شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

افتحوا الحدود يا مصاروة 

أفنى محمد الجابري عمره في نقد العقل العربي، وإلى حدود عهد قريب كنا نعتمد على نظرياته في هذا السياق لتحليل التمظهرات الفكرية والثقافية والتمثلات النفسية لهذا العقل الذي استكان للخرافة وفضل النّقل على إعمال العقل لمئات السنين ولا زال. غير أن المرحوم الجابري كان سيقف بقامته العلمية الفذة عاجزا عن قراءة العقل الجمعي المغربي في زمن التيكتوك وليكسطا ولايفات الفيسبوك.. إن التحولات البنيوية الكارثية التي طرأت على سلوك المغاربة تدفعنا للتساؤل عن مستقبل شعب يعاني من متلازمة ثنائي القطب.

مقالات ذات صلة

تهتف الجماهير من أجل الحرية، ترفع شعارات التضامن مع فلسطين وبورما وجنوب السودان، تنتقد الحكومات، تتهم السياسي بالفساد، وتحمِّل أجساد النساء المتبرجات مسؤولية الجفاف والقحط والسنوات العجاف.. ثم، وبعد أقل من أسبوع، تجد نفس الجماهير بنفس الحماس – وربما بحماس أشد – وهي تحطم كراسي الملعب، تكسر إشارات المرور وتحرق حافلة عمومية لأن فريقها المفضل خسر بهدف في الدقيقة الأخيرة. طبعا، لا أحد من أعضاء القطيع يربط بين القضيتين، لأن الربط يتطلب تفكيرًا، والتفكير ليس من اختصاص العامة، بل هو حكر على من يصنع أجيالا من الضباع.

من المفارقات العبثية لعقلية القطيع، أن شخصا يشتكي من سوء الخدمات العمومية لتجده بعد الخسارة أمام المنتخب الخصم، يندفع كثور هائج ويقوم بخلع مقعد من المدرج ويرميه على الشرطي الذي يحاول تهدئته.. ويكسر واجهات المحلات وزجاج السيارات وهو يردد أغانيَ حماسية تشتم الحكومة وتهاجم الفراقشية.

الشخصية المغربية عجيبة بتداخلاتها وغريبة بتناقضاتها، تنظم مهرجانا للموسيقى يأتيك عشرات الآلاف لكي يرقصوا ويردحوا.. تنظم مسيرة لدعم فلسطين يأتيك نفس الجمهور لكي يغني الشعارات وهو يسير في الشوارع.. يأتي رمضان يملأ نفس الجمهور لابسا الجلابيب والعبايات ساحات المساجد لكي يشنفوا أسماعهم بقراءات نجوم التراويح.. وفي العيد يخرجون زرافات ووحدانا لأداء الصلاة في المصليات ويتفاخرون بصورهم في الإنستغرام وهم يتوسطون الآلاف المؤلفة من المصلين.. وبعد العصر ينزلون إلى الشواطئ. هذا التناقض ليس نتيجة جينات معطوبة، بل هو تجلٍ ناصع لظاهرة: «أنا أفكر جماعيا، إذن أنا موجود بالخطأ».

القطيع لا يقرأ، لا يتساءل، لا يشكّك. كل ما يفعله هو ترديد ما يسمعه، وإعادة تدوير ما يتلقاه ولو كان تافهًا. الإعلام يقول له من هو العدو ومن هو البطل، من هو الخائن ومن هو المناضل، وهو يُغيّر موقفه كما يغيّر لون علم البروفايل على فيسبوك: أسبوعٌ لفلسطين، أسبوعٌ لأوكرانيا، أسبوع للمنتخب، أسبوع للتحيار في المهرجانات.. وأسبوعٌ للبكاء على غلاء الأسعار. أما الأسبوع الثالث عشر؟ فهو دائمًا مخصص لتكسير كل ما يقف في طريق الغضب الغامض الذي لا يعرف مصدره.

تخيل معي شخصا يخرج في مظاهرة للتنديد بالإمبريالية، ثم بعد يومين يشتري قميص نايك بألف درهم ليحضُر به مباراة فريقه الأوروبي المفضل، ويشتمك إن انتقدت «البزنس الكروي» لأنه «فن راقٍ». هذا الشخص، حين تسأله عن فلسطين، يجهل موقعها على الخريطة، لكنه سيخنقك بخطبة عصماء عن «صمود الشعب» و«نفاق المجتمع الدولي». ثم إذا خسر فريقه، سيخرب مقهى الحي الذي يُعلّق فيه العلم الفلسطيني على الجدران.

السطحية هنا ليست عيبًا فرديا، بل آلية دفاع جماعي. فالجمهور حين يُفكر، يتألم، وحين يُفكر كثيرًا، يبدأ في طرح أسئلة خطيرة مثل: لماذا نعيش بهذا الشكل؟ لماذا نمنح ولاءنا لمجهولين؟ لماذا نصدق كل ما نسمع؟ ولذلك يُفضّل ألا يُفكر، ويُسلّم أمره للعاطفة، وللهتاف الجماعي الذي لا يتطلب أي تشغيل للخلايا الرمادية.

والأدهى أن من يتجرأ على كسر هذا النسق يُتهم فورا بالغرور، أو الفهامة الخاوية، لأن القطيع لا يحب المختلف، ويُفضل أن تبقى القصة كلها على شكل مسلسل تركي هابط؛ أبيض وأسود، بطل وخائن، منتخب ومنتخب الخصم. أمّا المنطقة الرمادية، فهي مساحة مُحرّمة، لأنها تتطلب الوعي، والوعي مكلف ومزعج ويُفسد متعة التكسير العشوائي بعد كل خسارة.

في النهاية، القطيع لا يسأل عن السبب، بل فقط عن التوقيت: «متى سنخرج للشوارع؟»، «متى نحرق الحافلة؟»، «متى نرفع الشعارات؟». أما لماذا نفعل ذلك؟ فهذا سؤال لا يُطرح، لأن الجواب لا يهم. المهم أن نبقى معا، نصرخ معا، نحزن معا ونكسر معا… لأن الوحدة في الهدم، في ظل غياب العقل، صارت شكلا من أشكال «المقاومة الرمزية»، ولو على حساب إشارة مرور يتيمة لم تكن لها أي علاقة بالخسارة!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى