الانهيار الجديد لليرة التركية
يخوض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حروبا ضروسة على أكثر من جبهة هذه الأيام، سواء في ليبيا أو سوريا، ولكن الحرب الأخطر في رأينا تتعلق في كيفية منع انهيار العملة المحلية (الليرة) للمرة الثانية في غضون عامين لما يمكن أن يترتب عن ذلك من مصاعب اقتصادية داخلية في زمن كورونا الصعب.
قبل أيام معدودة انخفض سعر الليرة إلى 7.2 مقابل الدولار، وهو السعر نفسه تقريبا الذي سجلته أثناء أزمة عام 2018 كنتيجة للحرب الاقتصادية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب احتجاجا على اعتقال القس الأمريكي أندرو روبنسون، وانخراط الحكومة التركية في مفاوضات مع روسيا لشراء منظومة صواريخ «إس 400» مع الأخذ في عين الاعتبار تأثيرات انتشار فيروس كورونا السلبية الحالية على الاقتصاد التركي، وزيادة العجز في الميزانية العامة، ووصوله إلى 6.3 مليارات دولار في شهر إبريل الماضي، وارتفاع الدين العام إلى أكثر من 400 مليار دولار.
وكالة «رويترز» الدولية للأنباء ذكرت في تقرير لها أن الحكومة التركية طلبت المساعدة من حلفائها بضخ مليارات الدولارات كاستثمارات وودائع في البنك المركزي لمنع انهيار الليرة، حيث أجرى مسؤولو وزارة الخزانة، والبنك المركزي محادثات ثنائية في الأيام القليلة الماضية مع نظرائهم في اليابان وبريطانيا بشأن إنشاء خطوط مبادلة عملة، ومع قطر والصين بشأن زيادة حجم تسهيلات مالية قائمة.
عدم التجاوب مع هذه الطلبات سيؤدي إلى زيادة الانخفاض في سعر الليرة، على غرار ما حدث قبل عامين، حيث فقدت نصف قيمتها في أيام معدودة، مع الأخذ في الاعتبار أنه قبل عامين كان الدخل السياحي في ذروته، ويضخ حوالي 45 مليار دولار سنويا في الخزينة التركية، وفي الوقت نفسه لم تكن تركيا متورطة عسكريا في الحرب الليبية بالصورة التي هي عليه الآن حيث أرسلت قوات ومعدات ثقيلة وطائرات مسيرة إلى حليفها فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق المعترف بها دوليا، لدعمه في مواجهة قوات الجنرال خليفة حفتر التي تحاصر العاصمة طرابلس.
أعداء الرئيس أردوغان كثر، وتشمل القائمة معظم دول الجوار التركي مثل قبرص واليونان وسوريا، إلى جانب مصر والإمارات وفرنسا وروسيا، وذكرت وكالة أنباء «الأناضول» الرسمية أن هناك مؤسسات مالية في لندن تشن حربا شعواء على الليرة التركية، أبرز أوجهها امتصاص العملات الصعبة من الأسواق التركية المحلية.
الدعم القطري للحليف التركي شبه مؤكد، فالسلطات القطرية التي ضخت 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي، أثناء أزمة الليرة عام 2018 على شكل استثمارات، لن تتردد في الإقدام على الخطوة نفسها هذه المرة، فتركيا هي الدولة الوحيدة التي سارعت إلى نجدة قطر لكسر الحصار الذي فرضته عليها كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وأقامت قاعدة عسكرية على أرضها يوجد فيها حوالي 30 ألف جندي تركي بكامل معداتهم للتصدي لأي تدخل عسكري خارجي لتغيير النظام في الدوحة، لكن حجم هذا الدعم ما زال غير معروف، بالنظر إلى الظروف المالية الصعبة التي تواجهها الحكومة القطرية بسبب التراجع الكبير في عوائد النفط والغاز، وتصاعد تكاليف الحرب في ليبيا وسوريا، ورصد مليارات الدولارات لمواجهة أزمة الكورونا، حيث تعلن قطر عن حوالي 1500 حالة إصابة في المتوسط يوميا، ووصل الرقم الجمعة الماضي إلى حوالي 1950 حالة.
انهيار الليرة قد يؤدي إلى تعرض حكومة الرئيس أردوغان إلى ضغوط داخلية مكثفة من أحزاب المعارضة التي وسعت دائرة انتقاداتها، وباتت تلوح باحتمالات حدوث تغييرات جذرية في قمة السلطة، والتهديد المبطن بانقلاب عسكري جديد، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة وإلغاء النظام الرئاسي.
لا نعرف كيف سيخرج الرئيس أردوغان من هذه الأزمات، في ظل حالة الانقسام في حزبه، وخوضه حربي استنزاف في سوريا وليبيا في الوقت نفسه، وتدهور علاقاته مع أمريكا التي تضغط لإلغاء صفقة منظومات صواريخ «إس 400» الروسية، وروسيا التي تتهمه بالتواطؤ مع منظمات إرهابية في إدلب، وخرق اتفاق سوتشي حول حلب.
سياسة «صفر مشاكل» التي أبقت حزب العدالة والتنمية في الحكم 20 عاما تقريبا تآكلت، وبات مُنَظرها أحمد داوود أوغلو يتزعم حزبا معارضا، والشيء نفسه يقال عن علي باباجان، مهندس المعجزة الاقتصادية التي جعلت من تركيا تحتل المرتبة 17 على سلم الدول العشرين الأقوى اقتصاديا في العالم الذي شكل حزبا آخر يحظى بدعم عبد الله غول، الرئيس التركي السابق، وشريك الرئيس أردوغان في تأسيس الحزب الحاكم.
أمام الرئيس التركي خياران أحلاهما مر لحل أزمة الليرة، الأول رفع سعر الفائدة، مما يعني ارتفاع معدلات التضخم وغلاء المعيشة، والثاني اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وقروضه، مما يؤسس لتبعية وفتح أبواب الاقتصاد التركي لتدخلات وشروط الصندوق، ولهذا يصر على رفضها كليا، وهذا ما يفسر لجوءه إلى أصدقائه طلبا للمساعدة على أمل النجاة، وإنقاذ الليرة من الانهِيار.
أيام تركيا القادمة صعبة جدا، والخروج من الأزمة بشقيها السياسي والاقتصادي يحتاج إلى قرارات استراتيجية جريئة على أكثر من جبهة، ومع أكثر من طرف، فهل يفعلها الرئيس أردوغان؟ لدينا الكثير من الشكوك في هذا المضمار بحكم تجارب سابقة مماثلة.. والله أعلم.
نافذة:
أمام الرئيس التركي خياران أحلاهما مر لحل أزمة الليرة، الأول رفع سعر الفائدة، مما يعني ارتفاع معدلات التضخم وغلاء المعيشة، والثاني اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وقروضه، مما يؤسس لتبعية وفتح أبواب الاقتصاد التركي لتدخلات وشروط الصندوق