
قرأت في عين لاعب دولي سابق، وهو يحدثني عن لائحة المبشرين بالمونديال، رغبة في حضور الحدث الكوني. تمنى لو ركب الطائرة رفقة ما تبقى من جيله، لينعم برؤية منتخب حمل قميصه وبلله بالدم والعرق.
لم يبق على قيد الحياة من تشكيلة أول منتخب مغربي بعد الاستقلال سوى ثلاثة لاعبين، وهم إبراهيم ولد ما والحسين الزاز، ثم عمار بن سيف الدين، تجاوزوا أطال الله عمرهم سقف الثمانين، لكن حاسة الكرة عندهم ما زالت نشيطة، بالرغم من الداء والدواء.
مات رفاق دربهم ولم يبق لهم سوى صور هي ملاذهم كلما داهمهم الجحود، وانتصبت في وجوههم الحواجز حين يقتربون من ملاعب الكرة. أما الصحافيون فلا يتذكرونهم، إلا حين يقتنعون بأن «البالي لا تفرط فيه».
يحلم هؤلاء الصامدون ضد عوادي الزمن بالجلوس يوما في المنصة الشرفية، ويمنون النفس بتصفيقات تشنف مسامعهم من المشجعين، حين يلفت نظرهم مذيع الملعب لضيوف من فصيلة الحفريات.
ماذا تبقى من أول منتخب مغربي شارك في نهائيات كأس العالم لكرة القدم في المكسيك سنة 1970؟
توفي أغلب اللاعبين والمدربين والمسيرين، لكل منهم قصة رحيل بين المرض والجلطة والنكد. أما الباقون على قيد الحياة فيذرفون دموع الأسى على الراحلين، ويجعلون من أقراص الدواء وجبة يومية لمكافحة زحف الشيخوخة.
مات إدريس باموس، عميد المنتخب الذي شارك في أول مونديال حظينا بشرف حضوره. مات حراس المرمى الثلاثة، علال والهزاز وعبد القادر. مات العمراني والخياطي وبيتشو، واختار الهداف حمان، مسجل أول هدف للمنتخب في المونديال، الموت في بوسطن وحجز لنفسه قبرا في أمريكا.
لا أحد يسأل اليوم عن الفيلالي الذي اختلت موازين قواه، ولا مولاي إدريس الذي يعيش بعيدا عن الأضواء، ولا بوجمعة والمعروفي وغاندي والغزواني والعلوي وفرس وعزوز، الذين يخوضون مباريات سد ضد خصمين شرسين: المرض والجحود.
يتأبط الغزواني ملفا طبيا محشوا بملتمسات لمن يهمه الأمر، فقد اللاعب الهداف حاسة السمع، وحين تسأله عن أحواله يبدو سعيدا بقدره، ويحمد الله ويشكره كلما انقطع البث ولم يعد يسمع ما يغضبه.
لاعبو المنتخب الوطني اليوم يركبون أفخم السيارات، يقطنون أبهى الفيلات، يتقاضون في شهر واحد ما يتقاضاه خمسة وزراء وكاتب دولة، يملكون مستشهرا لألبستهم، وراعيا رسميا لوجباتهم، وداعما لأسفارهم السياحية، ومدير ديوان برتبة وكيل أعمال وأفعال، وحين ينتابهم المرض يتداعى لهم سائر المشجعين بالسهر والحمى.
لاعبو منتخب زمان من طينة الأشخاص الذين يتوفاهم الله مرة واحدة في العمر، لكنهم يموتون مرات عديدة في اليوم الواحد، أما اللاعبون الذين لم ينعموا بالصفة الدولية، فحدث ولا «هرج»، منهم من مات في قبو، ومنهم من اشترى كفنا باكتتاب وحجز قبرا وفقيها وكتب وصية إلى زملائه، احذروا نزلة البرد رغم أنها ليست أشد ألما من نزلة من المجد.
في مقهى شعبي انشغل فيه الناس بمتابعة الدوريات الأوروبية، كشف لي لاعب دولي سابق عن ملتمس استعطاف، كل الحروف المستلقية على سطور ورقة دفتر تمارين، تنطق برغبة السفر إلى المونديال، أملا في تكريم جماعي لما تبقى من لاعبي أول منتخب مثل الوطن في كأس العالم سنة 1970، كل الكلمات تقطر عرقا وخجلا وهي تناشد القائمين على الكرة، وتدعوهم لتكريم أحياء ينوبون عن الأموات.
كم ستكلف رحلة رد الاعتبار إلى الدوحة؟ كم سنكسب من وراء هذه المبادرة، التي تخاطب مشاعر لاعبين فقدوا الثقة في الكرة؟ ففي زمن الحماية الاجتماعية تحتاج الذاكرة الرياضية إلى مبادرات تمسح طبقات الغبار التي علقت بها.
رحلة الرعيل الأول إلى مونديال قطر ليست صدقة جارية، بل لمسة إنسانية وسفر إلى مغارة التاريخ لمن استطاع إليه سبيلا.




