شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

 الأدب وغياهب السّجون

يتمّ، في الغالب، اعتبار الكتابات السجنية نوعا من الكتابة الأدبية، تحت مسمّى أدب السجون، التي تُعنى بقضايا الحرية الإنسانية أثناء تعرضها للسلب والحرمان بشكل تُنتهك فيه حقوق الإنسان الأساسية، وقد تتخذ عدة أشكال أدبية ذات صبغة إبداعية أو فكرية حين تستند إلى الدراسة والتحليل، منطلقة من تجربة شخصية أو تجارب أشخاص آخرين. لكنّها تشترك كلّها في تصوير صراع الإنسان من أجل البقاء والحفاظ قدر المستطاع على إنسانيته المهددة وجدارته بالحياة الإنسانية الطبيعية المكفولة لكل البشر. إنّ حياة السجن في صورتها الأدبية، كما يقول صاحب كتاب «أدب السجون» نزيه أبونضال: إنّها الحياة في ذروة احتدام الصراع بين الحدود القصوى لمكوناتها… وهي التشبث النبيل والبهي بصمود الروح، وفي الارتقاء بالكائن الإنساني نحو غد أجمل.

مقالات ذات صلة

 إعداد وتقديم: سعيد الباز

كارلوس ليسكانو.. عربة المجانين (سيرة السّجن)

 

عاش الروائي الأوروغوياني كارلوس ليسكانو- Carlos Liscano تجربة الاعتقال، وهو في مطلع شبابه، من قبل النظام العسكري في بلاده. كان السجن دافعه إلى الكتابة، ويعتبر، من جانب آخر، معبرا عن الأدب الأمريكي اللاتيني الذي يصوّر واقع الاعتقال السياسي، خاصة في كتابه «عربة المجانين»:

«ها قد مرّت أيّام عديدة وأنا في ثكنة الجيش، مقنّعا حتّى الكتفين، وسروالي وألبستي الداخلية وحذائي مبلّلة تماما، أنا في الثالثة والعشرين من عمري. لا أعلم في أيّ يوم نحن ولا كم الساعة. أعرف أننا في ساعة متأخّرة من الليل. أُعدتُ للتوّ من قاعة التعذيب الواقعة في الطابق السفلي، إلى اليسار من أسفل الدّرج. تُسمع صرخات العديد من المعذِّبين الذين يتوالون على قاعة التعذيب طوال الليل. لم أفكّر في أيّ شيء سوى جسدي، أو بالأحرى لم أفكّر فيه إنّما تحسّسته: كان قذرا، تغمره آثار الضربات، منهكا، تفوح منه رائحة كريهة، ناعسا وجائعا. في تلك اللحظة شعرتُ أنّه ليس في الدنيا سوى جسدي وأنا. لم أجاهر نفسي بذلك وإنّما عرفته: لا أحد سوانا. وستمضي سنوات عديدة، تقارب الثلاثين، قبل أن أستطيع البوح بما أحسستُ به. لا أن أبوح «بما يُشْعَرُ به» وإنّما بماذا شعرنا هو وأنا…

مونتفيديو 27 ماي 1972. قبل ثلاثة أيّام، بلغت أختي السادسة عشرة من عمرها، وأُقيمت لها حفلة، ذلك المساء. لم أكن حاضرا ذلك اللقاء العائلي. أعرف أنّ أمّي ستكون قلقة، وأنّ أبي يقول في نفسه إنّني في مكان ما، يعلم الله بأيّ أمر منشغل، وستعتقد أختي بأنني غير مهتمّ بها.

كانت لديّ نيّة الذهاب إلى تلك الحفلة، وكنتُ قد أعلنتُ ذلك، ولكنني لن أذهب. لن أستطيع الذهاب. في الثانية فجرا، جاء العسكر يبحثون عنّي في بيتي. انتزعوني من السرير، حافي القدمين، وبالمايوه. وضعوا لي قناعا، وقيّدوا يديّ خلف ظهري، ووضعوني على الرصيف قبالة الحائط. ثم وضعوني في شاحنة صغيرة وغادرنا.

