الأخبار تحقق في مسببات ارتفاع الجريمة بسلا

عبد المولى الزاوي
أضحت مدينة سلا في العشرية الأخيرة «عنوانا» كبيرا للجريمة في المغرب، لا ينافسها في ذلك سوى مدينة فاس وأحياء بعينها في الدار البيضاء، وأضحى التعاطي الأمني مع الظاهرة شأنا عاما يتجاوز اهتمام «السلاويين» إلى عموم المواطنين المغاربة، بدليل المتابعة الإعلامية «المكثفة» لتعيين المسؤول الأول عن قطاع الأمن في المدينة، إذ يحظى الخبر بكثير من الاهتمام على صفحات المواقع الاجتماعية.
بعيدا عن الخوض في الأسماء الأمنية ومَن الأجدر فيها بقيادة معركة المواجهة مع «الجريمة»، وقريبا من هموم المواطنين، قامت «الأخبار» بالبحث في الأسباب التي «تغذي» منسوب الجريمة في المدينة، عبر القيام بجولة «خاطفة» في بعض الأحياء الهامشية، وعبر مجالسة الساكنة والمجتمع المدني، كما حملت الجريدة السؤال الأمني ذاته إلى أهل الاختصاص من محامين وأساتذة جامعيين فعادت بالورقة التالية.
سجن الزاكي وتهمة تفريخ «المنحرفين»
ألقى الكثير من سكان مدينة سلا بلائمة تحول أحيائهم إلى مرتع لـ «المنحرفين»، الذين يعترضون السبيل ويقومون في حالات كثيرة بجرائم تقشعر لها الأبدان، على احتضان مدينتهم لواحد من أكبر سجون المملكة، إنه سجن الزاكي الذي يأوي سجناء من مختلف المناطق المغربية، كبارا وصغارا.
وجاء في أحاديث مختلفة للأهالي مع الجريدة أن الكثير من الجانحين يقضون مددا زمنية مختلفة في عنابر السجن المذكور، وهو ما يساعدهم على ربط علاقات متشعبة مع زملائهم من أبناء المدينة أو ضواحيها، ويحدث أن يتم استقبال المفرج عنهم أو الذين قضوا محكوميتهم، من قبل أصدقائهم الجدد، وذلك ضمانا للاستفادة من خدماتهم الإجرامية التي غالبا ما تكون قد خضعت للكثير من «التعديلات» داخل «مدرسة» السجن نفسه. والدليل على هذا -يقول محدثو الجريدة- هو حالة العود الكثيرة والتي تفيد بأن الكثير من ذوي السوابق ما إن يتم الإفراج عنهم حتى يعاودون «الكرة» الإجرامية، بأسلوب جديد وبمعية رفقة جديدة، لكن بنفس الجريمة.
«إن عددا كبيرا من أسماء المنحرفين الذين يعترضون الطرقات لا ينتمون إلى مدينة سلا»، يقول أحد الفاعلين الجمعويين، مضيفا في حديثه إلى «الأخبار» أن سجن الزاكي وإن لم يكن السبب الوحيد الذي يقف خلف «استفحال» الجريمة بالمدينة، فإنه يشكل واحدا من عوامل كثيرة، تغذي وتنعش هذه الجريمة.
«القرقوبي».. جرائم بعدد حبات الهلوسة
ارتبطت الجريمة في الكثير من حالاتها بالمخدرات إلى درجة يصح معها القول إن الجريمة والمخدرات أختان شقيقتان، فالمجرمون في غالبيتهم العظمى هم من المدمنين لوسائل التخدير المختلفة، مهما اختلفت درجات قوتها وتأثيرها على القدرات العقلية، إلا أنه وبقراءة سريعة في نوعية الجرائم التي أضحت المدن المغربية مسرحا لها خلال العشرية الأخيرة، يتبين ارتفاع في نوعيتها وفي عددها وبالتالي في أسبابها.
بحثا عن جواب لهذا السؤال، أفادت مصادر أمنية خاصة، طلبت عدم الكشف عن هويتها، بأن ترويج المخدرات الصلبة في السوق المغربية يعتبر الوجه الثاني لعملة الإجرام التي عرفها البلد في السنوات الأخيرة.
وقالت المصادر ذاتها، إن أقراص الهلوسة المعروفة باسم «القرقوبي»، والتي تقوم عصابات متخصصة بتسريبها من الحدود الشرقية للمملكة، تعتبر السبب الأكبر الذي يفسر «فداحة» الكثير من الجرائم، مضيفة أن الشخص المدمن على هذا النوع من المخدرات غالبا ما يعمد إلى القيام بأفعال خطيرة تتجاوز الإيذاء الجسدي إلى حالات القتل، التي قد يكون ضحاياها من الأصول أو الفروع أو غيرهم من الأقارب، لأن هذا النوع من المخدرات الاصطناعية والتي يتم إنتاجها في مختبرات الأدوية، تتميز بقدرتها الكبيرة على إفقاد متناولها حاسة الوعي والإدراك، وذلك عكس بقية المخدرات التي يكون تأثيرها جزئيا في أكثر الحالات.
وقال محدث الجريدة إن «الحشيش» على سبيل المثال يؤثر على عقل صاحبه لكنه يثقل حركاته ويرسم أمامه «شطحات» من الخيال، مبعدا إياه عن الواقع الذي يعيشه والمحيط الذي يوجد به، وهو من حيث تأثيره هذا، لا يشكل خطورة «آنية» على الفضاء حيث يعيش هذا المدمن.
«لقد تسربت الأقراص الحمراء إلى كل الأحياء وبالقرب من الكثير من الثانويات»، يقول فاعل جمعوي يهتم بموضوع الجريمة في مدينته، مضيفا في حديثه إلى «الأخبار» أن تجار المخدرات فطنوا في السنين الأخيرة إلى كون التلاميذ يشكلون سوقا كبيرة لموادهم السامة، وهو ما دفعهم إلى اختيار هذه العينة، وذلك اعتمادا على أفراد من المؤسسة المستهدفة ذاتها، يقومون بدور الوساطة بين البائع والمستهلك، وهو ما يحول تلاميذ في ريعان الشباب إلى وحوش «كاسرة» في أحيائها تجد نفسها فجأة وقد ارتمت من كراسي الأقسام إلى عنابر السجون، جراء تورطها في جرائم «ثقيلة» من قبيل اعتراض طريق المارة وسلبهم أمتعتهم باستعمال العنف أو الضرب المفضي إلى الموت، وغيرها من الجرائم التي يحتار عقل المحققين في فهمها.
الكثافة السكانية.. حاضنة اجتماعية للجريمة
ما إن تطأ رجلاك واحدا من الأحياء الشعبية بمدينة سلا حتى تقف على كثافتها السكانية الكبيرة، والتي جعلت منها ثاني مدينة في المغرب من حيث تعداد السكان مباشرة بعد الدار البيضاء.
في مدينة سلا يؤوي البيت الواحد عشرات الأسر التي تكتري غرفة واحدة يعيش فيها الزوج والزوجة ومعهم الأبناء، الذين ما إن يصلوا سن المراهقة حتى يغادرون البيت بعد مغادرتهم للدراسة.
في حي سيدي موسى وفي قرية أولاد موسى وفي الواد.. نبتت أحياء بكاملها بطرق عشوائية في ثمانينات القرن الماضي، فآوت العديد من الأسر التي حجت إلى المدينة في موجة هجرة قروية عرفها المغرب آنئذ بفعل موسم جفاف منذ أربع سنين. ومع هاته الهجرة جيء بالعديد من العادات والتقاليد «البدوية» إلى قلب المدينة، فأضحت العربات التي يجرها الحمير والبغال أمرا مألوفا، وباتت الأغنام والأبقار تقتسم مع المارة طريقهم، ومع كثير من الجيران سكناهم.
«الأخبار» استغلت الحملة الانتخابية التي جرت قبل أيام بمناسبة الانتخابات الجماعية وتسللت إلى بعض الأحياء الشعبية بالعدوة الثانية لأبي رقراق، وهي أحياء يصعب فعلا الولوج إليها في الحالات العادية، فأعين شباب المنطقة ترصد كل غريب، مخافة أن يكون مخبرا قد يرشد للقبض على أحدهم.
في حي الانبعاث قرب الشاطو يعتقد كل زائر للمكان بأنه على أبواب سوق ما، فالأزقة مكتظة بالأهالي صغارا وكبارا، وعلى الشرفات يطل الكثيرون ويتصلون مع بعضهم البعض بلغة الإشارات وأحيانا بأصوات تخترق المكان، إذ يتعايش الجميع مشكلين ما يشبه القبيلة التي تحمي أبناءها وتعتبر كل أجنبي عنها مصدر «شك» يستدعي» التعامل معه استحضار الكثير من الحذر.
في باب القرية الذي يعتبر بوابة قرية أولاد موسى من الجهة الحدودية مع حي مولاي اسماعيل و»السيكتور 7» يصعب إجراء مسح سكاني لضبط المقيمين في الحي وتمييزهم عن قاصديه من أبناء الأحياء الأخرى، لكن من السهل جدا أن يلمس المرء ثقل الكثافة السكانية والدليل على ذلك، يقول أحد المواطنين، هو صعوبة العثور على وسيلة نقل للتوجه إلى وسط المدينة أو إلى الجهة الأخرى من وادي أبي رقراق، في إشارة منه إلى مدينة الرباط، مضيفا أن المشكل لا يكمن في قلة وسائل النقل ولكن يكمن بالأساس في ارتفاع نسبة الساكنة بالحي.
المجتمع المدني يدعو إلى الرفع من تعداد الشرطة بالمدينة
استهل أحد المنتسبين لجمعية “السلام للتنمية والتضامن” الناشطة في مدينة سلا، حديثه إلى الجريدة بالقول إن جريمة نكراء وقعت البارحة، في إشارة منه إلى ليلة الجمعة التي جرت فيها الاستحقاقات الجماعية، إذ عرف حي السلام الإضافي هجوما لثلاثة عناصر منحرفة على محل تجاري لسيدة تمارس الخياطة، وهنالك تم الاعتداء على صاحبة المحل وعلى شخص آخر، جرى سلبه حوالي 3 آلاف درهم.
“لقد جرت الجريمة قبل دقائق من صلاة العشاء، يقول محدث الجريدة، مضيفا أن الساكنة استنكرت هذا الفعل الإجرامي بعد أن أشعرت مصالح الوقاية المدنية لحمل الضحية إلى مستشفى مولاي عبد الله الذي مازال يرقد به إلى حد الساعة، لكن السؤال المطروح هنا لا يتعلق بوقت الجريمة أومكانها أو حتى هوية فاعليها، بل يتعلق السؤال بالوجود الأمني في مدينة سلا ككل، إذ إلى أين سيتوجه ضحايا حي السلام الإضافي حال وقوعهم ضحايا لجرائم مماثلة؟ أإلى بطانة أم إلى سلا المدينة أم أين؟ يتساءل الفاعل الجمعوي ذاته، داعيا إلى رفع ما أسماه الخصاص الأمني عن مدينته، التي وبمقارنة تعداد ساكنتها مع تعداد رجال الأمن العاملين فيها، يتبين هذا الخصاص كثيرا على مستوى المعدل الوطني للانتشار الأمني في بقية المدن.
وعن الحملات الأمنية التي ما فتئت السلطات الأمنية تقوم بها في المدينة بين الفينة والأخرى، لا سيما في الفترة الأخيرة، قال محدث الجريدة إن أثر هذه الحملات يكون بالتوازي معها، إذ ما إن تتوقف يقظة رجال الأمن حتى تعود أنشطة المنحرفين إلى سابق نشاطها، واستشهد محدث الجريدة بالقول إنه لا يمكن الخروج فجرا إلى شوارع المدينة دون استحضار خطر التعرض إلى هجمات المنحرفين، حتى في عز الحملات الأمنية.
هيئة المحامين بالرباط.. الجريمة تلد نفسها
يقول مروان لكمامي، المحامي بهيئة الرباط، إن “الجريمة تلد نفسها”، مضيفا في معرض حديثه إلى “الأخبار” حول موضوع الجريمة بمدينة سلا، أن المجرمين ما انفكوا يطورون آليات اشتغالهم، تبعا للظروف المحيطة بهم، إذ لا يجب أن نغفل مدى الحذر الذي يطبع تعامل المنحرفين مع رجال الشرطة، خاصة في الحملات الأمنية.
وقال محدث الجريدة، إن البيئة الاجتماعية تساهم بشكل كبير في ما وصفه بـ”تفريخ” المجرمين، قائلا بأن الشارع والزقاق والحي الذي تتغول فيه الجريمة، لا يمكن إلا أن ينتج مع الأيام عناصر تخلف سابقيها، فتغدو المسألة بذلك مسألة ثقافة وسلوك، وهنا مكمن الصعوبة في التعامل مع الجريمة، إذ للقضاء على ظاهرة ما يجب القضاء على أسبابها، وحيث إن الجريمة في المغرب عموما وفي بعض المناطق على وجه الخصوص أضحت سلوكا “منحرفا”، فإن الجميع بات مطالبا بالمساهمة في وضع تصوره للمجتمع المسالم الذي ننشده، والكل يتحمل مسؤوليته في ذلك.
“لقد تعرض العديد من الزملاء المحامين إلى حوادث السرقة والاعتداء الجسدي من قبل اللصوص في مدينة سلا”، يقول لكمامي، مضيفا في سياق شرحه للظاهرة بأن مساحة الأحياء الهامشية وغير المهيكلة بالمدينة تفوق بكثير مساحة الأحياء المنتظمة، وعليه، يضيف المحامي، فإن الجريمة تجد لها حاضنا بالكثير من الجهات.
أما عن مدى كفاية الحل الأمني في التصدي للظاهرة ومحوها، فقد أكد مروان لكمامي أن اعتماد المقاربة الأمنية لوحدها أمر لا يكفي في هكذا حالات، مضيفا أن هذا الخيار سيضعنا أمام مفهوم “الدولة البوليسية” وهذا أمر مستبعد في المغرب، لأن السؤال الحارق الذي يجب البحث على إجابة له هو من المسؤول عن بناء الأحياء الهامشية؟ وما هي الظروف التي نشأت فيها؟ ولعل من شأن الإجابة على مثل هذه الأسئلة الوقوف على فساد “المنتخبين” الذين لا يهمهم من التجمعات السكانية سوى تعداد المصوتين عليهم، أما ما سوى ذلك فتفاصيل لا يشغل رؤساء الجماعات أنفسهم بالبحث فيها.
3 أسئلة
عبد الحفيظ بلقاضي أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس : السياسة الجنائية المتبعة يغلب عليها الطابع التقليدي المتمثل في الزجر
- ما هي في نظركم العوامل التي تذكي الجريمة في وقت ما وفي مكان ما؟
لما كانت الجريمة ظاهرة اجتماعية وإنسانية كانت الأسباب والعوامل الكامنة وراء تفشيها وتزايد حجمها – خلال فترة زمنية محددة وفي نطاق بلد أو منطقة جغرافية بعينها -متعددة ومتداخلة تتصل بالإنسان والمجتمع مع الأخذ بالاعتبار مجمل ما يتأثر به هذان الفاعلان الرئيسيان من متغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية.
- ما الذي جعل من مدينة سلا مرتعا للإجرام؟
في ظل غياب دراسات ميدانية حقيقية، وعدم توافر إحصائيات جنائية – على الصعيد الوطني والجهوي-كفيلة برصد الظاهرة الإجرامية وبيان اتجاهها العام وإبراز خصائصها المميزة من خلال دراسة وتحليل رسمها البياني صعودا وهبوطا خلال الحقب الزمانية المتعاقبة وفي المناطق المختلفة للمملكة، فإنه من الصعوبة بمكان تقديم إجابة علمية دقيقة عن هذا السؤال الهام.
ومع ذلك، يمكن القول إن ظاهرة الجريمة إنما ازداد حجمها بوتيرة متسارعة في بلادنا خلال العقود القليلة الماضية؛ كما أن المجتمع المغربي قد شهد -خلال هذه الحقبة الزمنية-تطورات معينة انعكس بعضها سلبا على شرائح واسعة منه ولا سيما فئة الشباب وغيرها من الفئات المجتمعية التي تعاني من التهميش والهشاشة. من هنا، كان مما يستفاد من تقارير المنظمات الدولية الرسمية وغير الرسمية على حد سواء أن ثمة تراجعا خطيرا ومستمرا في مجمل مؤشرات التنمية البشرية في مجالات التعليم والتشغيل والصحة … لما كان الأمر كذلك كان لتنامي ظاهرة الجريمة ارتباط حتمي بتفشي البطالة في أوساط الشباب وانسداد آفاقهم المستقبل في وجوههم من جهة، وتدني جودة التعليم والتكوين، فضلا عن ارتفاع معدلات الفشل الدراسي ببلادنا من جهة ثانية، وتفاقم المشاكل الاجتماعية المرتبطة بالوضع الاقتصادي العام ولا سيما ما يتعلق منها بالتفكك الأسري وارتفاع نسبة الطلاق مما يغذي بدوره ظاهرة انحراف الأحداث وارتفاع أعداد الأطفال المهملين وأطفال الشوارع من جهة ثالثة…
- إضافة إلى الحلول الأمنية ما هي الحلول التي تقترحونها للحد من الجريمة في سلا؟
لا شك أن المقاربة الأمنية للتصدي لظاهرة الإجرام مقاربة ضرورية إلا أنها غير كافية. ومع ذلك، فالملاحظ هو ترجيح كفة هذه المقاربة الأمنية الضيقة في بلادنا سواء على مستوى الخطاب الرسمي أو على صعيد الممارسة العملية. وبعبارة أخرى، فإن السياسة الجنائية المتبعة من قبل الأجهزة الرسمية المختلفة المكلفة بالضبط الاجتماعي – بدءا من طور سن التشريعات الجنائية ومرورا بتطبيقها وانتهاء بتنفيذها-إنما يغلب عليها الطابع التقليدي المتمثل في الزجر بصورة أساسية مع تغييب شبه كامل للأبعاد الوقائية.
ومعلوم أن السياسة الجنائية، بعد أن اقتصر مفهومها التقليدي على مواجهة الجريمة بسن التشريعات الجزائية وتشديد العقوبات وتعزيز قوى الشرطة والأمن العام والتوسع في بناء المؤسسات السجنية، اتخذت في الزمن الراهن المتميز بتزايد تأثير العلوم الجنائية والاجتماعية منحى جديدا قوامه الاتجاه نحو الاهتمام بواقع الأسباب المؤدية إلى الإجرام بغية مواجهتها وقايةً وعلاجاً.
ومفاد هذا النظر أن السياسة الجنائية الرشيدة إنما تهتم بمرحلة ما قبل الجريمة تنفيذا لسياسة وقائية شاملة، كما تهتم بمرحلة الحدث الإجرامي حيث تعمل على مواجهته بالوسائل الكفيلة بضبطه وإخضاعه للإجراءات القانونية المناسبة في إطار خطة عامة توضع لمكافحة الجريمة ومعالجة آثارها وذيولها على الإنسان والمجتمع والمجني عليه أو الضحية· والوسائل القانونية التي يمكن اعتمادها تنفيذا للسياسة الوقائية الشاملة تتخذ صورا مختلفة، منها:
– اتخاذ بعض التدابير العامة للوقاية الاجتماعية الرامية إلى تطهير الوسط الاجتماعي واستئصال أسباب الجريمة انطلاقا من النتائج التي تتيحها الدراسات الميدانية في علم الإجرام· ومما يدخل في هذا القبيل: سن التشريعات الكفيلة بتوفير السكن اللائق، وفي ظل شروط من شأنها تفادي مضار الاختلاط والإنهاك العصبي؛ مكافحة إدمان الخمور والمخدرات والقضاء على أوكار الدعارة والفساد؛ تنظيم فعال لجهاز الشرطة على نحو لا يترك للجناة مجالا للإفلات من العقاب؛
– اتخاذ بعض التدابير المفرَّدة Individualisées Mesures والتي تصلح لعلاج حالات بعينها، كما هو الشأن بالنسبة للأفراد الذين تنم وضعيتهم عن خطورة إجرامية خاصة، بسبب إصابتهم بمرض عقلي أو بفعل ارتكابهم عددا من الجرائم المتكررة، مما يبرر قيام السلطة الاجتماعية بإخضاعهم لبعض التدابير الوقائية، كما هو الحال مثلا بالنسبة للعود المتكرر إلى ارتكاب الجرائم الجنسية الخطيرة؛
– كما يساهم في تحقيق الأثر الوقائي المرغوب فيه وضع قائمة متكاملة ودقيقة بالأفعال المشمولة بالتجريم والعقاب اعتبارا لعدم كفاية الوازع الأخلاقي أو الديني وحده للزجر عن الجريمة؛
– كما يؤدي إلى تحقيق ذات الأثر الوقائي تجريم بعض الأفعال التي، وإن كان ارتكابها لا ينم إلا على قدر محدود من الخطورة، إلا أنها تمثل خطوة حاسمة في طريق ارتكاب جرائم أكثر جسامة، كما هو الحال في تجريم اقتناء بعض المواد السامة، أو حمل السلاح بدون ترخيص، أو قيادة السيارة في حالة سكر، أو غير ذلك مما يعرف اصطلاحا بالجرائم المانعة Délits-obstacles.