
من يعرف الدكتورة نبيلة الرميلي عمدة الدار البيضاء الجديدة عن قرب يعرف أنها امرأة خدومة ولديها حس المسؤولية وقدرة كبيرة على العمل، وقد أثبتت من خلال تدبيرها للجائحة في أوج استفحالها بجهة الدار البيضاء الكبرى قدرتها على العمل تحت الضغط، لذلك فما ينتظرها في مسؤولياتها الجديدة ليس سهلا على الإطلاق، بل إنها ستكون مطالبة بأن تواجه حيتانا كبيرة وأصحاب مصالح وفسادا تراكم عبر تعاقب العمداء ومجالس المدينة.
مشكلة الدار البيضاء كانت دائما في أولئك المسؤولين الذين يغلقون على أنفسهم داخل أبراجهم العاجية ويخططون لصرف ميزانيات بمليارات الدراهم، بعيدا عن الواقع وعن انتظارات المواطنين الأساسية.
الدار البيضاء ليست مجرد مدينة، إنها القلب النابض للمغرب. وعندما تتصلب شرايين هذا القلب الذي يضخ الحياة نحو باقي مفاصل البلاد، يصاب بما يشبه الذبحة الصدرية ويختنق ويصبح غير قادر على ضخ الدماء الضرورية التي يحتاجها الجسم.
ارتبطت الدار البيضاء منذ الاستقلال باسم محمد الخامس الذي كان أول ما قام به هو زيارة أقدم وأكبر حي صفيحي في العالم اسمه كاريان سانطرال، رمز انطلاق شرارة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. وارتبطت بالحسن الثاني على عهد تقسيمها إلى عمالات، وارتبطت بالملك محمد السادس الذي كان أول من بدأ فيها تطبيق المفهوم الجديد للسلطة سنة 1999.
انتفضت الدار البيضاء في 1981 عندما رفعت الحكومة من أسعار الخبز، وعندما سقط القتلى بالعشرات في هذه الانتفاضة سماهم إدريس البصري “شهداء الكوميرا”، على سبيل السخرية.
وفي سنة 1990 انتفضت الدار البيضاء بمناسبة الإضراب العام الذي دعت إليه النقابات، فاتخذ الراحل الحسن الثاني قراره بتقسيم المدينة الأخطبوطية إلى خمس عمالات، وأمسك وزير الداخلية القوي إدريس البصري بمداخل ومخارج المدينة مراعيا في هندسة الأحياء الجديدة المقاربة الأمنية، وهي المقاربة التي لازالت سارية المفعول إلى اليوم، فالدار البيضاء هي المدينة الوحيدة التي تتبع فيها الوكالة الحضرية للداخلية عوض وزارة الإسكان.
نفس المنطق الأمني للداخلية الذي عوملت به الدار البيضاء تم التعامل به مع مدينة المحمدية التي تدخل في مجال الدار البيضاء الكبرى، وبسبب تاريخ المحمدية الاتحادي وكونها كانت قلعة اتحادية فقد جردها البصري من ممتلكاتها فأصبح المجلس البلدي مسؤولا عن مدينة منزوعة الهوامش بعدما تم قضم مناطق شاسعة منها لصالح عمالات ومدن أخرى.
وهكذا، وبسبب كل الهزات العنيفة التي عرفتها الطبقات الاجتماعية، أصبح التعاطي على المستوى المركزي مع الدار البيضاء مبنيا على الحذر والريبة والتوجس، فهذه المدينة الغول المصابة بالأرق تتعهد بالرعاية في حضنها مادتين شديدتي الخطورة، النقابات والطبقات العمالية المسحوقة من جهة، ومن جهة أخرى طبقة رجال الأعمال والبورجوازية بنوعيها الوطنية التي يتوارث أبناؤها مشعل الاستثمار وخلق فرص الشغل، والمتعفنة التي يخرج أبناؤها في ساعات الفراغ لكي يسحقوا المواطنين في الطرقات بسياراتهم الفارهة.
وقد وصلت الهوة في السنوات الأخيرة بين هاتين الطبقتين اتساعا فادحا أصبح ينذر بالخطر.
وتحولت المدينة إلى مختبر لتجريب وصفات مختلف انتهازيي المضاربات العقارية وأضحت مخبأ لكبار اللصوص والمجرمين المبحوث عنهم عالميا، وملجأ للقراصنة المتخصصين في التربص بأملاك الأجانب المنسية.
ولعل قلة قليلة من قدماء أعضاء مجلس الدار البيضاء، أيام كان يسمى “المجموعة الحضرية” يعرفون أن “المجموعة” وقعت اتفاقية توأمة مع دبي في الثمانينات عندما كانت دبي لا يعرفها أحد. وكان الإماراتيون يأتون إلى الدار البيضاء طامعين في التعلم منها كيفية تدبير أمور مدينتهم، فمرت السنوات وها هو العالم يرى كيف تحولت دبي إلى عاصمة عالمية فيما الدار البيضاء ما زالت تتعثر في أزبالها وثيابها المصطنعة التي تبدو أكبر من مقاسها.
ومثلما لا أحد تقريبا يعلم بوجود هذه الاتفاقية فهناك كثيرون أيضا لا يعلمون أن الدار البيضاء وقعت اتفاقية توأمة مع شيكاغو الأمريكية أيام العمدة ساجد. ولعل الشيء الوحيد الذي استفادت منه الدار البيضاء من وراء اتفاقية توأمة مع ولاية أمريكية هو تنخيل، من النخل وليس النخال، الكورنيش كما في كاليفورنيا، وهو النخل الذي مات معظمه بسبب عدم تأقلمه مع الرطوبة الصاعدة من المحيط.
ولعل أول جهاز يجب أن يتحرك لكي يعيد لدافعي الضرائب بالدار البيضاء الثقة في مؤسسات مدينتهم المنتخبة هو المجلس الجهوي للحسابات الذي يجب عليه أن يزور المجالس المنتخبة ويراجع حساباتها وطرق صرف ميزانياتها. ثم هناك المديرية الجهوية للضرائب التي يجب أن تبحث في ثروات بعض أعضاء المجالس ورؤسائها لكي تدقق في مصادرها وهل هي متحصل عليها قبل توليهم المسؤولية أم أثناءها.
وصدق ملك البلاد عندما قال إن تحويل الدار البيضاء إلى قطب مالي دولي لا يتحقق بمجرد إنشاء بنايات ضخمة وفق أرقى التصاميم، بل بتوفير البنيات التحتية والخدماتية، إذ من سيأتي إلى الدار البيضاء من الخارج لكي يستثمر أمواله ويفتح فروعا لشركاته العالمية في مدينة يستحيل أن تسير في شوارعها دون أن “تعكل” رجلك في حفرة.
إن الحل بالنسبة لمدينة مصابة بالسمنة وتضخم القلب وتصلب الشرايين كالدار البيضاء ليس في ارتفاع علو بنيانها في المارينا أو في الهندسة المستقبلية لبنوكها وشركاتها في المركز المالي، وإنما الحل الحقيقي يوجد في مدى تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاهية والأمن بالنسبة لكل سكان الدار البيضاء، سواء كانوا في حي كاليفورنيا أو في سيدي بوسمارة أو حي مولاي رشيد أو السالمية.
لقد نجحت، طيلة سنوات، السياسات المحلية للمجالس المنتخبة والشركات الأجنبية المتوحشة، بتواطؤ مع السلطات الوصية، في تطويق الدار البيضاء بأحزمة ناسفة مصنوعة من محاليل البؤس والفقر والتجاهل والاحتقار. ولقد آن الأوان لفك هذه الأحزمة عن خاصرة الدار البيضاء، بحكمة وذكاء وصبر. لأن ترك هذه الأحزمة تزداد يعني وضع قلب البلد رهن قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.
كيف السبيل إلى ذلك؟
أول خطوة هي فك التعمير عن سلطة الداخلية، ثم محاسبة مدراء شركات التنمية على تسييرهم وتصرفهم في ميزانيات تقدر بحوالي 40 مليار درهم، وهو ما يوازي ميزانية 10 وزارات لمدة 5 سنوات.

