حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةفسحة الصيف

الأصل الديني لمفاهيم تبنتها دول تنسب نفسها لـ«العلمانية»

كتاب «اللاهوت السياسي» لكارل شميت

على الرغم من التزاماته السياسية، التي رسخت سمعته، يُعتبر كارل شميت اليوم أحد أبرز شخصيات الفكر السياسي في القرن العشرين، حيث كان تأثيره الخفي عميقًا، سيما في مجال التفكير الدستوري. في نظريته، يُعدّ اللاهوت السياسي عنصرًا أساسيًا في تفسير طبيعة السياسة: «جميع المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة للدولة تقريبًا هي مفاهيم لاهوتية علمانية». لقد أصبح الله القدير المشرّع القدير؛ و«الوضع الاستثنائي» في نهاية المطاف يحمل في طياته المعنى نفسه الذي تحمله المعجزة في القانون. ومن هذا الانتقال الواسع، يُبرز الفقيه والفيلسوف العظيم آثار وعواقب تطور المجتمعات الحديثة. تحت هذا العنوان، تُجمع مقالتان كُتبتا بفارق زمني يقارب خمسين عامًا، عامي 1922 و1969. يتضمن الأول، من بين أمور أخرى، الفصل المتعلق بالسيادة، الذي اشتهرت جملته الأولى – «من يقرر الوضع الاستثنائي هو صاحب السيادة». أما الثاني فهو الرد على انتقادات أي لاهوت سياسي مستوحى من المسيحية، وهي الانتقادات التي طورها اللاهوتي إريك بيترسون في عام 1935 وتم قبولها منذ ذلك الحين كعقيدة.

 

في الحاجة إلى الدين

يناقش الكتاب علاقة السيادة والحُكم باللاهوت، الذي قرنه شميت بالسياسة وأورده في الجزء الأوّل موصوفاً بها (اللاهوت السياسي)، وكذا الردّ على مقولات إريك الذي قال بنهاية اللاهوت السياسي وتفنيدها. واعتبر مراقبون كثر، إثر صدور الجزء الأوّل، أن كارل شميت أوّل من استعمل مصطلح «اللاهوت السياسي» في علم السياسة، وهو يشرحه في الكتاب بالقول إن «مفاهيم النظرية الحديثة للدولة (…) لاهوتيةٌ مُعلمَنة».

برزت في الكتاب ملامح عدّة لمنحى شميت الفكري السياسي؛ فهو يعتبر إعطاء الدستور الرئيسَ وليس البرلمان صلاحية إعلان حالة الطوارئ نقطة إيجابية، فالبرلمان في رأيه يعتمد الحلول الوسط بعد نقاشات عقيمة، والدستور لدى شميت شطران: حقوقي وسياسي، وتقع حقوق الإنسان الأساسية في الأوّل منهما، لكنه يعارض الفكرة التي تنادي بحقوق الإنسان العالمية التي يقول بها الليبراليون. أمّا الدولة الحديثة فيُعرّف ديمقراطيتها بأنّها «هوية المسيطِر والمسيطَر عليهم، والحاكِم والمحكومين، والآمر والمطيعين». ويعتبر شميت جوهر الديمقراطية في مساواة مواطني الدولة واستثناء مواطني الدول الأخرى، مع وجوب التحول عند تهديد النظام العام نحو الديكتاتورية.

أمّا أهمّ ملمح برز في الكتاب فهو تنبؤ شميت، في «نظرية الأنصار» (عام 1962)، بالوضع الدولي اليوم عندما قال: «عصر الكيانات الدولتية انتهى»، ويرى هذا في انحلال الدول ونشوء كيانات جديدة على أنقاضها (الاتحاد الأوروبي مثالاً) يُسمّيها «مجالات»، فالولايات المتّحدة مثلاً «مجال كبير»، والأرض سوف تنقسم إلى «مجالات كبرى» يفرضها التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والثقافة… وبمثل تحوُّل الكيانات إلى «مجالات»، سوف تتحوّل، برأيه، القدرة على احتكار شنّ الحرب من الدول إلى محاربين غير تابعين لدول، متماهين مع أهداف مجموعاتهم، ويضحّون بكلّ شيء لتحقيق أهدافهم، وسمّاهم «الأنصار»؛ وهو ما ينطبق على من يسمّيهم الإعلام اليوم «الإرهابيين» أو «المقاومين» أو «المجاهدين» أو «الثوّار»… وغير ذلك.

فبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، تم وضع دستور جديد لحكم البلاد، وتم وضع هذا الدستور في إقليم فايمر. كان هذا الدستور ممثلًا للنظام الليبرالي في ألمانيا، هذا قبل أن تتحول ألمانيا بالطبع إلى نظام الرايخ الثالث عام 1933، لقد انهارت ألمانيا بانهيار جمهورية فايمر، ورأي الشعب الألماني أن هذا النظام وتلك القواعد الليبرالية لا تصلح معه، واحتاج الشعب الألماني إلى دولة توحده وزعيم قوي وكاريزما يمشي تحت رايته، ليستطيع صد خطر العدو السياسي.

لقد احتاج الشعب الألماني وقتها إلى نظرية سياسية أو قانون يمكّنه من الوصول إلى الدولة القومية القوية التي يحتاجها، وكان هذا يستدعي الخروج من السياسة التقليدية والتفكير بشكل آخر للوصول إلى هذا النموذج، هذا ما فعله كارل شميت، لقد صاغ نظرية اللاهوت السياسي، ليس المقصود باللاهوت السياسي تراجعا عن العلمانية، أو تراجعا عن فصل الدين عن الدولة الذي شهدته الدول الحديثة في تلك الفترة، وإنما معناه محاولة لوضع نظرية سياسية جديدة تهتم بالفعل السياسي الديناميكي أو المتشكل والمتغير حسب الحالة، بدلًا من النظام الثابت المتمثل في الليبرالية.

لقد ميعت الليبرالية الفعل السياسي، فجعلت هناك قوانين لا يمكن تجاوزها أو اختراقها، وقضت على قومية الدول وهويتها كما ذكرنا سابقًا، ومن أجل خلق دول قومية مرة أخرى تهتم بمصلحة شعبها فقط وتميز بين الصديق والعدو. كان لا بد من استحضار الذات الإلهية أو الدين ولكن كمفهوم معنوي فقط، المقصود هو أنه يجب أن تتعامل الشعوب، متمثلة في قياداتها، بحدة أكثر مع المفاهيم السياسية، فيمكنها أن تكون قاسية ويمكنها أن تشن الحروب إذا أحست بخطر داهم على شرعيتها داخل أراضيها.

 

دولة السيادة الشعبية

دولة السيادة الشعبية هي تلك الدولة التي تهتم بالداخل وتوحده، وتقضي على أي محاولات خارجية لتغير وحدة هذا الداخل أو تفكيكه، كما أنه لا توجد قوانين محددة تحكمها وتحد من تصرفها السياسي، فالقانون والحكم يتم تمثيلهما في دكتاتور كاريزمي ترجع إليه كافة التصرفات ويثق به الشعب ويختاره، ويمكن لهذا الدكتاتور تقليص بعض الحريات الفردية كما يمكنه أن يفرض حالات استثنائية للحد من البلبلة التي قد تحدثها الليبرالية، أو تحدثها بعض العناصر الخارجة من داخل الدولة، والتي قد تحدث الفرقة والانقسام في الدولة.

هذا الشكل الصارم من النظام السياسي الذي يتمثل في دكتاتور، وفي تحريم وتحليل الأوضاع داخل الدولة، وفي التصرف وأخذ القرارات الديناميكية، إنما يمثل بشكل من الأشكال دور الإله أو دور الدين.. فكما ساهم الدين سابقًا في إرشاد الناس ووضع قواعد على تصرفاتهم غير المحكومة والمؤدية إلى خراب الحال وساهم في توحيدهم واختيار الخير والصلاح لهم، فقد يساهم نظام السيادة الشعبية هذا في الحفاظ على الدولة من المؤامرات والتدخلات الخارجية، ويحافظ على قوة الدولة ووحدتها وضمان عدم خضوعها لدول أخرى أو احتياجها لكيانات وهويات أخرى لإدارة أحوالها.

يتضمّن الجزء الأوّل من اللاهوت السياسي أربعة فصول عن مفهوم الحكم؛ أغفل شميت في الفصلين الأولين أيَّ ذكر للاهوت، وخصّصهما للحديث عن سيادة الدولة ونقد آراء مفكّرين سابقين أو معاصرين فيها. وفي الفصل الثالث حاول إثبات علاقة وثيقة بين علمَي اللاهوت والتشريع، واستعرض تطوّر نظرة اللاهوت الحديث إلى السياسة والقانون والسوسيولوجيا، من خلال عرض مسهب ومركَّز ونقدي لطروحات مفكّرين عالجوا هذه المسألة. أمّا الفصل الرابع فخصّصه لنقد فلسفة الدولة عند مفكّرين كاثوليك يمثّلون تياراً «مضادّاً للثورة» في اللاهوت السياسي، وهم: جوزف دو ميستر، ولويس دي بونالد ودونوسو كورتيس.

أمّا الجزء الثاني، «أسطورة إنهاء كل لاهوت سياسي»، فكتبه شميت عام 1969 ونشره بداية 1970، وخصّص فصوله الثلاثة لتفنيد ما نعته بـ«الأسطورة»، وهي مقولة إريك بيترسون ‎«إنهاء اللاهوت السياسي» التي نصّ عليها في كتابه «التوحيد باعتباره مشكلة سياسية.. مساهمة في تاريخ اللاهوت السياسي في الإمبراطورية الرومانية» (1935).

عرض شميت في الفصل الأول من الجزء الثاني محتويات مقولة بيترسون، اللاهوتي البروتستانتي الذي اعتنق الكاثوليكية، ونفذ من نقاط ضعفها لتفنيدها، بعد أن هاجم بشدّة من يأخذ بها. وفي الفصل الثاني استعرض شميت تطوّر نظريات اللاهوت السياسي منذ عشرينيات القرن العشرين إلى ستّينياته؛ أي في الفترة الفاصلة بين جزأَي كتابه الأوّل والثاني، معتبراً أن إنهاء أيّ لاهوت سياسي لا يرتبط قطعاً بإنهاءات ملحدة وفوضوية ووضعية، وبالأخص مع بيترسون، الذي لا يعتبره شميت وضعياً ككونت، ولا فوضوياً كبرودون وباكونين.

أمّا الفصل الثالث، فاعتبر أن كتاب بيترسون المذكور أطروحة تاريخية فيلولوجية تقتصر مصادرها موضوعياً على القرون الأولى للمسيحية، وتعالج ملاحظاتها هذه الحقبة فحسب، كما أنّها تشير إلى إدخال «أطروحة» كتبها شميت مصطلح «اللاهوت السياسي» (أي هذا الكتاب)، ليخلص لا منطقياً إلى الاستحالة اللاهوتية للاهوت السياسي.

 

تأثيرات كارل شميت

اللاهوت السياسي علم يقع على مفترق الطرق بين الفلسفة السياسية والمفاهيم اللاهوتية. وغالبًا ما كان هذا العلم مرتبطا بالمسيحية، لكن منذ القرن الحادي والعشرين، تمت مناقشته حديثًا في ما يتعلق بالأديان الأخرى، حيت أصبح اللاهوت السياسي يركز بشكل خاص على الطرق التي يمكن أن تنطوي بها المفاهيم اللاهوتية وأنماط التفكير أو التبرير أو التحليلات أو الالتزامات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية. واستخدم هذا المصطلح نفسه في مختلف المفاهيم والأسئلة المختلفة تمامًا وفقًا للعصور والمؤلفين.

يستخدم مصطلح «علم اللاهوت السياسي»، في كثير من الأحيان، للدلالة على الفكر الديني حول الأسئلة المبدئية في السياسة. واستخدمه علماء مثل كارل شميت للإشارة إلى المفاهيم الدينية التي أضحت علمانية وبالتالي أصبحت مفاهيم سياسية رئيسية، كما أن هناك مصطلح آخر غالبًا ما يشغل مساحة مماثلة في الخطاب الأكاديمي هو «علم اللاهوت العام». يقال إن اللاهوت السياسي موجه أكثر نحو الحكومة أو الدولة، في حين أن علم اللاهوت العام أكثر تجاها نحو المجتمع المدني.

تميزت أفكار الفقيه القانوني والدستوري والفيلسوف السياسي كارل شميت (1888-1985) بإشكاليتها وإثارتها الجدل، وإدانة كثيرين لها؛ بوصفها أيديولوجيا تقوم على إكبار نموذج الدولة الدكتاتورية، وإبراز محورية دور القائد السلطوي فيها التي بدت كأنها احتفاء بصعود هتلر إلى سدة الحكم في ألمانيا النازية، وتبرير للحروب التي خاضها هتلر وللجرائم التي ارتكبها، سيما أن شميت كان عضوًا سابقًا في الحزب الاشتراكي القومي الألماني/ النازي، وشارك، بعد أيام قليلة من التحاقه بالحزب، في إحراق كتبٍ لكتّاب غير ألمان، ونادى بتطهير أوسع، يشمل كتب المؤلفين المتأثرين باليهودية وأفكارها، إضافة إلى مطالبته بإزالة أيّ أثر يهودي في القانون الألماني، واعتباره مسألة الهولوكوست جزءًا جذابًا من شيطنة الدولة العلمانية الحديثة. إلا أن النازيين لم يطمئنوا إليه ووجدوا فيه ضعف عداءٍ لليهود أو للسامية، فأخرج، بعد سنوات قليلة، من الحزب.

ولكن، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، قُدّم شميت إلى محكمة نورنبيرغ الخاصة بمحاكمة النازيين ومرتكبي الجرائم، إلا أنها فشلت في العثور على أدلة تدينه بالقيام بأعمال نازية تستدعي المحاكمة والتجريم.

وعُيّن شميت، بعد انتسابه إلى الحزب النازي، رئيسًا لتحرير «الجريدة الحقوقية النازية»، ونشر فيها مقالة بعنوان «القائد يحمي القانون» تبريرًا للاغتيالات التي قام بها هتلر ضد معارضيه، وطوّر نظريته في القيادة الاستبدادية في الظروف الاستثنائية.

تميزت أفكار شميت بأهميتها، خاصة في حقل السياسة والعلاقات الدولية، ذلك أنه عُرف بنقده الديمقراطية والنظام الليبرالي. صدرت لشميت أعمال عديدة تمثّلت بكتيّبات صغيرة، كان أهمها العلم الدستوري، وكتابه اللاهوت السياسي في طبعته الثانية المعدّلة وفي النسخة العربية المترجمة جزآن: يبحث الجزء الأول منه مفهوم الحكم ودور القانون وشرح اللاهوت السياسي، في حين يدور الجزء الثاني حول رد شميت على إيريك بيترسون(1890-1960) ، ومجموعة المفكرين الذين نظّروا لانتهاء اللاهوت السياسي. ونشر شميت الجزء الأول في عام 1922 بعنوان اللاهوت السياسي، ثم أعاد تنقيحه وطبعه في برلين في نونبر 1933، أي في العام الذي صعد فيه هتلر إلى السلطة، ويبدو فيه تأثره الشديد بتوماس هوبز (1588-1679) الذي يبني في كتابه اللفياثان Leviathan نظرية العقد الاجتماعي على الخضوع إلى سلطة ذات قوة وسيادة مطلقتين.

أما في الجزء الثاني من الكتاب الصادر في دجنبر 1969، فعاد شميت من جديد ليدافع عن آرائه المطروحة في الجزء الأول، وليردّ على نحو منهجي محكم على الآراء الناقدة للاهوته السياسي التي وصفته بالمنتهي، كاشفًا بذلك الثغرات التي تخللت حجج معارضيه.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى