التاريخ المنسي لإضرابات وزارة التعليم
الحقيبة الملغومة التي أطارت وزراء من مناصبهم

إضرابات التعليم الأولى، رأت النور، إن صح هذا التعبير طبعا، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. إذ احتج المعلمون والتلاميذ على الظهير البربري، الذي كانت الحركة الوطنية ترى فيه محاولة لتقسيم المغرب. وهكذا اقترن أول إضراب للتعليم بالمقاومة ضد الحماية الفرنسية. ومباشرة بعد الاستقلال كانت إضرابات التعليم انعكاسا للاحتقان السياسي، خصوصا وأن أغلب المعنيين بالاضطرابات السياسية كانوا يشتغلون في قطاع التعليم. وهكذا تأثر القطاع كثيرا بأحداث يوليوز 1963، ثم بأحداث مارس 1965، ومرت أجواء السبعينيات بغيومها، وألقت بظلالها على قطاع التعليم وعلى المعلمين والتلاميذ، سيما وأن أغلب المظاهرات التي خرجت احتجاجا على أوضاع التعليم في المغرب وقتها، وُجهت إلى أصحابها تهمة إقحام قطاع التعليم واستغلال التلاميذ للتعبير عن مواقف سياسية. لكن تمسك رجال التعليم بأن مطالبهم كانت إدارية واجتماعية، جعل الدولة مرات كثيرة تجلس مع النقابيين لحل مشاكل التعليم، وهنا سطع نجم بعض الأسماء، على رأسها نوبير الأموي الذي كانت له صولات وجولات مع إدريس البصري.. رمز قمع الإضرابات.
يونس جنوحي
هكذا حاول إدريس البصري تطويق الإضرابات
عندما كان إدريس البصري على رأس وزارة الداخلية، حدثت في عهده إضرابات شلت التعليم، وساد نوع من التذمر بشأن الظروف التي يزاول فيها أغلب المنتسبين إلى القطاع مهامهم، خصوصا بعد تزايد أعداد العاطلين من خريجي الجامعات المغربية، نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.
وزير الداخلية كان وراء ابتكار سياسة إدماج خريجي الجامعات المغربية في وزارة الداخلية، واستفاد المئات من تعيينات وتكوين في مجال الإدارة، وتم إلحاقهم بالعمالات الترابية. كانت تلك خطوة ذكية امتص بها إدريس البصري غضب خريجي الجامعات المغربية، لكن مشكل إضرابات التعليم بقي قائما ولسنوات.
كان إدريس البصري أيضا العقل المدبر لإغراق الجامعات المغربية بأسماء محسوبة عليه، لإفشال مخططات الإضرابات التي كانت تشنها الحركة الطلابية، سيما في الرباط وظهر المهراز بفاس، حيث كان الموقعان الجامعيان بؤرة للعمل السياسي المحسوب على المعارضة. وإدريس البصري لم يكن ليسمح بأن تسيطر المعارضة على باحات الجامعات. وهكذا، فإن عددا من الأساتذة الجامعيين المُعينين في الجامعات المغربية، ممن كان معروفا أنهم من أصدقاء إدريس البصري، لاحقتهم تهمة التجسس على الطلبة. ولم يكن الأمر سرا، بل كان معروفا في الأوساط الجامعية، خصوصا وأن بعض هؤلاء الأساتذة لم يكونوا يُخفون علاقتهم بإدريس البصري، بل كانوا يترشحون في الانتخابات، ويتباهى بعضهم بأنهم مرشحون فوق العادة، وبدعم من وزير الداخلية شخصيا.
محاولات إدريس البصري لاحتواء الإضرابات، واستباق وقوعها، خصوصا في مجال التعليم، تكللت بمواجهات كلامية نارية بينه وبين نوبير الأموي، النقابي الذي جاء من قطاع التعليم واعتلى عرش التمثيلية النقابية الأكثر شعبية في مغرب الثمانينيات والتسعينيات. ومن أطرف ما يُروى على لسان من عاشوا هذه الكواليس بين الرجلين، أن إدريس البصري كان يحاول دائما استفزاز نوبير الأموي، الذي عاش تجربة السجن، بسبب مواقفه الحزبية والنضالية، مستغلا انتماءهما «العروبي» معا، ويتفوه أمامه بمعان وحكم قديمة شهيرة في منطقة ابن أحمد ودكالة. وكانت هذه «النكات» على طرافتها أحيانا، وحمولتها السياسية أحيانا أخرى، سبيلا لانفراج في الأجواء بين النقابات ووزارة الداخلية.
راج أيضا أن وزراء التعليم السابقين الذين مروا من الوزارة في فترة وجود إدريس البصري في وزارة الداخلية، ما بين سنتي 1977 و1999، كانوا ينصهرون في ظله، بحكم أنه كان متحكما في قطاعات الوزارة، الإقليمية منها خصوصا، وكان يتجاوز صلاحيات وزير التعليم، ويشرف بنفسه باعتباره وزيرا للداخلية، على اجتماعات مصيرية لاحتواء مشاكل النقابات التعليمية. ورغم هذا كله، فقد مر قطاع التعليم في فترة وجود إدريس البصري بأزمات حقيقية، أشهرها إضرابات 1981، وأحداث 1984 التي كانت المدارس وأسرة التعليم جزءا لا يتجزأ منها. ورغم أن الوزير بعد مغادرته لمنصبه، أعلن أكثر من مرة براءته من أي مسؤولية سياسية وحتى أخلاقية من تلك الأحداث، إلا أن ظلها لا يزال يلاحقه.
إضرابات التعليم.. قلعة حصينة تخرج منها أعتى المعارضون
متى بدأت أول إضرابات قطاع التعليم في مغرب الاستقلال؟ الجواب عن هذا السؤال يستدعي استحضار المحطات السياسية الكبرى وأيضا «الدامية»، التي عرفتها البلاد منذ بداية الستينيات تقريبا. ففي السنوات الأولى للاستقلال، كان هناك نوع من الحماس أثناء العمل على تأسيس التعليم المغربي، تحت إشراف وزارة التعليم المغربية. لكن مع دخول منعطف الستينيات، وظهور المعارضة الشرسة للنظام، وانضمام أغلب رجال أسرة التعليم إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بدأت أول الإضرابات التي كانت تطالب بالإفراج عن رجال التعليم المعتقلين في أحداث يوليوز 1963. وسرعان ما تطورت تلك الاحتجاجات لتصبح ذات صبغة إدارية واجتماعية، سيما في محطة 23 مارس 1965. إذ إن المظاهرات خرجت في البداية ضد قرار الوزير بلعباس التعارجي، الذي أجرى تعديلا في شروط قبول التلاميذ في المدارس العمومية، وسن قرارا لم يكن في صالح التلاميذ الذين كرروا السنة الدراسية للمرة الثانية. هذا الحرمان من الحق في التمدرس، ووجه بغضب شعبي عارم وخاضت المدارس إضرابا وطنيا شاملا. لكن عندما نزل التلاميذ في الدار البيضاء إلى الشوارع، فوجئ المتظاهرون بقوات الأمن وهي تطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ليسقط مئات الضحايا بينهم تلاميذ، وتحتقن الأجواء في المغرب. وُجهت أصابع الاتهام وقتها إلى الجنرال أوفقير، وشهدت قاعة البرلمان المغربي مواجهات ساخنة بين برلمانيي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ووزير التعليم، وبقية أعضاء الحكومة الذين كانوا يتبرؤون من مسؤولية الدماء التي سالت في شوارع الدار البيضاء.
ومع انتهاء حالة الاستثناء التي بدأت منذ شتنبر 1965، أي مباشرة بعد بداية الموسم الدراسي الذي تلا تلك الأحداث الأليمة، وامتدت إلى حدود بداية السبعينيات، دخل قطاع التعليم في مرحلة جديدة، خصوصا وأن بعض التعديلات في النظام الأساسي كانت قد أجريت لامتصاص غضب الشغيلة في القطاع.
لكن مع منتصف السبعينيات، وبسبب الأحداث السياسية المعقدة والعنيفة التي عرفها المغرب، دخل قطاع التعليم من جديد في مرحلة احتقان، ولم يشهد انفراجا إلا بعد أن مرت التمثيليات النقابية بجلسات ماراثونية مع المسؤولين الحكوميين للخروج بحلول.
زُج بعدد من رجال التعليم في السجون بتهم بعضها سياسي وآخرين بتهم نقابية، وكان ملف هؤلاء الأساتذة على رأس أولويات النقابة المحسوبة على حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي كان يترأسه وقتها عبد الرحيم بوعبيد.
الظهير البربري وراء أول إضراب تعليم عرفه المغاربة
الظهير البربري الذي هندسه الفرنسيون رسميا، بعد سنوات من الإعداد والتحضيرات، وأعلنوا عنه منذ 16 ماي 1930، كان سببا في عدد من الإضرابات والمظاهرات التي عرفها المغرب، طوال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات. وبسبب موقف عدد من الأساتذة القدماء، الذين كانوا يجمعون بين التدريس والفقه، من هذا الظهير البربري، شنت الحماية الفرنسية موجة نفي واسعة لعدد من المثقفين المغاربة. وتبقى جامعة القرويين في فاس، البؤرة التي انطلقت منها الأحداث المتعلقة بتداعيات الظهير البربري، لكي تشمل المغرب كاملا.
لم تكن الأقسام الداخلية في جامعة القرويين تخلو من النقاش السياسي في صفوف الطلبة والفقهاء، فقد سبق لسلطات الحماية الفرنسية أن ضربت بقوة لقمع المظاهرات التي كانت تخرج من أماكن مبيت طلبة جامع القرويين. وقد حكى بن سعيد آيت إيدر، أحد أقدم مناضلي جيش التحرير المغربي، في مذكراته عن تلك الفترة التي كان فيها هو الآخر تلميذا في الجنوب المغربي، قائلا: «وكرد فعل على ما تعرض له طلبة القرويين من قمع واعتقالات، قمنا نحن بإضراب عام عن الدراسة، احتجاجا على سياسة العنف التي نهجها المستعمر ضد إخواننا في فاس. هنا لجأت سلطات الاحتلال إلى الباشا التهامي الكلاوي لإيقاف المظاهرات، فاستعمل بدوره وسائل قمع تقليدية قديمة تجلت في جلد الطلبة مائتي جلدة، وحك الفلفلة السودانية على أفواههم.. وكان من ضحايا هذه الحملة، محمد الفقيه البصري وعبد السلام الجبلي وعمر البيضاوي وبوشعيب الدكالي. أما أنا فكنت ضمن خلية القيادة الخلفية التي لم تكن معروفة لدى عملاء الاستعمار. الذي حال دون أن يشملني الاعتقال والانتقام. لم يتوقف الإضراب ونشط العملاء لإفشاله، فما كان مني رفقة زميل آخر ينحدر من دكالة، إلا التعرض لأحد هؤلاء العملاء وإشباعه ضربا».
إلى جانب بن سعيد آيت إيدر، كانت هناك أسماء أخرى عاشت الأحداث نفسها تقريبا في مراكش، ولو من زاوية أخرى. فهذا الجيل الذي درس أبناؤه ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، عاش محطات سوداء من تاريخ التعليم المغربي امتزجت فيها الإضرابات في قطاع التعليم المغربي أيام الحماية، بالدماء.
من بين هؤلاء نجد كلا من عبد الرحمن اليوسفي، الذي جاء من مدينة طنجة لكي يستكمل دراسته بين الرباط ومراكش، وأيضا نجد امحمد بوستة، المراكشي الذي تأثر كثيرا بالحركة الوطنية وانتمى لحزب الاستقلال، رغم مخاطر مزاولة أنشطة طلابية وسياسية في مدينة يحكمها الباشا الكلاوي، العدو الأول للوطنيين المغاربة.
هؤلاء الثلاثة عاشوا أجواء المظاهرات الطلابية التي احتج فيها الآلاف ضد الظهير البربري، ورأوا كيف تدخلت القوات الفرنسية بعنف مبالغ فيه أحيانا، لقمع المظاهرات. كانت هذه الأنشطة التلامذية حاسمة في رسم المسار السياسي لهؤلاء الثلاثة الذين تحولوا في ما بعد إلى مناضلين في الصف الأول، سواء في صفوف حزب الاستقلال قبل استقلال المغرب، أو في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بالنسبة إلى اليوسفي وآيت إيدر، أيام معارضة نظام الملك الراحل الحسن الثاني.
أما عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يزاول مهنة التعليم في ثلاثينيات القرن الماضي في مدينة سلا، فقد كان في قلب هذه المظاهرات التي تحث على الاحتجاج ضد قرارات وسياسة الإدارة الفرنسية في المغرب. وقد ساهم من منصبه وقتها في استمالة أسماء كثيرة، بينها مئات التلاميذ، لكي يصبحوا مناضلين في حزب الاستقلال، حتى أن اسم عبد الرحيم بوعبيد كان في مقدمة لائحة غير المرغوب فيهم لدى الإدارة الفرنسية.
أحداث سوداء شلت القطاع.. مظاهرات 23 مارس واختفاء بن بركة
أحد الذين عاشوا تقلبات الأحداث سنة 1965، هو الدكتور محمد وراضي، الذي اشتغل سابقا أستاذا جامعيا في تخصص الفلسفة. فقد راكم إلى جانب التمدرس في المعهد الإسلامي بتارودانت، ولقائه برموز الحركة الوطنية في الجنوب المغربي، تجربة النضال في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سنة 1965 التي حصل فيها على شهادة البكالوريا. يقول في حوار سابق مع «الأخبار»:
«اجتزت امتحان البكالوريا في ثانوية الحسن الثاني بالرباط. لم تكن هناك إمكانية لاجتياز البكالوريا في سلا، لذلك كان علينا أن نتجه إلى الرباط لاجتياز الامتحان. كانت تلك السنة مشحونة، خصوصا وأن الاحتجاجات كانت في الدار البيضاء. تابعنا ما كان يقع، وكانت الأخبار القادمة من الدار البيضاء تقول إن المتظاهرين ووجهوا بالرصاص الحي. (..) مرت تجربة البكالوريا بخير، وفور نجاحي اتجهت إلى أكادير لأزور العائلة، وعدت إلى الرباط للاستعداد لاستكمال دراستي الجامعية. وأريد هنا أن أشير إلى أنني كنت في الخامسة والعشرين عندما اجتزت الامتحان، وهذا التأخر راجع إلى الظروف التي عشتها في الطفولة والدراسة في المساجد العتيقة. التأخر في دخول المدرسة النظامية أثر على مساري بشكل واضح. المهم، بمجرد ما عدت إلى الرباط لكي أتسجل في الجامعة، كنت أفكر في دراسة الحقوق، وعزمت على وضع ملفي هناك، وتزامن هذا الأمر مع حدث اختفاء المهدي بن بركة».
تجربة اختفاء المهدي بن بركة أودت بالدكتور محمد وراضي في السجن. فقد حكى لـ«الأخبار» كيف أن توزيع المناشير التي تطالب بكشف مصير المهدي بن بركة، كان وراء اعتقاله. يقول: «كان الخبر صاعقا، خصوصا وأنني كنت منخرطا في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكنا وقتها كشبان نرى أن اختفاء المهدي بن بركة تهديد صريح للحزب، وهكذا قررنا نحن الشباب أن ننخرط في أشكال نضالية للتنديد بالاختطاف.
لذلك عزمنا على طبع عدد من المناشير، وكان هذا بعد أسبوعين تقريبا من الاختطاف. وتكلفت بتوزيعها في بعض المناطق. كانت تلك المناشير تحتوي على خطاب يستنكر اختطاف المهدي بن بركة وتطالب بالكشف عن مصيره، وما إن كان قد قُتل أو سُجن، كما كان تطالب أيضا بكشف الجهة الخاطفة.
في ذلك اليوم جئت من سلا، صعدت إلى مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وأحضرت أزيد من 300 منشور، أخذتها معي إلى المنزل وبقيت معي. وقفت في ممر يؤدي إلى مدرسة النهضة، قرب باب النهضة. وعندما كان التلاميذ يمرون إلى الثانوية، كنت أوزع عليهم المنشور، وبينما أنا في غمرة توزيع المناشير، وقف علي «بوليس سري»، بملابس مدنية وألقى علي القبض متلبسا بتوزيع تلك المناشير.
لم تكن لدي تجربة في ذلك الوقت، ولم أحسب فرضية أن يتم اعتقالي نهائيا. لم أفكر حتى في رمي المناشير أو الهرب، بل بقيت واقفا أنظر إليه إلى أن اعتقلني.
أخذني إلى الكوميسارية ومعي المناشير التي صودرت معي. كوميسارية قديمة في سلا داخل الأسوار. خضعت لاستنطاق وما لا بد منه من لكمات وضربات لإجباري على الحديث.
سألوني عن مصدر تلك المناشير وعن انتمائي الطلابي. بقيت معتقلا لديهم ليومين، نقلوني في سيارة بعدها إلى المحكمة، ومن المحكمة أخذوني إلى السجن.
أعتقد أنهم عرضوني على قاضي التحقيق أو وكيل الملك، لم أعد أذكر. المهم أنني مَثُلْتُ هناك وأعاد طرح الأسئلة، وأمر أن أنقل إلى سجن باب لعلو، وكان يطل على المقابر. في انتظار البت في الملف.
في السجن وجدت عددا من أصدقائي الاتحاديين وهو الأمر الذي خفف عني كثيرا. وأذكر أنني وجدت صديقا اتحاديا اسمه عبد القادر باينة. وصديق آخر هو الراشيدي، وقد أصبح سفيرا للمملكة في وقت لاحق. وصديق آخر اسمه العراقي، والعامّي، وصديق آخر كنا نناديه «جوني» وكان محبوبا جدا في أوساط الطلبة الاتحاديين».
إضرابات دقت ناقوس الخطر في المدارس والجامعات
هؤلاء الاتحاديون الذين زُج بهم في السجن على خلفية أحداث سنة 1965، كانوا في أغلبهم ينتمون إلى أسرة التعليم. وكان أشهرهم وقتها، بحكم المراكز القيادية التي كان يشغلها في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، هو عبد الواحد الراضي. فقد كان يشتغل وقتها في قطاع التعليم العالي، أستاذا لعلم النفس في الرباط، وكانت لديه علاقات وطيدة مع أساتذة جامعيين فرنسيين كانوا يزورون المغرب.
وإلى جانب مسؤوليته في البرلمان والحزب، كانت لدى عبد الواحد الراضي مسؤولية في قطاع التعليم، وهي إشرافه على بحوث الطلبة في الجامعة بمدينة الرباط.
حتى أنه حكى في مذكراته: «المغرب الذي عشتُه»، كيف أن حدث انقلاب 1972 الذي استهدف طائرة الملك الراحل الحسن الثاني، تزامن مع فترة تصحيح امتحانات الطلبة. وسرد أيضا كيف أن بعض الأحداث السياسية شلت فعلا قطاع التعليم بكل مستوياته.
لكن أسوأ المراحل التي مر بها قطاع التعليم في المغرب، مرحلة الإضرابات التي دعمها الاتحاديون قبل إعادة هيكلة الحزب سنة 1975. إذ إن أبرز الإضرابات التي خاضتها أسرة التعليم في ذلك التاريخ، كان الهدف منها إصلاح القرارات الإدارية التي تنظم قطاع التعليم، بما فيها التعيينات وسنوات الأقدمية.
نوبير الأموي، بدوره، كان أحد أهم من عاشوا مشاكل قطاع التعليم والإضرابات عن قرب. فإلى جانب إدراكه لعمق مشاكل قطاع التعليم، بحكم انتمائه إلى أسرة التعليم، فإنه كان مهندس عدد من الإضرابات في قطاع التعليم، عندما أصبح «نجم» العمل النقابي في المغرب، قبل حتى أن يؤسس الكونفدرالية الديموقراطية للشغل ويصبح أمينها العام سنة 1978.
لكن قبل ذلك، فإن الأموي كان من المنخرطين في حزب الاستقلال نهاية الخمسينيات، وبمجرد انضمامه إلى التعليم بعد تخرجه، حتى انضم لأول مرة إلى العمل النقابي في بداية الستينيات. إذ كان الاتحاد المغربي للشغل، ذراع حزب الاستقلال بزعامة المحجوب بن الصديق، هو التنظيم الأول الذي احتضن الأنشطة النقابية لنوبير الأموي في قطاع التعليم.
وهكذا وقع عليه الاختيار سنة 1963، في خضم سياق الانتخابات وحمى الصراعات في الشارع، لكي يصبح مسؤولا عن اللجنة العمالية في النقابة. وبعض المصادر تقول إن المهدي بن بركة اختار نوبير الأموي بالاسم لتلك المهمة.
وعندما نظم الاتحاديون مؤتمرا استثنائيا في أكتوبر 1978، كانت الآراء الداخلية للحزب تتجه نحو إحداث تصحيح كبير عقب إعادة تأسيس الشبيبة الاتحادية، حيث تم تنظيم القطاعات الموازية من جديد، مثل القطاع النسائي الاتحادي وقطاعات مهنية أخرى تشكل نواة المهن التي يمارسها أغلب الاتحاديين مثل التعليم والمحاماة والطب والهندسة، وأيضا القطاعات العمالية. وهؤلاء جميعا ساهموا في تأسيس الكونفدرالية الديموقراطية للشغل، وأصبح نوبير الأموي في قمة ذلك الانقلاب بعد أن وقع عليه ما يشبه الإجماع داخل التمثيليات النقابية، لكي يقود تلك التجربة.
وكان إضراب التعليم لأبريل سنة 1979 أول عمل نقابي قاده نوبير الأموي وبقية قيادات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان إشارة إلى أن النقابة الجديدة قد نضجت إلى درجة أنها مؤهلة لقيادة إضراب بهذا الحجم، دون الحاجة إلى الرجوع إلى قواعد المحجوب بن الصديق.
هذه السنوات السوداء التي عرفها التعليم المغربي، كانت أساسا انطلقت منه إضرابات الثمانينيات والتسعينيات، والتي كان الهدف من وراء أغلبها اجتماعيا. أي تحسين مستوى معيشة أسرة التعليم، وهكذا زال ظل الاحتقان السياسي الذي ميز الستينيات والسبعينيات، حيث كان العمل السياسي غير المرخص له، والتهم التي تمس الأمن العام، تلاحق أغلب الإضرابات التي خاضتها أسرة التعليم.
أيام قاتمة من تجارب معلمي وأساتذة السبعينيات
سوف نورد هنا شهادة قيمة جدا، لأحد أبرز الأساتذة الجامعيين الذين وثقوا للحياة الطلابية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأيضا لحقل الألغام الذي تمشى فوقه أساتذة التعليم الابتدائي، الإعدادي، وأيضا الجامعي، في سبعينيات القرن الماضي التي بُصمت بعدم استقرار سياسي واضطرابات اجتماعية.
يتعلق الأمر بسيرة د. محمد العمري، الذي أصدر قبل عشر سنوات تقريبا كتابا يسرد مساره الطلابي والأكاديمي، بعنوان: «زمن الطلبة والعسكر».
يقول:
«كان الإضرابُ نوعا من استرجاع النفَس النضالي وحفظ الوجود بعد الحوادث المزلزلة التي عرفها النصف الأول من السبعينيات: انقلابان عسكريان (1971، 1972) وثورة مسلحة (1973) أعقبتها محاكمات زائفة (1974ــ 1976)، وقمع أعمى، ومصادرة للحريات؛ كانت جريدة «المحرر» لا تَظهرُ إلا لتختفي. ولذلك كانت الدولة شديدة الحساسية مستعدة لحرق الأخضر واليابس، أو إهلاك الثلثين من أجل الثلث، كما قال الحسن الثاني في إحدى خطبه في سياق مماثل. كان التحدي في عنفوانه، ولم نكن نحنُ مناضلي الصف الثاني أو الثالث نضرب أي حساب للمخزن وما يمكن أن يصدر عنه، لقد أُهدِرت هيبتُه بسبب القمع والتزوير، وهَجرَهُ المثقفون.
وصلت حالة التوتر في المؤسسات التعليمية، في الدار البيضاء ومدن أخرى، مستوى شبيها بما وصلت إليه قُبيْل أحداث 23 مارس 1965. بل حاولت الدولة، أكثر من ذلك، استباق الأمر، فبدأت التهديدات، ثم عمت الاعتقالات قبل حدوث الإضراب، ثم جاء الطرد من العمل بعد الإضراب.
كانت ثانوية مصطفى المعاني بالدار البيضاء، حيث أعملُ، على مشارف الحي المحمدي، تغلي في كل الاتجاهات: التلاميذ مضربون، وأجواء الإضراب العام مهيمنة على الأساتذة، والعلاقة بينهم وبين مديرِ المؤسسة في قمة التوتر.
كان المدير فرحا بانتقاله من معلم في الابتدائي إلى منتدب في الثانوي، ثم إلى مدير ثانوية، دون أن يطرأ أي تغيير على مستواه العلمي أو الذهني. وكنا نحن الأساتذة «حقا وصدقا» نعتبر أنفسنا أصحاب الدار، لأننا عملنا في المؤسسة قبل أن توجد على الخريطة مستقبلين تلاميذها حيثما اتفق، قبل أن يعين للثانوية مدير بسنوات؛ كانت ثانوية مصطفى المعاني مجرد اسم على ورق عدة سنوات.
ولا ينبغي أن يُقاسَ حال معلمي ذلك الوقت على مستوى المعلمين اليوم، حيث يوجد من بينهم حاليا حاملون للشهادات العليا ومثقفون ومبدعون. كانت عملية ترسيم المعلمين الملحقين في الثانوي، دون انتقاء ذوي الكفاءات والمؤهلات منهم، إحدى سيئات الشعبوية النقابية التي ساهمنا في تكريسها تحت ضغط السياسة المخزنية القروسطية، كنا نقوي الصفوف ضد المخزن بكل ما تيسر. وجدنا أنفسنا على طرفي نقيض مع ذلك الطارئ على الثانوية، كان أشبه بتلك الخنفساء العنيفة التي تقتحم خلية النحل المطمئنة فتخربها. فبقدر ما كان هو يريد أن يفرض ذاتا غير موجودة أصلا، بقدر ما كنا نحن مصرين على إعادته إلى حجمه الحقيقي، فلم يبق له غير فرصة إضراب رجال التعليم ليصطاد في الماء العكر.
ومما زاد الأمر تعقيدا، وجعل أجهزة الدولة ترتاب في طبيعة ما يجري، وتتعامل معه بعنف، دخول إذاعة البوليساريو على الخط. فقد بدأت تتحدث عن تردي الأوضاع في الدار البيضاء، وتخُصُّ «مناضليها» في ثانوية مصطفى المعاني بالتنويه. علمتُ هذا من الزملاء بعد الخروج من السجن. وهذه أقبح عملية سطو على حقوق التأليف، فنحن كنا نعمل لحسابنا الخاص».