… لم يكن الموت تحت التعذيب مرغوبا لدى الجلّادين، وببساطة أيضا، لم يكونوا يفعلون شيئا لتجنّب ذلك. لم يفعلوا كلّ ما بوسعهم. لقد قتلوا من أرادوا قتله، بطلقة، أو رميا في النهر، أو من علوّ، من شرفة. لا تهمّ الطريقة كثيرا، لقد قتلوا هؤلاء الأشخاص لأنّهم كانوا قد قرّروا قتلهم. ولكن الموت تحت التعذيب لم يكن مخطّطا له. وهذا لا يرفع عنهم مسؤوليته، ولا يقلّل من خطئهم. كانت لديهم هيئة طبية، تخبرهم باستمرار إلى أيّ حدّ يمكنهم الذهاب في التعذيب، ومتى عليهم التوقّف وترك المعتقل يرتاح. ولكنّ الجلّاد لا يستشير الطبيب قبل الشروع في عمله. كما لا يسأل المعتَقَل إن كان التعذيب «مناسبا أو غير مناسب» له. هذا لا يشكّل جزءا من أدبيات المهنة. لا يحصل الموت تحت التعذيب صدفة، وإنّما بسبب البطش وإهمال الجلّاد ورؤسائه والأطباء. الأطباء العسكريون ليسوا مدرّبين في الثكنات، بل في الجامعة. قد يتساءل المرء كيف تُدرِّب الجامعة نفسها الأطبّاء الذين يموتون تحت التعذيب وأولئك الذين يشرفون عليه. كانت الليلة مشوّشة وصاخبة، بدأ التعذيب حوالي الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، إذ نادرا ما يتمّ التعذيب أثناء النهار… هناك جلّاد شرّير وآخر لطيف. يقول اللطيف للمعتقل إنّه لا يريد أن يُعذِّب، ولكنّ زميله رجل فظّ، صموت، عنيف، وخليق بما هو أسوأ. ولإثبات ذلك، يتكلّم الشرّير. وإذ يفعل ذلك، سوف يفهم السجين في الحال كيف تسير الأمور هنا.

ولكنّ اللطيف لم يتخلّ بعد عن منهجه اللطيف، ويواظب عليه. إنّه لا يُريد أن يُمارس التعذيب. ولكن ما لم يتكلّم المُعتقل عن طيب خاطر، سيكون اللطيف مرغما على أن يدع زميله سيئ الطباع يتصرّف».

ممدوح عدوان.. حيونة الإنسان

 

… لعل أوّل ما أتمنى أن أثيره، إضافة إلى الأسف، هم التخلّص من تعوّدنا على وحشية العالم. فلقد سبق لي أن أشرت إلى فكرة حول التعوّد… وقد أوردتها في روايتي «أعدائي» على النحو التالي: «نتعوّد؟ تعرف ما تعلمنا يا أبي؟.. ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئا عن التعوّد. حين نشمّ رائحة تضايقنا فإنّ جملتنا العصبية كلّها تتنبه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخفّ الضيق. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أنّ هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس، ومن ثم لم تعد تنبّه الجملة العصبية… السبب: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة قد ماتت. نحن لا نتعوّد يا أبي إلّا إذا مات فينا شيء».

… إنّ الشخصية في رواية «أعدائي» تُنهي كلامها بالعبارة التالية: «تصور حجم ما مات فينا حتّى تعودنا على كلّ ما يجري حولنا». أعني: إذا كان الأمر كذلك، فكم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا بإنسانيتنا حتّى صرنا نتعود الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا؟ ! وحتّى صرنا نقبل هذا العنف والتعامل غير الإنساني الذي نُعامل نحن به أو يُعامل به غيرنا على مرأى منّا في الحياة أو حين نقرأ عنه أو نراه على شاشات التلفزيون. وسنتجاهل أننا نحن نعامل غيرنا أحيانا بهذه الطريقة: أولادنا أو مرؤوسينا أو الذين يقعون بين أيدينا من أعدائنا مثلا، أو السجناء الذين بين أيدينا، مفترضا أنّ بعض من يقومون بهذه المهمات يمكن أن يقرؤوا ما أكتب. وينعكس تعودنا على هذا الإذلال في أننا صرنا نعدّ أنّ تعذيب السجين أمر مفروغ منه. لم نعد نتساءل عن أثر ذلك التعذيب في السجين الضحية، حتّى بعد خروجه من السجن، كما أننا لم نعد نتساءل عن أثر التعذيب في منفذه، وهل يستطيع بسهولة أن يعود إلى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب، كما لو أنّه خرج من المرحاض لكي يستأنف حياته. وهذه أوّل مرّة أجمع بها أفكاري حول هذا الموضوع بعد محاولات عديدة ومقالات مبعثرة في أكثر من مكان.

يتحدث يوسف إدريس عن التعذيب في السجون، وذلك في قصته الشهيرة «العسكري الأسود». يمكننا تصنيف هذه القصة ضمن ما يسمى أدب السجون، وهو نوع من الأدب الذي استطاع أن يكتبه أولئك الذين عانوا السجن والتعذيب، خلال فترة سجنهم وتعذيبهم أو بعدها، أو كتبه الذين رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو سمعوا عنهم. والتعذيب، تعريفا، هز ذلك الفعل المؤذي الذي يمارسه الإنسان على الإنسان الآخر عقوبة ردعية أو قمعية أو تربوية أو لإجباره على أمر ما، كفعل معين أو البوح بمعلومات في التحقيق، وأحيانا كطقس ديني أو تحميلي أو لسبب اقتصادي وأحيانا كممارسة تدريبية أو (وهذا هو المخيف) للاستمتاع فقط… هذا التعذيب مادي وجسدي، وهناك تعذيب وتنكيل من أنواع أخرى، لكننا سنقول إجمالا: إنّه ممارسة الإيذاء المادي أو المعنوي. وهو بوصفه فعلا قمعيا أو إيلاميا أو ضمن تحقيق لانتزاع معلومات هو ما سنحاول دراسته أولا للبحث عن أسبابه وعن نتائجه على مستوى الفرد والمجتمع والدولة وربما البشرية كلّها.

أنطونيو غرامشي.. رسائل من السجن

 

 

يعتبر المفكر والفيلسوف أنطونيو غرامشي (1891-1937) أحد أكبر ضحايا الاعتقال السياسي، حيث زجّ به في السجن من قبل النظام الإيطالي الفاشي، وبعد معاناة مع المرض داخل السجن قضى نحبه في الـ46 من عمره. كتب غرامشي الكثير من أعماله في السجن، من بينها رسائله إلى أمه:

«أنا الآن في ميلان، بالسجن الاحتياطي في سان فيتوري، منذ 20 فبراير. غادرت سجن أوستيكا في 7 فبراير، أحالوا إليّ رسالتك، وهي غير مؤرخة، لكنّي أعتقد أنّ تاريخها يرجع إلى الأيام الأولى لشهر فبراير. لا تقلقي من تغيير ظروف حياتي، فحالتي ليست سيئة إلى درجة كبيرة، فقط قليل من الارتباك والقلق وليس شيئا آخر. لن أتطرق حتّى لتفاصيل التهمة الموجهة إليّ، لأنّي بدوري لم أنجح في فهم الأمر جيّدا حتّى الآن. يتعلق الأمر على أيّ حال بالقضايا السياسية المعتادة التي حصلت بسببها على خمس سنوات سجنا بأوستيكا. الأمر يحتاج الصبر والصبر وأملك الأطنان منه…

يجب أن يكون لديك الكثير من الصبر. ويبدو لي من خلال رسالتك أنّه على العكس فمزاجك مختلف. كتبتِ أنّك تشعرين بالشيخوخة… إلخ. حسنا أنا متأكّد من أنك لا تزالين قوية جدا ومقاومة أيضا، على الرغم من عمرك والآلام الكبيرة والاختبارات الجسيمة التي مررت بها، هل تتذكرين؟ أنا متأكد من أننا سنجتمع جميعنا مرّة أخرى، الأبناء والأحفاد، ومن يدري، ربما أبناء الأحفاد… أحيانا أفكّر في كلّ هذه الأشياء وأحبّ أن أتذكر وقائع ومشاهد الطفولة، أجدها فيها، حقيقة، هناك الكثير من المعاناة والأوجاع، لكن أيضا شيء من الفرح والجمال. ثم إنّي أعثر عليك فيها دائما، أمّي الحبيبة، أتذكر يديك وهما تهبّان نحونا لتخفيف أحزاننا واجدة لكل شيء فائدة أو أي شيء آخر.

أمّي العزيزة، لا… لا تقلقي بشأني، ولا تفكري أنّي بصحة سيئة. أنا بحالة جيدة قدر المستطاع. لديّ عنبر أدفع ثمنه نقدا، أي لديّ سرير لا بأس به، يتوفر أيضا لدي مرآة حيث أنظر إلى نفسي. وتصلني من المطعم وجبتان في اليوم. لديّ آلة وضعت رهن إشارتي، لتسخين الأكل وإعداد القهوة. أقرأ ست جرائد في اليوم وثمانية كتب في الأسبوع، بالإضافة إلى مجلات مصورة ومجلات أدبية. أدخن سجائر ماسيدونية. من الناحية المالية لا أعاني من أيّ حاجة ملحّة. لا يمكنني الكتابة بالكثافة التي أتوقعها. أكتب رسائلي بطريقة غير منتظمة. لم أتلق أيّ خبر عن جوليا والأطفال منذ ما يزيد عن شهر ونصف، لهذا لا يمكنني أن أكتب لك أيّ شيء عنهم. أعرف في المقابل أنّهم من الناحية المالية في منأى عن أيّ أزمة لا ينقصهما أيّ شيء.

… حياتي تتدفق دائما بنفس الطريقة. أقرأ، آكل وأنام وأفكر. لا أستطيع أن أفعل أيّ شيء آخر، ولكن أنت لا ينبغي أن تقلقي أو تتوجسي وعلى وجه الخصوص أن لا يتهيأ لك أي شيء… لكني متأكد أنني سأُدان والرب وحده يعلم بكم سنة. ويجب أن تتفهمي أنّ استقامتي لا دخل لها في الأمر، ولا ضميري أيضا في ما يتعلّق ببراءتي أو إدانتي. هذا الأمر سببه فعلٌ نسميه السياسة، وهذا يعني أنّ كل تلك الأشياء الجميلة لا علاقة لها بهذه القضية.

… أمّي العزيزة، أعدك أنّي سأكتب لك على الأقل مرة خلال ثلاثة أسابيع وبمزاج جيد. أنت كذلك أكتبي إليّ… إنّ كلّ رسالة تصلني تمنحني عزاء كبيرا وبهجة عظيمة. أقبلكم جميعكم بحنان، وأنت أمّي الحبيبة، بحنان أكبر.

عنواني الآن: الحبس الاحتياطي لميلان».

عبد اللطيف اللعبي.. يوميات قلعة المنفى

 

 

اكتب

يوما بيوم الملزمة. معتقل ! ما معنى ذلك؟ زنزانة لها تمام صفات الزنزانة: متران ونصف (طولها) متر ونصف (عرضها). إنه تكعيب قانوني على ما يبدو. جدران مجيرة بشحة. زجاجة ترشح ببؤس… مدفونة في الجدار، محفوظة في زجاج… مرحاض تقليدي وفوقه صنبور من النحاس. النافذة الصغيرة القانونية وبها قضبان من النوع الجيد، لا تقل عنها قانونية في سمكها المحترم. رف صغير (يا للبذخ !) يمكن «للنزيل» أن يرتب عليه حوائجه. قبالتنا الباب الرمادية بفتحتها المغلفة بنظام إغلاق حاذق يتكون من صفيحة معدنية ذات مزلقة هي نفسها متقنة بنظام إغلاق آخر مركب من خيط حديدي يمرّ بحلقة عند منتصف الصفيحة ليجمدها في الأسفل. لنا في الأخير مصطبة على شكل بناء مطلي بالإسمنت يحتل بفخامة نصف الفضاء ويستقبل الفراش. هنا يعتلي النزيل عرشه. ينام، يحلم بكوابيسه، وفي بعض الحالات يقرر الانتحار بعدما يتيه في سرداب من الهذيان والاستدلالات الغامضة. نحن طبعا في «السجن المركزي» جوهرة العقد بين معتقلات بلاد الشمس.

اكتب

يوما بيوم الملزمة. ونقيضها يوما بيوم. تنتعش السماء الخيالية الخرساء بأفواج سحاب يقظ مكدٍّ، تستعرض ملحمة الأرض، والشمس تقفز فوق الأسوار، تطيح بالغبش، تطمئن على الربيع الوشيك، يتحرك الهواء مفعما بالبشارات المتداخلة، تتعلم كيف تطير، توجه صوب الأعين مرايا مشتعلة تنعكس عليها مسيرة الحياة. وإذ يمتلئ الحلم، يتحول رؤيا عضوية لما يقضي به الصحو. نعم، المستقبل أصبح أكيدا، إنّه يشعّ، يشبع الحاضر بماديته. يوما بيوم تلك الآية المتجلية في العيش، التحوّل، الحبّ، الأمل القوي، معرفة السعادة، إلغاء العزلة، النبض بإيقاع العالم. كل ذلك داخل نفس القلعة المنصوبة للموت البطيء، الانحطاط، الخنوع الجماعي، الصلافة، الحزن المتوحش، المنفى الإنساني. علينا إذن لمّ الأشلاء المبعثرة، من دائرة لأخرى، علينا التوجه نحو هذا الغزو الجديد لأعمالنا.

 

اكتب

هل أعترف؟ إنني لا أملك إلّا ثقة نسبية في الكلمات، حتّى عندما أتلمس جميع أوجه معانيها ثم أتلفظها بصوت مرتفع لأتيقن من عدم تصدع رنتها، انزلاقها في تراكيب الحذلقة، عندما أركبها وأنظمها، أجدني أعيد قراءتها وأعيد حتّى أتأكد مرّة أخرى من أنّ ما كتبته ليس معتما ولا غريبا عن الأعماق المشتركة لعذاباتنا وآمالنا. بهذا الحجم تأخذ الكتابة مسؤوليتها. وبمجرد ما أتحملها (آه، نعم أتحملها !) يستحيل عليّ أن أتهرب أو أن أرضى بالجزئيات. يجب أن أصبح قادرا على الدفاع على كل كلمة، كلّ جملة، وإذا أمكن يجب أن أعمل على أن تستقل كلماتي بالدفاع عن نفسها حين تتوجه إلى حساسية كل واحد منّا لنتفاعل معها مثل تلك الفرقعة الأليفة للمطر الذي لا تستغني عنه الأرض. مثل تلك الحشود من الورود الغريبة التي يجهض غيابها الربيع.

ولكن تمهل يا عنادي، أيا شيطان الشعر العقلاني تمهل.

ميشيل فوكو:

 المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن

 

 

 

… كانت ظاهرة التخفيف من القسوة الجزائية، خلال القرون الأخيرة، ظاهرة معروفة تماما من قبل مؤرخي الحقوق. ولكن هذه الظاهرة أخذت، ولمدة طويلة، وبشكل إجمالي، كظاهرة كمية: كمية أقل من الفظاظة، كمية أقل من الألم، لين أكثر، احترام أكبر و«إنسانية» أكثر. الواقع أنّ هذه التحولات اقترنت بانتقال في الغرض بالذات الذي ترمي إليه العملية العقابية. تدنٍ في الكثافة أو الزخم؟ ربما. تغيير في الهدف، حتما وبالتأكيد.

فإذا كانت المعاقبة لا توجّه إلى الجسد بأشكالها الأكثر قسوة، فعلى أيّ شيء تصب قبضتها؟ وكان جواب المنظرين، الذين افتتحوا حوالي سنة 1760 حقبة لم تقفل بعد، بسيطا وشبه مؤكد، ويبدو هذا الجواب مدوّنا في السؤال بالذات. إنّ التكفير الذي يتكالب على الجسد استُبدلَ بقصاص يعمل بالعمق على القلب، والفكر، والإرادة والاستعدادات. ولمرة أخيرة صاغ مابلي Mably المبدأ: «فلْيتناول القصاصُ، إن أمكنني التكلم هكذا، الروح قبل الجسم».

لحظة مهمة، فالأنصار القدامى للبذخ في العقاب، الذي يتناول الجسد والدم تراجعوا. ودخلت شخصية جديدة على المسرح، مُقنّعة. لقد انتهت تراجيديا ما، وبدأت كوميديا ومعها أشباح من ظلال، وأصوات بدون وجوه، وكيانات لا يمكن مسّها. وكان على الجهاز العقابي للعدالة، أن يعضّ على هذا الواقع الذي هو بدون جسد. أهو مجرد تأكيد نظري يكذبه التطبيق العقابي؟ إنّ في هذا تسرعا في القول. صحيح أنّ العقاب، اليوم لا يعني ببساطة قلب نفس عن مرامها، ولكن مبدأ مابلي لم يبق مجرد أمنية تقية. فعلى طول المعاقبة الحديثة، يمكن تتبع آثاره.

قبل كل شيء هناك استبدال للأغراض. ولا أقصد بهذا أن أقول إنّهم شرعوا فجأة يعاقبون جرائم أخرى. لا شكّ أنّ تحديد المخالفات، وتراتب خطورتها، وهوامش التسامح، والشيء الذي قُبِل بالواقع، والشيء المسموح به قانونا، كلّ ذلك تغيّر إلى حدّ بعيد منذ مئتي سنة. فجرائم كثيرة لم تعد جرائم، لأنّها مرتبطة بنوع من ممارسة السلطة الدينية أو بنمط من الحياة الاقتصادية، فالكفر فقد وضعيته كجريمة، والتهريب والسرقة من المنزل فقدا جزءا من خطورتهما. ولكن هذه الانتقالات ربما لا تشكل الحديث الأكثر أهمية: فقد احتفظ التقسيم إلى مباح وإلى محظور، من قرن إلى قرن، بنوع من الثبات. في المقابل إنّ الموضوع «الجريمة»، وهو ما يتناوله التطبيق الجزائي، تغيّر بشكل عميق: حيث تناول التغيير النوعية والطبيعة، والجوهر بنوع من الأنواع الذي منه يتكوّن العنصر الخاضع للعقاب، أكثر من تناوله التعريف الشكلي. فإنّ استقرار القانون، نسبيا حمى بدائل لطيفة وسريعة. تحت اسم جرائم وجنح يتناول الحكم تماما ودائما أغراضا حقوقية محددة بموجب التقنين، ولكن الحكم يطول، في الوقت ذاته، الأهواء والغرائز، والشذوذات والمعاطب، والانحرافات، ومفاعيل البيئة أو الوراثة. وتجري معاقبة الاعتداءات، وعبرها تعاقب الاستعدادات الاعتدائية، والاغتصابات، وفي الوقت ذاته الانحرافات وجرائم القتل التي هي أيضا نزعات ورغبات. فيقال: ليست هي التي تحاكم، وإذ نذكرها، فمن أجل تفسير الوقائع التي تجب محاكمتها، ومن أجل تحديد مقدار تورط إرادة الفاعل في الجريمة. جواب غير كاف، فهذه الظلال القائمة وراء عناصر السبب، هي بالضبط التي تُحاكم وتعاقب. إنّها تُحاكم عبر «الظروف المخففة» التي تُدخل قرار الحكم ليس فقط العناصر «الظرفية» للعمل، بل شيئا آخر مختلفا تماما، لا يمكن أن يُدخل حقوقيا في نطاق التقنين وهو: معرفة المجرم، والتقدير الذي نحمله له، وما يمكن أن يُعرف عن العلاقات بينه وماضيه وجريمته، وما يمكن أن نتوقع منه في المستقبل.

عبد القادر الشاوي.. كان وأخواتها

 

تميّزت رواية «كان وأخواتها» للكاتب المغربي عبد القادر الشاوي بأنّ فصولها كُتبت من داخل أسوار السجن واستطاعت أن تخرج مهربة دون صاحبها. إضافة إلى ذلك كانت أوّل رواية مغربية تصور معاناة المعتقلين اليساريين المغاربة خلال حقبة السبعينات. يقول عبد القادر الشاوي، في تقديم الطبعة الجديدة لرواية «كان وأخواتها»، الصادرة سنة 2010، متحدثا عن ظروف كتابتها: «أذكر، على نحو ما، أنني شرعت في كتابة أولى صفحات هذا الكتاب بالضبط، على سبيل التسلية التي كانت تعني في تلك الأيام طريقة الحائرين من أمثالي في تدبير الوقت الثقيل البطيء، في تلك الفترة السياسية والنفسية القلقة، مع بداية صيف 1983. لم تكن دوافعي واضحة، وإن كنت، على الأرجح، أفكّر مليا في تقديم شهادة شخصية حول ظروف الاعتقال شديدة العنف التي كنّا نرزح تحت وطأتها. راعيت في الكتابة الأخذ بمنطلق بدا لي واضحا مهما كلفني ذلك، أعني أن أتكلم عن ذاتي غير هياب، وأن أباغت الموضوعات المفترضة والمدعاة أساسا التي كان يتغنى بها الجميع لأنّها كانت، في الواقع، تقتسم معنا أفرشة الزنازين الرطبة… نعم لقد أحسست بكثير من التردد(ات)، وكدت أضع القلم جانبا في كثير من الأحيان خوفا من «الالتباسات» التي قد تنجم عن النشر والتي كان من الممكن لمن يشهرها في وجهي أن تطوقني بالمسؤولية و«الذنوب»، ولكنني مع ذلك، سرت إلى نهاية الشوط، ربما لأنني، كما أدرك الآن بدون خجل، لم أشارك في حلقات «التطهير الجماعي» الذي كان يُمارس في الساحة على أنقاض تجربة سياسية قتلها أصحابها تقويما ونقدا وتعنيفا وسلخا حتّى تخلصوا منها على مراحل، في الوقت الذي أدركت الكهولة معظمهم ولما لم يفارقوا الجدران. لأقل: كانت لي تجربتي التي تطهرتُ بها من جميع التبعات». وفي خضم النقاش الذي صاحب هذه الرواية منذ صدورها خلال أكثر من عقدين وعلاقته بها، يوضح الكاتب: «لم أبدّل حرفا في هذا الكتاب، وقد يقول قارئ عند الفراغ منه إنّه لم يعد يشبه صاحبه، وقد أقول بدوري، إذا ما داريت طراوته وحرارته وقوته المعنوية المندفعة في القول، إنني لم أعد أجد، بعد أن غيرتني السنون، نفسي فيه. ولكنني أفهم أنّ كلينا، القارئ والكاتب معا، لا نملك أيّ حق لمصادرة أيّ من المكونات الثلاثة: التجربة السياسية، الماضي التاريخي واللغة الأدبية التي اصطنعتها لسرد الوقائع».

 

 

 متوّجون

 عيسى ناصري و«الفسيفسائي»

 

 

تمّ، أخيرا، الإعلان عن بلوغ رواية «الفسيفسائي» للكاتب المغربي عيسى ناصري القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية برسم دورة 2024. وبذلك ستتنافس الرواية لنيل الجائزة رفقة رواية «قناع بلون السماء» للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، و«مقامرة على شرف الليدي ميتسي» للكاتب المصري أحمد المرسي، و«بَاهَبل مكة» للكاتبة السعودية رجاء العالم، و«خاتم سليمي» للكاتبة السورية ريما بالي، وأخيرا رواية «سماء القدس السابعة» للكاتب الإماراتي أحمد العيسة.

يقدّم لنا رواية «الفسيفسائي» الكاتب التونسي عيسى جابلي بقوله: «هذه رواية تُعلّقك منذ المطلع على مشجب التّشويق، ثم تنساب بك في ثنايا السرد وتفرعاته. تبدأ بحكاية محقّق يقرأ رواية عثر فيها أخيرا على فكّ لغز جريمة ظلت تؤرقه ردحا من الزمن، فتخالها إذّاك رواية بوليسية، لكن عيسى ناصري سرعان ما يسحب من فمك الطّعم، فتجد نفسك أمام رواية مضمّنة ومذكرات وتقارير صحفية وأحلام وتهويمات ورؤى، تسافر بك في رحلة التشويق عبر ما يقارب ثمانية عشر قرنا من وجود الإنسان على الأرض. تتفرّع مسارب السرد فتحسبها في صحراء الوجود كالجداول التّائهة، حتّى لا شيء يجمع بينها، وإذا بها تجتمع تدريجيا في نهر الحكاية العظيم. يفرد أمامك الكاتب قطع فسيفساء جمعها من أمكنة وأزمنة متباعدة، ثم يشرع في ترصيفها قطعة قطعة حتّى تتشابك وتتناغم، لتشكل جسد رواية «الفسيفسائي» ببراعة نادرة في السرد الحديث. وحالما تستوي لوحة الفسيفساء، تستيقظ في ذهنك الأسئلة حرّى، بعدما كانت ساكنة في ثنايا الحكي. من أين تنهض الحرية؟ من الذاكرة أم من الإرادة أم من تزاوجهما معا؟ ومن منهما يحدّد الآخر وينحته، الفنّ أم الوجود؟ أليس ما يبقى من هذه الحياة قطعة فسيفساء تقولها وتسلم الباقي إلى النسيان؟ وما النسيان إن لم يكن قطعة فسيفسائك الضائعة أيّها القارئ؟».

 

 

 «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»

 

«إن مفهوم المسؤولية، الذي كان في الماضي مرتبطاً بالواجب الأخلاقي والاهتمام بالآخر، ارتبط اليوم بتحقيق الذات، فأصبح الاستثمار في الذات مشروع الفرد الوحيد. هنا قامت السوق الاستهلاكية بتجريد مفهوم التكاتف الاجتماعي الذي يعزز الوجود المشترك من قيمته. وإذا كان العلماء في الماضي يرون أن المجتمع بدعة اخترعت لجعل الاجتماع الإنساني المسالم ممكناً لكائنات أنانية بالولادة، فإن الحداثة السائلة جعلت من المجتمع حيلة لجعل الحياة الأنانية قابلة للتحقيق لكائنات أخلاقية بالولادة، وذلك بالحد من المسؤوليات تجاه الآخرين.

أصبحنا نعيش في مجتمع معولم من المستهلكين، ومن المحتم أن يؤثر السلوك الاستهلاكي على كل وجوه حياتنا. فالكل اليوم يعيش تحت ضغط أن نستهلك أكثر، وبذلك صرنا سلعًا في أسواق الاستهلاك. يتعرض الأشخاص لقصف متواصل من الإعلانات حتى يقتنعوا بحاجتهم الحتمية لهذه السلع المعلن عنها، ولشراء ما يظنون أنهم يحتاجونه، يعملون لساعات أطول لكسب مزيد من المال. ولكونهم بعيدين عن أسرهم لتلك الساعات الممتدة، فإنهم يعوضون غيابهم هذا بهدايا ثمينة تكلف مزيدا من المال، وهو ما أسماه أحد العلماء «تمدية الحب»، أي جعل الحب مادياً. إن هذا الانفصال العاطفي والغياب الجسدي عن المنزل يجعل أفراد الأسرة الواحدة غير قادرين على تحمل حتى الخلافات التافهة مما يحتمه العيش تحت سقف واحد. لقد أدى الانشغال بالحصول على مزيد من المال، لشراء ما يُظن أنه ضروري لتحقيق السعادة، إلى عدم وجود وقت للحوار والتفاهم والمشاركة والتعاطف.

سيادة المجتمع الاستهلاكي أدت، إذن، إلى أمرين: أولهما ذبول التكافل الإنساني في المجتمعات، والثاني اضمحلال قيم التراحم والتشارك في الأسرة. فالعولمة الاستهلاكية أصبحت تحديا أخلاقياً».

 

المصدر: زيغمونت باومان «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة»

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى