الرئيسيةثقافة وفن

الأزياء التقليدية.. تفاصيل لباس أهل فاس اليومي وللمناسبات والأعياد

الكتاب «لو تكلمت حيطان فاس-13- نعيمة برادة كنون

كانت كل الفتيات من جيلي يرتدين قفاطين جميلة في المناسبات، الاستقبالات، وفي شتى الأمسيات الاحتفالية، بينما كان الأولاد يختارون لأنفسهم حللا تظهرهم بنفس مظهر الرجال الراشدين. عادة، كانت الفتيات والفتيان يتجولون بأزيائهم التقليدية تلك في المدينة العتيقة خلال كل تلك الأعياد الدينية أو المناسبات الاحتفالية الأخرى. كنت أحب تلك اللقاءات، وأرنو لتلك الجولات التي كانت بالنسبة لي استعراضا لبهاء الملابس الجديدة، مما كان يضفي حينها على أزقة فاس حيوية فائقة، ويهبها رونقا رائعا وإيهابا آخر.

مقالات ذات صلة

خالد فتحي نعيمة برادة كنون

 

حرص على حفظ الهوية

على الرغم من أن الأطفال من جيلي كانوا يميلون أكثر فأكثر للملابس التي هي على الشاكلة الأوروبية، إلا أن العائلات حرصت على أن تحافظ على تقاليدنا الخاصة بالزي واللباس.

كم كنت فخورة جدا بارتداء قفطاني الأول الذي قامت والدتي بخياطته لي لأجل الحضور في حفل زفاف ابن خالتها سيدي محمد بنيس. لقد كان زيا فخما لدرجة أني لم أكن أستطيع دوما ارتداءه بسهولة لدى كل مناسبة. لذلك كنت كلما لبسته، أطوف به بفخر كبير لأطول مدة ممكنة. كانت والدتي تقول لي: «زيك الجميل مصمم بعناية. إنه زي مخزني، يتمناه الكل، وتعشقه كل البنات».

حتى الرجال، كانوا يرتدون نوعا خاصا من القفطان أو الجابادور أقل زخرفة من قفاطين النساء. للتخفيف من ألوانه الزاهية، كانوا يلبسون فوقه قطعة من القماش تسمى المنصورية أو الدفينة وهي من قماش ناعم يسمى «حياتى».

يعود تاريخ هذه القطعة إلى الموضة التي أطلقها السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي.

خلال فصل الشتاء، كان الإقبال يشتد على السترات التقليدية المعدة من الأقمشة الدافئة، وكذلك على الجلابة المصنوعة من قماش الحبة (قماش ذو مظهر محبب) المنسوج بشكل رئيسي في مدينة وزان.

كانت الملابس النسائية التقليدية تصمم أساسا من أقمشة ناعمة وحريرية من قبيل «التليجة»، و«الكمخة» (وهو حرير ذو مظهر ثلجي براق) و«جوهرة» (حرير مع خطوط عمودية لامعة) و«الحرير» (وبرنتك ماريشان، دانتيل دو كاليه)، والسوسدي (قماش شفاف).

كانت الألوان تحمل مسميات اختفت من التداول اللفظي في زمننا الحالي: فختي، فنيدي (وردي باهت في نفس لون حلوى تحمل اسم الفنيد)، منيل، شعر الجمل (لونه يقترب من اللون البني الفاتح شبيه بلون جلد الإبل)، سمني (لون الزبدة)، عكري أو زفزوفي (أحمر قرمزي)، قوقي (لون القوق الشوكي)، قلب حموصة (لون قلب الحمص).

بالنسبة للأعياد الدينية ولصلاة الجمعة، كان الرجال يكتفون بارتداء الجلباب الأبيض، وكانوا بذاك المظهر يبدون مثل إخوة توائم متشابهين كأسنان مشط. أما خلال باقي أيام الأسبوع، فكانوا يرتدون ملابس ذات ألوان رصينة.

شيئًا فشيئا، أخذ القفطان المغربي يتربع على عرش الموضة بدول المغرب العربي بفضل تشكيلاته المختلفة وتنوع تطريزاته وأقمشته وزخرفته.

كانت مهن النسيج بفاس تعرف ازدهارا ورواجا منقطعي النظير سواء في المدينة العتيقة أو بحي الملاح، بحيث أن محلات خياطة الأقمشة انتشرت بجميع الأزقة، وهو ما كان يجعلنا نحلم باستمرار أن نرتدي يوما ما تلك الأقمشة الجميلة التي كنا نراها أو نمر بمحاذاتها صباح مساء، وهي تصمم بداخل هذه المحلات.

خلال الحفلات والأعياد، كنت دائما أعيش حالة انبهار بملابس أمي وجدتي وخالاتي وكذلك بملابس وأزياء الضيوف. بشكل عام، كانت النساء تولين منذ ذلك الوقت اهتمامًا خاصًا بأناقتهن. كانت الطريقة التي تربط بها النساء المسنات الأوشحة الحريرية مرغوبة جدا وأصيلة جدا. اليوم تغير الأمر بشكل كامل، إذ صار هناك وشاح ثان صغير يلف حول أعناقهن يتم تثبيته بعناية بواسطة مقبض صغير جدا. كانت أولئك النساء المتقدمات سنا تنفردن أيضا بتزيين آذانهن بأقراط متدلية.

كانت بعض عمات أمي قد خلعن حجابهن وقصصن شعرهن منذ خمسينيات القرن الماضي. إقامتهن بالمدينة الجديدة أو بالدار البيضاء، دفعتهن دفعا لتقليد طريقة الحياة الغربية، كن قد تأثرن أشد ما يكون التأثر بالموضة في انتقاء لباسهن، بل وتأثرن حتى في طريقة تفكيرهن. كن قد اخترن منذ مدة تسجيل أطفالهن لمتابعة دراستهم بالبعثة الفرنسية حتى قبل أن تنشب الحرب العالمية الثانية.. كانت العلاقة بين أولئك الأخوات تنبني على الاحترام المتبادل، وعلى احترام الخيارات الشخصية، ولذلك تمكنت كل واحدة منهن أن تكبر وتترعرع وفق المحيط الذي تحيا فيه، لكن الجدة بطبيعة الحال لم يكن لها إلا أن تحافظ على أسلوبها التقليدي في العيش.

 

صوفيا لورين العائلة

كانت إحدى هؤلاء الخالات، كما درجنا أن نقول، قد أبرمت زواجا ناجحا جدا، واستقرت بالدار البيضاء. كانت تبدو جميلة بشكل لا يصدق، لدرجة أننا كنا نعتبرها جميعا صوفيا لورين العائلة. خالة أخرى كانت قد تزوجت وأقامت بدرب بني عيش، وثالثة تزوجت وسكنت بدرب المتر، أما الخالة الرابعة، فكانت أقلهن حظا، إذ عادت مبكرا لتعيش مرة أخرى بمنزل العائلة بعد وفاة زوجها.

كانت أما لعدد من الأيتام، لذلك كان أخوها غير الشقيق حبيبي سيدي هو من يعتني بها ويتكفل بنفقاتها ونفقات أبنائها. كان البِشْر يعلو محياها على الدوام، بشوشة وجد خدومة، وتضع نفسها رهن إشارة جميع أخواتها، وزيادة على ذلك، كانت تتطوع في كثير من الأحيان للإشراف على تنظيم مختلف الاحتفالات العائلية. لازلت أتذكر الفرصة التي سنحت لي لأتذوق ما أعدته بيديها الماهرتين من حلوى قرون الغزلان اللذيذة، وأطباق البسطيلا الرائعة، وطبق الثريد المعد بالطريقة التقليدية (نوع من الفطائر) الذي يقدم مع الدجاج. كان ذلك بمناسبة حفل زفاف ابنها في منزلهم الواقع في سيدي أحمد بلفقيه عام 1957. لحد اليوم، لا زلت حريصة، بل وضنينة بجميع أطباق الخزف القديمة التي أهدتها لي في حفل زفافي.

كان القاسم المشترك بين خالاتي وجدتي هو إصرارهن على أن يكن متحررات. إذ لم يكن يطقن الخضوع لأي كان، فلم تحاول، ولا واحدة منهن، مداراة زوج مستبد أو مهيمن للعيش تحت جناحه تحت سقف واحد.

في الحقيقة، كن جميعا يحظين باحترام كبير من قبل أزواجهن. وكن يشاركنهم في اتخاذ القرار. لقد تمكن من كسب احترام الجميع بفضل حنكتهن وذكائهن الاجتماعي وقدرتهن الفائقة على التواصل وتحمل المسؤولية، وبالخصوص بفعل الاستقلال المالي الذي حصلن عليه بفضل أنصبتهن في الميراث.

كانت بناتهن اللواتي ينتمين إلى نفس جيل والدتي، قد التحقن للدراسة بالبعثة الفرنسية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بوقت طويل. كان تمكنهن من الحصول على تعليم جيد وتحررهن، عاملان حاسمان مكنَّاهما من اختيار أزواجهن بكل حرية. كن جد مختلفات عن غالبية نساء المدينة العتيقة لتلك الفترة. في الحقيقة، لقد شكلن البذرة الأولى لنموذج عيش لن يلبث أن يتقوى ويتجذر وينتشر بشكل تدريجي داخل كل الأوساط، بل وجسدن مثالا لفتيات عائلات طليعية كانت قادرة مبكرا على حدس الاتجاه الذي ينحو إليه تطور المجتمع. في رأيي، كانت تلك العائلات المتحررة علامة على مدى تأثير العالم الغربي على ثقافتنا.

في الواقع، كانت هناك نماذج أخرى من النساء من ذوات الخلفية البرجوازية أو من المنتميات للطبقة الوسطى، يعشن حياتهن في توازن كامل مع أزواجهن. كانت والدتي تنتمي إلى هذا النموذج، رغم اعتمادها المادي الكامل على والدي.

في تلك الفترة سأكتشف أن إحدى خالات أمي، التي كانت تقدم إلينا من الدار البيضاء لزيارة الجدة، تتمتع بجاذبية كبيرة، وبقدرة خارقة على جذب مستمعيها، الذين كانوا لا يكفون عن التحديق فيها. كانت حللها الفاخرة المصممة خصيصا لها من تخولها تلك الكاريزما الطاغية الآسرة للقلوب.

 

أناقة.. أبا عن جد

بشكل عام، كانت الأزياء في ذلك الوقت جميلة وبهية، إذ كان كل من الرجال والنساء على حد سواء، يحرصون بشكل كبير على أناقة مظهرهم وحسن هندامهم. لم يكونوا متكلفين في ذلك، بل كانوا ينضبطون لتقليد توارثوه أبا عن جد.

غير أن هذه الخالة بالتحديد، كانت ترتدي زيا مختلفا تماما عن الأزياء المعهودة لدي: كانت تلك هي المرة الأولى التي أكتشف فيها قفطانا تقليديا معدلا يحمل لمسة عصرية. كانت جدتي تقول دائما عن هذا القفطان: «قفطانها مرصع بالأحجار شبه الكريمة وبالعقيق والزمرد».

ربما كانت تلك الخالة دون أن تدري واحدة من رائدات القفطان المغربي المُحَدَّث. بالمناسبة، لقد نجحت إحدى بناتها في أن تصطنع لنفسها سمعة عالمية كبيرة، حيث كانت تصمم أزياء العديد من النجوم والعديد من الأميرات الأجنبيات. كانت تلك العمة الجميلة متميزة عن باقي أخواتها حيث تظهر مثل أميرة جميلة محاطة بالوصيفات.

كان اللون الأسود لحقيبتها اليدوية، يبرز ويعلن عن انتمائها للمجتمع المخملي: كانت تعلوه زهرة مطرزة باللونين الأحمر مع تضريس صغير أخضر، وكانت حواف تلك الحقيبة المرصعة بجواهر بيضاء تجعلها شبيهة بالحلي. أتذكر جيدا الآن أن لا الموديل، ولا بقية حليها، كانوا موجودين في فاس.

حكت لنا أمي عنها، فقالت: «دائما كانت تمتاز بأزيائها وحليها الفريدة من نوعها. لقد كانت تتبع مثال للا السعدية. إذ كانت بدورها تستضيف بمنزلها بالدار البيضاء صائغا يهوديا من أصول فاسية ليصمم لها جواهرها». عند زواجي، أهدت لي كل حليها لأتزين بها خلال سبعة أيام كاملة.

للإشارة، كان سلوكا مألوفا بين العائلات الفاسية أن تحمل العروسة الجديدة حلي عائلتها.

كانت خالة والدتي مثل أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة. في حين أن عماتي الأخريات وجدتي، ظللن جميعا مواظبات على ارتداء الأزياء التقليدية والتزين بالحلي العادية التي تتزين بها كل النساء.

ظلت والدتي متأثرة بوسطها العائلي بفاس حيث لم تكن تتأسى أبدا بعماتها البيضاويات. كانت أنيقة وعاقلة في نفس الآن، مثلها في ذلك مثل غالبية نساء عصرها. كان ينطبق عليها المثل الذي يقول؛ «إن المال يجلب الأشياء الفاخرة، بينما لا تكتسب الأناقة إلا من خلال التربية».

بصفة عامة، كانت نساء تلك الفترة يحصلن من أزواجهن على كل ما يرغبن فيه: لقد كن سيدات منزل من الطراز الرفيع… سيدات قادرات على إشاعة جو من القناعة والسعادة الكاملتين داخل بيوتهن. كن أيضا يمارسن عملا صغيرا داخل المنازل يمكنهن من تحقيق مدخول إضافي. كان روتين الحياة اليومية يسلب منهن كل وقتهن، لكنهن كن يعرفن كيف ينظمن أنفسهن لتدبير عدة أعباء في نفس الآن. والأجمل من ذلك كله، أنهن كن يفعلن ذلك بكل تضحية وتفان ونكران ذات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى