلح إلى الأعمال القانونية الكثيفة، فإن قوة الكتاب تكمن في عرضه للقراء ليس للنصوص، ولكن لتقنيات الترميز التي يستخدمها المحامون. تعتمد المؤلفة على مجموعة واسعة من التخصصات، ولا يمكن اختزال عملها في كتاب كتبه المحامون ولصالحهم وحدهم. والحجة الرئيسية، التي تتكشف عبر الفصول التسعة، هي أن الرمز يمكن أن يحول الأصول العادية إلى رأس مال. تركز الفصول الأربعة التي تلي الفصل الذي يقدم الموضوع على أصل معين وتحويله، عبر الرمز، إلى رأس مال: الأرض (الفصل 2)، والكيانات القانونية (الفصل 3)، والديون (الفصل 4)، وتسلسلات الحمض النووي (الفصل 5). تقدم الفصول الثلاثة التالية كل منها بُعدًا قادرًا على إلقاء الضوء على نشر هذه التقنيات: يسأل الفصل 6 كيف يتطور الرمز في عالم معولم.
يتناول الفصل السابع توترًا جديدًا بين الترميز القانوني وظهور الوسطاء الماليين الرقميين، وسلاسل الكتل والعملات المشفرة؛ وأخيرًا، يركز الفصل الثامن على ظهور المحامين في بلدان مختلفة – «أسياد» الترميز. ويختتم الكتاب بفصل ختامي يقترح سبلًا لمواجهة استخدام تقنيات الترميز التي تُديم أوجه عدم المساواة. وحرص المؤلَّف على جعل هذه اللغة شديدة التعقيد في متناول عامة الجمهور من خلال اقتراحه، في كل فصل، متابعة نزاع، مثل النزاع بين المايا وحكومة بليز، أو قصة شركة، مثل «ميرياد»، التي أسسها طبيب عام 1991 بتمويل من مجموعة رأس مال استثماري، والتي حصلت على براءة اختراع للجين المسؤول عن بعض أنواع سرطان الثدي.
تتمثل أطروحة الكتاب في أن القانون أساسي في إدامة عدم المساواة لأنه يسمح بتحويل الأصول إلى رأس مال من خلال منحها، من بين أمور أخرى، طول العمر وقابلية التحويل. ففي القرن التاسع عشر في المملكة المتحدة، أحيا فقهاء القانون المطلعون مبدأً من العصور الوسطى – مبدأ «الاستلزام» – وهو درع قانوني يحمي المالكين من دائنيهم (الفصل الثاني).
تُظهر كاترينا بيستور في الفصول الأولى أن سمات القانون، على الرغم من تطبيقها على أصول مختلفة وإعادة ابتكارها في المكان والزمان، تميل إلى التكرار. على سبيل المثال، يروي الفصل الثالث كيف أن إمكانية امتلاك أصول في عدة شركات وإنشاء مسؤولية محدودة للمساهمين حوّلا الغلاف القانوني للشركة إلى «آلة لإنتاج رأس المال» (ص 79) استنادًا إلى تقنيات ترميز مماثلة لتلك المعروضة في الفصل الثاني (مبدأ «الاستلزام» أو «الثقة»). ويركز المؤلف على لحظات الأزمة، التي تُفقد فيها بعض السلع مصداقيتها لصالح أخرى. ويوضح الكتاب كيف أدى الكساد الكبير عام 1870 إلى إلغاء تداول الأراضي من خلال إنهاء امتيازات ملاك الأراضي الإنجليز واستعادة سلطة الدائنين، ما أدى، في هذه العملية، إلى إعادة توزيع غير مسبوقة للأراضي. ويسلط الكتاب الضوء في الفصل الرابع على سلسلة المنتجات المثيرة للإعجاب التي أدت إلى تحويل الديون إلى نقود وأدت إلى انهيار التمويل العالمي في عام 2008؛ كما يسلط الضوء في الفصل الثامن على المنافسة بين الترميز القانوني وظهور رمز رقمي جديد.
اللامساواة الاقتصادية
تحتل عدم المساواة الاقتصادية قمة جدول الأعمال السياسي في العديد من البلدان، تقول كاترينا بيستور، بما في ذلك ممثلي السوق الحرة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. تُساهم هذه القضية في تعبئة اليسار وخلق مشاكل في اليمين، حيث يُنظر إلى الثروة منذ فترة طويلة على أنها تستحق الاحتفال، عوضا عن المطالبة بتبريرها.
لكن تركيزات الثروة اليوم تتطلب تبريرا. في عام 2018، سجلت مجلة «فوربس» الأمريكية ثلاثة مليارديرات من بين أقوى عشرة أشخاص في العالم. إلى جانب رؤساء الدول مثل الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، نجد أيضا مؤسس الأمازون جيف بيزوس، ومؤسس شركة مايكروسوفت بيل جيتس، ومؤسس جوجل المشارك لاري بيج. الثلاثة مدينون بقوتهم ليس للمركز العام أو للنفوذ الروحي بل للثروة الخاصة.
باعتبارهما مرشحين في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية للرئاسة الأمريكية لعام 2020، وعد السناتور بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت والسيناتور إليزابيث وارن من ولاية ماساتشوستس بفرض ضرائب جديدة على الأثرياء. أثار اقتراح ضريبة الثروة من وارن غضب المليارديرات – فرض ضريبة بنسبة 2 في المائة على كل دولار بقيمة صافية تزيد على 50 مليون دولار، وتصل إلى 6 في المائة للثروات التي تزيد على مليار دولار. جيتس دفع ضرائب أكثر من أي شخص تقريبا – حوالي 10 مليارات دولار. وعلى الرغم من أنه لا يُمانع مضاعفة هذا الرقم إلى 20 مليار دولار، إلا أنه يعتقد أن فرض ضريبة أعلى بكثير سيهدد نظام الحوافز الذي دفعه (وغيره) إلى الاستثمار في المقام الأول.
من جانبه، يُجادل مايكل بلومبرج، مؤسس إمبراطورية بلومبرج الإخبارية، وعمدة مدينة نيويورك سابقا، ومرشح في الانتخابات الرئاسية الديمقراطية، بأن ضريبة الثروة قد تكون غير دستورية، وأنها ستُحول الولايات المتحدة إلى أمثال فنزويلا. وحتى لا يكون مُبالغا، أكد مؤسس فيسبوك والمدير التنفيذي مارك زوكربيرج أن فرض ضرائب على ثروات المليارديرات سيؤدي إلى نتائج أسوأ من تركها في مكانها، ما يعني أن الأثرياء يعرفون أفضل من ممثلي الشعب المُنتخبين كيف ينبغي إنفاق إيرادات الضرائب.
تحمل كل ردود الأفعال الشعور نفسه بالاستحقاق. يُقال أن مليارات كل رجل تنتمي إليه؛ لقد كسب المال بمفرده وبالتالي عليه أن يقرر كيفية إنفاقه، سواء كان ذلك على المشاريع الخيرية أو الضرائب أو لا شيء. يخبرنا المليارديرات أنهم على استعداد لدفع حصة عادلة من الضرائب، لكن هناك عتبة غير محددة حيث سيتم توجيه الحوافز للابتكار والاستثمار في الاتجاه المعاكس. في تلك المرحلة، على ما يبدو، سيقوم الأثرياء المتطرفون بالإضراب، ما يجعل البقية منا في وضع أسوأ.
لكن هذا المنظور يتجاهل حقيقة أن الثروة المتراكمة هي نتاج القانون إلى حد كبير، وهذا يعني ضمناً الدولة والأشخاص الذين يشكلونها. ويوضح الخبير الاقتصادي توماس بيكيتي، في كتابه لعام 2014 تحت عنوان «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، يمتلك الأغنياء اليوم معظم ثروتهم في الأصول المالية، التي تعد ببساطة وعوداً محمية قانونيا لتلقي التدفقات النقدية المستقبلية. إذا تم إلغاء الإنفاذ القانوني، لن يبقى سوى الأمل، ولا رصيد آمن.
علاوة على ذلك، تقول بيستور، فإن الإمبراطوريات الخاصة التي يرأسها المليارديرات اليوم يتم تنظيمها كشركات مستأجرة قانونيا، ما يجعلها شركات من صنع القانون، وليس الطبيعة. يحمي نموذج الشركات الثروة الشخصية للمؤسسين وغيرهم من المساهمين من دائني الشركة. كما أنه يُسهل تنويع المخاطر داخل الشركات، عن طريق السماح بإنشاء مجموعات منفصلة من الأصول، ولكل منها مجموعة خاصة بها من الدائنين الذين مُنعوا من تقديم مطالبات على مجموعة أصول أخرى، على الرغم من أن إدارة الشركة الأم تتحكم في كل منها.
أسماء الشركات.. عملة نقدية
علاوة على ذلك، يمكن استخدام أسهم الشركة كعملة عند شراء شركات أخرى. عندما قامت شركة فيسبوك بشراء شركة واتساب، قامت بتغطية 12 مليار دولار من سعر الشراء البالغ 16 مليار دولار باستخدام أسهمها الخاصة، مع دفع 4 مليارات دولار نقدًا فقط. وكما هو الحال مع الفيسبوك، يمكن استخدام قانون الشركات لتدعيم الرقابة من قبل المؤسسين والشركات التابعة لهم من خلال هياكل المشاركة الثنائية الطبقات التي تمنحهم أصواتًا أكثر من أي شخص آخر. وبالتالي لا حاجة للخوف من الانتخابات أو عمليات الاستحواذ من أي نوع.
أخيرًا، تميل الشركات، التي تتخذ أصولها شكل الملكية الفكرية (IP) وغيرها من الأصول غير الملموسة، إلى الاعتماد بدرجة أكبر على المساعدة القانونية. اعتبارًا من عام 2018، تم الاحتفاظ بنسبة 84 في المائة من القيمة السوقية لمؤشر ستاندرد آند بورز S&P 500في هذه الأصول غير الملموسة. يتطلب الأمر تدخلًا قانونيًا لتحويل الأفكار والمهارات والدراية – والتي تمكن مشاركتها مجانًا من قِبل أي شخص – إلى حقوق ملكية حصرية يتم فرضها من خلال القوة الكاملة للدولة.
وفي السنوات الأخيرة، عززت شركة ميكروسوفت وشركات التكنولوجيا الأمريكية الأخرى قوتها المكتسبة بشكل كبير من خلال الترويج لقواعد الملكية الفكرية على الطريقة الأمريكية في جميع أنحاء العالم من خلال هيئة منظمة التجارة العالمية لجوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة (TRIPS).
من المؤكد أن هناك أسبابا وجيهة لتبني الولايات قوانين تمكن الوكلاء الخاصين من جني فوائد تنظيم الأعمال وتطوير منتجات وخدمات جديدة. لكن دعنا نسمي الأشياء بأسمائها. في حين أن بيزوس وبلومبرج وجيتس وزوكربيرج قد يكونوا رجال أعمال بارعين، إلا أنهم استفادوا أيضًا، وعلى نطاق واسع، من مساعدة الهيئات التشريعية والمحاكم في جميع أنحاء العالم. هذه المساعدة مشروطة أكثر من المساعدة غير المرئية التي خلدها آدم سميث، لأن فعاليتها تعتمد على إيمان مشترك على نطاق واسع بسيادة القانون. يشكل تآكل هذا الاعتقاد، وليس الضريبة، أكبر تهديد لثروات المليارديرات.





