الرأي

أشجار نيويورك

سلوى ياسين

وصلت إلى نيويورك ليلا، حيث العتمة جعلتني أتذكر غابة المخاوف التي أحملها معي منذ القدم. لم يكن في جيبي سوى مائتي درهم مغربية، لم أكن قد تسلمت الجزء الثاني من المنحة. ضحكت في سري: ماذا لو حدث شيء طارئ؟ وكل الدولارات التي جلبتها معي قد نفدت، ولم يتبق لدي سوى بعض «السنتات» التي تثقل كرز النقود. أشعر بأنني على شفا سكين حاد، أشعر بالإفلاس القريب وبروح المغامرة تدب بداخلي. أحب هذا الوقوف على حافة المخاطر، ومن أجل ذلك يجب على المرء أن يسافر بالقليل، أن يكون سفره خاليا من الترف، شيء من الشظف لن يزيد النفس سوى قوة وثقة. صعدت إلى غرفتي في الفندق، كانت في الطابق الرابع عشر. ورغم أنني أعتقد أن الفنادق هي أكثر الأماكن أمنا في العالم، ولا أفهم من أين جاءتني هذه الثقة..، إلا أن هذا العلو لم يكن مريحا. حين تألف الأعالي الطبيعية الجبال والأشجار، العقل الباطن يجد صعوبة في فهم الارتفاعات التي تصنع بالإسمنت. أزحت ستار الشرفة، كانت البنايات المرتفعة التي تضم مكاتب الشركات العالمية ما تزال أضواؤها مشتعلة، ورديات الليل تشتغل من أجل الأرباح التي لا تنام. كانت تلك الأضواء تبدو من بعيد مثل أقفاص زجاجية بعيدة. هناك أشخاص بعيدون لا تعرفهم ولا يعرفونك، لكن وجودهم يسكب في نفسك الكثير من الطمأنينة.
صباحا، في شوارع منهاتن، كنت أنظر باندهاش إلى الحركة الحثيثة التي لا تتوقف. فوج من البشر يعوض فوجا آخر، حركة الحشود البشرية لا تهدأ. لو فكرت في التوقف ولو للحظة أتخيل أنني سأدهس من طرف أحدهم ولن يكون لديه وقت ليلتفت إلي. «صباح الخير يا «مانهاتن»»، صرخت بما يشبه الهتاف، «صباح الخير يا رجال ونساء المال والموضة والبورصة، الذين لا ينزعجون من منظر المتسول السمين جالسا يفترش لحمه، واضعا كوب البلاستيك عله يستقبل بعض القطع النقدية». هنا حيث تجتمع مئات الجنسيات من كل العالم، حشد من المؤمنين بالحركة وبالمال. مؤمنون بعقيدة العمل يتحركون في جموع منضبطة دون وجود لمن ينظم صفوفهم، عقيدة الرأسمالية تتكفل بذلك، تشعل في حافر المرء فتيلة نار النجاح المقدسة ثم تطلقه كشهاب، لن يعرف بعدها السكون. يلائمك كثيرا العيش في نيويورك، ما دمت تؤمن بالسعادة والحب، والتسامح والاختلاف، وكل تلك القيم المعلبة الملفوفة في ورق الهدايا اللامع التي بيعت لنا على شاشات التلفزة، وفي الأفلام والكتب الأمريكية، والتي لا يمكن لأحد أن يمنحنّك تعريفا واضحا لها، أو أن يشرح لك طريقة استعمالها في بلدك وحياتك. ومع ذلك يجد الأمريكي نفسه يؤمن بها ويدافع عنها بشراسة الجندي الوفي.
بعد أيام من الوصول إلى نيويورك، تزايد اهتمام زملائي بزيارة «تايمز سكوير»، الحي الذي أخذ اسمه من اسم المقر السابق لصحيفة «نيويورك تايمز». ورغم أني لا أحب الأماكن الشهيرة التي تملأ صورها العالم والكتب والأفلام، وجدتني عشية واقفة في قلب «تايمز سكوير» المتخم باللوحات الإشهارية والأضواء. تحركت ببطء داخل هذا العالم الساطع، ضغطت بقوة على حقيبتي اليدوية وضممتها إلي. عادة أدمنتها كلما وجدتني داخل سوق مزدحم، درس الحس الأمني الحاد الذي تلقيته على أيدي النشالين وقطاع الطرق في مدينتي. سخرت من نفسي ومن إرث الحذر والخوف الذي أحمله معي، وتمشيت طويلا قبل أن أستقل «الميني باص»، مبتعدة بهدوء عن اللوحات الإشهارية الضخمة، تاركة خلفي أضواء وصخب وإغراء الشراء دون تفكير.. شرفات ناطحات السحاب التي فاضت عليها خميرة الأرباح المجنونة. «التايمز سكوير» صرح شيد من أجل تمجيد الوفرة والنمو المستمر والسرعة. شعرت كما لو أنني داخل حلم، استيقظت منه حين أشار «سي محمد»، السائق المغربي الذي يعيش في نيوجيرسي، إلى أن الأضواء الخافتة التي تلوح هناك هي بداية حي «هارلم» الشهير أو «الباريو» الأمريكي. القرية الصغيرة التي تتوسط «نيويورك» شمال الحي الراقي «مانهاتن». هناك حيث القليل جدا من يؤمنون بالحركة والأرباح..، حيث لا يوجد أتباع كثر لعقيدة الرأسمالية، وحيث يظهر فشلها في استقطاب الجميع وتذكير بنصف وجهها القاتم المحزن.. هنا الفقر والمخدرات والسلاح الناري الذي يباع بأقل من مائة دولار، وهذه فكرة جعلتني أرتعد لما تذكرت الأنصال اللامعة التي برقت تحت عيني في مدينتي، وأنا أشاهد أحدهم يعترض طريق فتاة مهددا أن يغرس السكين بداخلها إن هي لم تمنحه كل ما تملك.. ماذا لو كان لدى قطاع طرقنا سلاح ناري؟ كنا سنباد حتما، هل هناك شك في ذلك؟
صباحا، كان لا بد أن أتمشى لأطرح كل صخب البارحة من رأسي، كلما ابتعدت عن فندق «رادسون»، أقترب من أشجار «البلاتان» الساحرة، تلك الأشجار دليلي إلى السحر والجمال. أينما حلت تنثر فسيفساء من الأنوار والظلال. والنوع الطاغي هنا هو «بلاتان لندن». «أنا ابنة هذه الأشجار»، قلت لنفسي، ومن الصعب علي العيش بدونها، ابنة تحتاج كل يوم إلى جرعة من أمومة الشجر. أنا الآن على أرض أشجار الصيف الهندي التي تقيم حفلة ملونة من تدرجات البني، الآجوري، الأحمر والأصفر، وتصنع ما يشبه المعجزة على شبه جزيرة نيويورك. عيد «الهالوين» على الأبواب، وأينما تذهب تجد اللون البرتقالي في الاستقبال. تمشية البعض للكلاب، والركض النشط للكثيرين في المنتزهات، قبلة فرنسية، عشاق، وشوشة وعناق. أشياء تبعث على البهجة والاطمئنان.. لست على مجرة غريبة، وهناك أناس حقيقيون يستمتعون بحياتهم، ماضون في خططهم المبهجة رغم كل شيء. لكن هل هذا كل شيء؟ هل هذه هي «نيويورك»؟ لا تغرّنك ناطحات السحاب التي تصنع ظلالا اصطناعية كئيبة. لم نتحدث بعد عن الأهم، عن الظلال الأصيلة الحقيقية، عن أعظم ما يصنع مجد «نيويورك» أشجار «الجنكة» العظيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى