من بطل في سباقات العدو الريفي إلى حكم ومدير لقطاع التحكيم ومحاضر دولي لـ «فيفا»
قضاة الملاعب يحيى حدقة (مدير مديرية التحكيم)

حسن البصري
عداء المسافات الطويلة يحمل ألوان الرجاء
في حياة يحيى حدقة العديد من المفارقات العجيبة، فالطفل الذي كان يداعب الكرة في أحياء أكادير ويتابع مباريات فرق الأحياء في الباطوار وتاربورجت، سيصبح عداء يمثل سوس في المحافل الوطنية والعالمية، والفتى الذي تابع دراسته في العلوم الرياضية وتألق في المسار العلمي لم يصبح مهندسا واختار أن يلبي هاجس الرياضة الذي يسكنه فيصبح مدرسا للتربية البدنية في مسقط الرأس والقلب، والعداء الذي وقف في منصات التتويج وسيطر على مضمار سوس، سيغير وجهته صوب ملاعب الكرة ليصبح حكما بل مديرا للقطاع التحكيمي في المغرب ومحاضرا دوليا لدى «فيفا».
بالرغم هذه المفارقات الغريبة، فقد ظلت النجومية تطارده، كان نجما في دراسته وحقق نتائج أبهرت مدرسيه الذين يجمعون على أن يحيى كان تلميذا نجيبا يتميز عن أقرانه بالذكاء الحاد، وله قدرة فائقة على الجمع بين الرياضة والتحصيل العلمي.
تألق الفتى بشكل مذهل في مسابقات الألعاب المدرسية، وحقق نتائج مكنته من تمثيل سوس في التظاهرات الخارجية، قبل أن يمارس العدو الريفي جاذبيته على الفتى ويحوله إلى بطل واعد.
يقول يحيى في نوسطالجيا مع الكاتب عبد اللطيف العمراني: «كنت أمارس العدو في إطار مدرسة تابعة للشبيبة والرياضة بأكادير، والتي كان يؤطرها كل من المرحوم الشريف واليزال والسيدة بوتوميت، وكنت أشارك حينذاك في سباقات العدو الريفي المدرسي. وشاءت الأقدار أن يأتي إلى أكادير بوشعيب الزهوري، والذي كان بطلا للمغرب في العدو الريفي، والسباقات الطويلة ونصف الطويلة. والانطلاقة كانت مع هذا البطل، حيث انتقلت إلى الرجاء البيضاوي، فرع ألعاب القوى، ومنها إلى الفريق الوطني، لأحتل الرتبة السادسة في بطولة سباق الأمم ببلاد الغال، فئة الشبان. ولأنه لم يكن بإمكاني التوفيق بين الدراسة والعدو، نظرا بالأساس لقلة الإمكانيات، قررت أن أركز على الدراسة».
حمل يحيى قميص الرجاء البيضاوي فرع ألعاب القوى وتمرن في ملعب الحديقة العربية وملعب ليديال، وأصبح الفتى السوسي عنصرا أساسيا في الفريق البيضاوي، بل إنه كان سيد المسافات الطويلة والمتوسطة لطول نفسه، ولازالت حلبة السويسي شاهدة على تألقه حيث حصل على بطولة المغرب للعدو الريفي فئة الشبان دون عناء يذكر.
بطل العدو الريفي يدخل عالم التحكيم
في مطلع السبعينات ستبدأ أولى علاقات العشق بين يحيى والصفارة، حين أصبح مفتونا بأداء الحكام في ملاعب الكرة، وكأنه متيم بسلطاتهم التقديرية التي تجعلهم قضاة يفصلون بين فريقين، لم تكن مدينة أكادير تتوفر حينها على مدرسة للتحكيم، ولكن حدقة ظل يتردد على مقر الاجتماعات فيحقن بلقاح التحكيم ويزيد هوسه بالبذلة السوداء، حيث اختار الانضمام لفيلق الحكام وبات أكثر قربا منهم أملا في الانتقال من مضامير الركض إلى الركض خلف الكرة، قوبل القرار باعتراض مجتمع ألعاب القوى الذي اعتبر القرار خسارة لأم الألعاب، بينما عاتبه زملاؤه لاختياره مهمة لا يسلم صاحبها من اللوم والعتاب، لكن يحيى بعناده المألوف أصر على خوض التجربة مهما كانت النتائج، قبل أن يجد الحل الثالث ويجمع بين مسابقات الجري وقضاء الملاعب، لذلك ساهمت ألعاب القوى في بناء شخصية الحكم لدى يحيى وتمكينه من لياقة بدنية عالية ساعدته في اجتياز الاختبارات البدنية دون عناء يذكر.
لعب الحكم الفيدرالي محمد جيد دورا كبيرا في استقطاب يحيى، فقد أعجب بعصاميته ورغبته في دخول غمار مهنة محفوفة بالاحتقان، «كان تكوين الحكام عبارة عن دردشة أسبوعية تتم مساء كل يوم خميس، وغالبا ما كانت تنتهي بتوترات، نظرا لقلة الاهتمام من الجهاز المركزي بحكام منطقة سوس»، يقول يحيى في بوح قديم.
حين أشرف محمد جيد على تكوين الحكام وميلاد مدرسة للتحكيم بعد مخاض عسير، دخل يحيى بقوة عالم التحكيم انطلاقا من حكم مساعد وحكم متجول بين العصب، وقبل أن يشق طريقه ويركب سلاليم التحكيم، حكمت عليه الأقدار بالانتقال إلى مدينة الدار البيضاء حيث دخل مدرسة عليا لتكوين أساتذة التربية البدنية، فاضطر للانتقال من أكادير إلى الدار البيضاء حيث قضى سنة في التكوين البيداغوجي.
ابتداء من سنة 1979، ارتقى حدقة إلى درجة حكم متجول بين العصب، وفي بداية الأمر ظل يحيى مسجلا في لوائح عصبة سوس، يعين في نهاية كل أسبوع لقيادة مباراة من مباريات بطولة القسم الشرفي، ومن أجل هذا الهوس كان يتنقل بين الدار البيضاء وأكادير.
ويستمر يحيى حدقة في التحصيل والدراسة والرياضة أيضا وقد أخذته الرياضة إلى كنفها وهو طالب في شعبة علوم رياضيات ليصبح بعدها أستاذا للتربية البدنية والرياضة بمدينة أكادير، حيث عين أستاذا للتربة البدينة بثانوية رضى السلاوي بأكادير.
في حوار بصحيفة الاتحاد الاشتراكي، قبل عشر سنوات، كشف حدقة عن علاقته بالتحكيم البيضاوي على مستوى عصبة الشاوية، «خلال هذه السنة مارست بالبيضاء ضمن ثلاثي الحكم فتحي والركراكي، وبعد موسم واحد عدت إلى أكادير لأمارس كحكم مساعد (حكم شرط سابقا) ضمن ثلاثي محمد جيد. وتدرجت ضمن عدة وضعيات تحكيمية، بما فيها قيادة المباريات بالتناوب بين مكونات الطاقم، إلى أن تحولت إلى حكم رئيسي ابتداء من سنة 1984، حيث بدأت مشواري بالقسم الوطني الثاني في حدود منطقة الجنوب. وأول مباراة أدرتها بعيدا عن هذه المنطقة كانت سنة 1989، حيث أسندت لي قيادة المباراة التي جمعت نادي التبغ البيضاوي وأولمبيك أسفي بالبيضاء. ويرجع الفضل في تحكيمي لهذه المباراة للحكم لاراش، الذي كان قد جاء في إطار محاضرة الى أكادير ولمس عمق مداخلاتي فدفع بي إلى الجبهة».
بعد أن اجتاز الاختبار الأول بامتياز، صادف حملة التشبيب التي قادها سعيد بن منصور حين كان رئيسا للجنة المركزية للتحكيم، الذي امتلك ما يكفي من الشجاعة ليعين حدقة في مباراة جمعت بين الجيش الملكي والاتحاد البيضاوي بالرباط.
لكن يحيى حدقة بعناده الشديد أصبح واحدا من أسرة التحكيم بعصبة سوس وتمضي الأيام والشهور والسنوات ليغدو واحدا من أحكم الحكام المغاربة وطنيا وقاريا، وهو ما أهله لتحمل مهمات في غاية الأهمية قاريا ودوليا، برغم الحواجز والمطبات وعدم الاعتراف بذات الرجل كخبرة دولية مشهود لها بالكفاءة المهنية في ميدان التحكيم، لكن للأمانة فإن عبوره من درجة إلى أخرى إذ في ظرف عشر سنوات أصبح حكما فيدراليا وهو ما لم يحصل في تجارب كثيرة من الحكام.
رجل التربية والتعليم يصبح مكونا لـ «فيفا»
في سنة 1993 ستتم ترقية يحيى إلى حكم دولي، لكن مساره الدولي لم يكن بنفس الحضور القوي على المستوى المحلي، ولم يساير طموحاته، ومن غرائب الأقدار أن تظل الشارة بدون فائدة ترجى ميدانيا، فلم تتح له الفرصة للتحكيم في نهائيات كأس أمم إفريقيا أو كأس العالم، أو حتى نهائيات فئة الشبان قاريا أو عالميا مثلا. في المقابل أسندت له مهام كبرى حين عين في أكثر من مناسبة لقيادة مباريات «الديربي» البيضاوي وكأس العرش، إذ قاد نهايتين بتقدير جيد.
ولأنه رجل بيداغوجيا بامتياز، فإنه كان يجد ذاته أكثر في الدورات التكوينية، حيث كان يجمع بين التحكيم الميداني وتكوين الحكام في عصبة سوس منذ 1990، خاصة وأنه وجد في رئيس العصبة الحسين راديف كل الدعم والمساندة، بعد أن أقدم الرئيس على ثورة حقيقية في كرة القدم السوسية بإحداث مقر العصبة الجهوية والمركز الطبي وتجهيزه بعتاد حديث وهيكلة إدارته وتوفير الموارد البشرية اللازمة، كما انصبت أولى اهتماماته على التكوين والتأطير لفائدة المدربين والحكام والمندوبين والكتاب العامين، وظل يحيى يساهم في هذا الإقلاع إلى أن داهمه التقاعد من الممارسة الميدانية، حينها سينتقل للإشراف على تكوين حكام الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، لاسيما وأنه جمع بين التجربة والأهلية الفكرية.
في سنة 2001 سيبدأ يحيى مرحلة جديدة في مساره، فقد آمن بأن الاعتزال لا يعني التقاعد، إذ التحقت باللجنة المركزية للتحكيم في نفس السنة، وكان يرأسها آنذاك محمد الشهبي وتضم في عضويتها عدد من الكفاءات كسعيد بلقولة وجمال الكعواشي ومحمد بحار ومحمد باحو وعبد العالي الناصري..
في علاقة يحيى بالصفارة الكثير من المواقف الطريفة والدرامية، وككل الحكام هناك مباريات ظلت عالقة بالأذهان، ومواجهات لم تنته بنهاية وقتها الأصلي بل امتدت زمنيا لسنوات طويلة.
حكاية مباراة الرجاء و بي اس في إيندهوفن الهولندي سنة 1996، برسم دوري دولي أقيم في مركب محمد الخامس بمناسبة ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية، حاضرة بالتأكيد في ذهن هذا الحكم بالرغم من السنوات التي مرت دون أن تضع عليها طبقة سميكة من الغبار.
أصل الحكاية بدأت في ملعب محمد الخامس، حين تعرض حدقة لغضب جماهيري من أنصار الرجاء، بالرغم من الطابع الودي للمباراة ضد الفريق الهولندي الذي وجد في الأمطار التي سبقت المواجهة عاملا مساعدا للاندفاع البدني، لكن الحكم اتهم بدعم اللعب الرجولي للهولنديين، وحين مني الرجاء بهزيمة في مباراة ودية لم يقبل الجمهور الخسارة فصب غضبه على حكم مغربي اتهم بمساندة الفريق الأجنبي.
غادر يحيى ومساعدوه رقعة الملعب وسط عاصفة من الصفير على الرغم من الطابع الودي للمواجهة، بل إن مجموعة من المشجعين المتهورين قرروا مطاردة الحكم ومساعداه خلال رحلة العودة إلى أكادير، وعلى امتداد الطريق كانت سيارة الغاضبين تطارد سيارة الحكام وتسعى لمضايقتها ودفعها إلى الخروج عن مسارها، إلى أن تجاوزت المناوشات حدود الترهيب إلى ما هو أفظع، ولولا الألطاف الربانية لكان الطاقم التحكيمي في عداد المفقودين.
وضع حدقة شكاية ضد المطارد وأدلى للدرك الملكي برقم السيارة المطاردة ونوعها وعدد ركابها، وحين وضع الدرك اليد على المطاردين قرر يحيى عدم المتابعة القضائية، واعتبر ما حصل في الدار البيضاء صيغة أخرى من صيغ العدوان الممارس على الحكام، بل إن حدقة لن ينسى الاعتداءات اللفظية والجسدية التي تعرض لها من طرف جمهور يمسح خسارة فريقه في صفارة الحكم.
حين دخل عالم التأطير الوطني، اهتم يحيى أكثر بتحليل الحالات التحكيمية للبطولة الوطنية وإدراجها لأول مرة في التداريب الوطنية، لتصبح بعد ذلك فقرة أساسية وثابتة في كل برامج تأهيل الحكام. خلال موسم 2008 – 2009 عين مشرفا على أول مديرية للتحكيم، وهي المديرية التي بدأت بتكوينها مع الحكم الدولي السابق محمد الكزاز، لكنه لم يقض في هذا المنصب وقتا طويلا حيث عجز عن التوفيق بين مهمته كمحاضر تحكيمي لـ «فيفا» ومدير لمديرية التحكيم الوطنية.
وعلى الرغم من عتاب بعض أنصار الحسنية ليحيى، خاصة أولئك الذين يعتبرونه ممثلا للنادي السوسي في الجامعة، إلا أن مكونات الثقافة الأمازيغية، كرمته ضمن رجالات السنة الأمازيغية، إلى جانب أحمد عصيد والفاعلة الجمعوية أمينة بن الشيخ، والأستاذ الباحث عبد السلام خلفي، والمترجم الحسين جهادي الباعمراني، ثم الكاتب الروائي موحا سواك، اعترافا بدوره الرياضي والفكري وباعتباره ممثلا لسوس في المنتديات العالمية.
تواريخ هامة في مسار يحيى حدقة
1974 .. دخول عالم التحكيم
1979.. الحصول على درجة حكم متجول بين العصب
1984.. الارتقاء لحكم وطني
1990.. مكون للحكام بعصبة سوس
1993.. الحصول على الشارة الدولية
2001.. اعتزال التحكيم
2008.. مدير المديرية الوطنية للتحكيم
2008.. أستاذ محاضر لدى «فيفا»
2010.. مكون للحكام في مونديال جنوب إفريقيا
2012.. مشرف على الحكام في كأس إفريقيا 2012 بغينيا والغابون
2013.. مدير المديرية الوطنية للتحكيم





