
يونس جنوحي
“لا يختلف اثنان على أن جامعة القرويين في فاس هي الأقدم في العالم، كما لا ينكر أحد أنها خرجت إلى الساحة العلمية قامات خلدت أسماءها في التاريخ لقرون طويلة.
لكن التاريخ الكامن في أقسامها الداخلية، حيث كان يقضي الطلاب من خارج فاس فترة دراستهم التي قد تتجاوز 20 سنة، حيث يلجون إليها أطفالا ويغادرونها رجالا متمكنين في علوم الفلك والرياضيات والفقه والقضاء واللغة العربية، بقيت بعيدة عن الضوء.
أشار بعض العلماء المغاربة، خصوصا من القرن 18، إلى بعض ذكرياتهم في الأقسام الداخلية حيث كان الطلبة، أمثال أبي عبد الرحمن، وبن سعيد الجيلالي، وفقيه العلوم الشرعية الحاج الكانوني، يعيشون وفق نظام صارم وضعه علماء القرويين على امتداد قرون.
نادرا ما يُثار موضوع الإقامة الداخلية لأقدم جامعة في العالم. وفي المقابل، تناسلت تجارب أخرى كان النظام الداخلي هو سر نجاحها مثل ثانوية مولاي يوسف التي تأسست سنة 1916 وكوليج أزرو الذي تأسس سنة 1927. إذ كانت وسائد أسرّة النوم التي تتوفر عليها داخلية هذا “الكوليج” ملجأ لأدمغة كثيرة دبرت مؤسسات الجيش والوزارات في المغرب بعد الاستقلال. من يكون هؤلاء؟ ولماذا لم يعد للنظام الداخلي نفس التأثير في المنظومة التعليمية اليوم؟”.
هؤلاء مدينون بتكوينهم لغُرف النظام الداخلي
من مختلف المشارب والانتماءات. محافظون وليبراليون ومحايدون أيضا. يساريون ثوريون، وحتى عسكريون. المشترك بين هؤلاء أنهم درسوا في الأقسام الداخلية التي كانت تُسير وفق نظام صارم جدا، يختلف كليا عن طريقة عيش المغاربة.
ثانوية مولاي يوسف بالرباط، والتي بُنيت سنة 1916، في عهد المولى يوسف وحملت اسمه، كانت ثاني أو ثالث تجربة للتعليم العصري في المغرب بعد تجربة وجدة التي انطلقت قبلها بحوالي عشر سنوات تقريبا.
لكن ما ميز ثانوية مولاي يوسف، أنها كانت تتوفر على نظام داخلي مباشر، وآخر غير مباشر لاستقبال المتفوقين من أبناء المغاربة.
جل الذين درسوا في هذه الثانوية خلال السنوات الأولى لإطلاقها كانوا من أبناء الأعيان الذين كانت أسرهم قادرة على التكلف بمصاريف دراستهم بالرباط.
وقد كان القسم الداخلي لهذه الثانوية يستقبل مئات التلاميذ سنويا، القادمين من متخلف مناطق المغرب بعد أن يُدلوا برسائل اعتماد من المدارس التي درسوا بها قبل التحاقهم بـمولاي يوسف.
كما أن أبناء بعض عائلات الأعيان، الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالقسم الداخلي، تكلفت أسرهم بتسديد مصاريف كراء غرف غير بعيدة عن ثانوية مولاي يوسف، وبعضهم انتشلتهم الحركة الوطنية مثل ما حدث مع المهدي بن بركة، وأصبح مقيما دائما في منازل الاجتماعات التي يعقدها الوطنيون، وهكذا كان من المساهمين الأوائل في حشد الجماهير خلال المظاهرات ضد الظهير البربري سنة 1933.
ولاحقا، خلال سنوات الأربعينيات، كان عبد الرحيم بوعبيد من أوائل السياسيين المغاربة الذين استثمروا في النظام الداخلي للمدارس، حيث كان شخصيا يستقطب التلاميذ المتوفقين الذين ينحدرون من البوادي، والذين انتقلوا للعيش بين سلا والرباط. ولعل أبرز هؤلاء التلاميذ عبد الواحد الراضي، الذي تابع تكوينه الابتدائي في مدرسة فلاحية نواحي سيدي سليمان بالغرب، ثم انتقل لاحقا إلى سلا والرباط لكي يكمل تعليمه، لكنه لم يلج القسم الداخلي بعد تجربة سابقة عاشها في المدرسة الفلاحية حيث تلقى تكوينا عصريا صارما. بل استقطبه عبد الرحيم بوعبيد مع أشخاص آخرين صاروا لاحقا من الوجوه الشبابية المعروفة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وأصبح عبد الواحد الراضي من القيادات التلاميذية التي اعتمد عليها عبد الرحيم بوعبيد حتى قبل أن يلج ثانوية مولاي يوسف ويشتغل إطارا بها، ويشرف بدوره على تلاميذ آخرين صاروا بدورهم من كبار المسؤولين بعد الاستقلال، ومن أصدقاء الملك الراحل الحسن الثاني أيضا، حيث كان ولي العهد في بداية أربعينيات القرن الماضي يتردد على محيط ثانوية مولاي يوسف لكي يتعرف على نخبة التلاميذ الذين تم اختيارهم بعناية من مختلف نواحي المغرب لاستكمال دراستهم الثانوية في الرباط.
المفكر المغربي عبد الله العروي أيضا واحد من الشخصيات التي كانت مدينة للنظام الداخلي، إذ تحدث في مذكراته عن تجاربه الخاصة مع الإقامة في الداخليات، وكان واضحا عندما أعلن أنه لم ينسق وراء العادات السيئة للطلبة المغاربة في باريس، في “دار المغرب”، التي ولجها أشهر المسؤولين المغاربة بعد الاستقلال، وقال عنهم إنهم كانوا كسالى، واضطر إلى الرحيل عنهم والتقرب من طلبة من جنسيات أخرى كانوا يشاركونه نفس الحماس.
هذا الانتقاد الذي وجهه عبد الله العروي لأجواء الإقامة في القسم الداخلي بدار المغرب، والذي كان قبلة لكل الطلبة المغاربة خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانوا يتابعون دراستهم بالخارج، كان موضوع نقاش كبير حول أهلية بعض الشخصيات التي عادت إلى المغرب لتبوأ المناصب الكبرى في الإدارات. لكن الجدير بالذكر أيضا، أن أبناء الفقراء بدورهم ممن درسوا في المدارس الداخلية بالمغرب، وصلوا بدورهم إلى المناصب الوزارات، رغم أن أغلبهم لم يتابعوا دراستهم بالخارج.
مغاربة درسوا عند الراهبات وأقسام داخلية دعمتها أمريكا
تبقى مدارس الراهبات الفرنسيات، ومدارس البعثة اليهودية، أبرز تجربتين خارج نظام المدارس العتيقة التي يشرف عليها فقهاء الإسلام في المغرب.
إذ رغم أن نظام مدارس الراهبات والأخوات الفرنسيات خصوصا، كان مسيحيا خالصا، إلا أن العلماء المغاربة لم يُحرموا نهائيا استفادة أبناء المغاربة من التكوين داخل النظام الداخلي لتلك المدارس، بل أكدوا فقط على الآباء أن يهتموا بالجانب الديني لأبنائهم. وقد كان فعلا أبناء المغاربة، خصوصا خلال عام البون سنة 1945، يرسلون أولادهم إلى هذا النوع من المدارس للاستفادة من الوجبات الغذائية المجانية خصوصا في الدار البيضاء التي كانت تنتشر فيها المدارس التابعة للكنيسة أكثر من أي مكان آخر في المغرب.
أما مدارس الأقليات اليهودية، فقد كانت أيضا مقصدا لأبناء عدد من الأعيان المغاربة، نظرا لجودة التعليم الذي كانت تقدمه هذه المدارس، وتوفرها على مدرسين وأقسام خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة منذ عشرينيات القرن الماضي.
حيث كانت بعض الأسر المغربية المسلمة ترسل أبناءها إلى هذا النوع من المدارس نظرا للتقارب بينها وبين المدراء أو المدرسين اليهود الذين كانوا يعملون بها. إذ أن عددا من الأسر المغربية كانت تفضل أن يدرس أولادها عند المغاربة اليهود على أن تتلقفهم المدارس الفرنسية مع كل ما ينتشر عنها من إشاعات في ذلك الوقت.
النظام الداخلي لهذه المدارس كان صارما. إذ أن الراهبات والرهبان، مثل تجربة مدرسة “تومليلين” نواحي الأطلس، كانوا يشرفون على التكوين العلمي وحتى الأخلاقي للتلاميذ المغاربة ويعلمونهم أصول اللباس العصري والالتزام بالعادات اليومية العصرية مثل استعمال الحمامات وأدوات التنظيف، وهو ما كان غريبا تماما عن أبناء المغاربة حتى لو كانوا من أسر ميسورة.
ساهمت هذه المدارس في إخراج جيل أول من المغاربة الذين يعرفون الحياة العصرية وفق النظام الأوروبي، ونقلوها إلى منازلهم. وهو ما جعل عددا من الأسر تقتدي بالتي سبقتها إلى إرسال أبنائها إلى هذا النوع من المدارس الداخلية، خصوصا عندما رأوا أنهم استغنوا عن الجلباب الصوفي باللباس الأوربي العصري وظهرت عليهم علامات العادات الأوربية مثل الحلاقة والعناية بالنظافة الشخصية.
وما زاد من ارتفاع شعبية هذا النوع من المدارس منذ ثلاثينيات القرن الماضي تقريبا، أنها تورث للتلاميذ تعلم الرياضات مثل كرة القدم والعدو الريفي، وتلقنهم اللغة الفرنسية والرياضيات والعلوم وتؤهلهم لمواصلة الدراسة مجانا في المدارس الفرنسية. حيث إن الجيل الأول للمغاربة الذين درسوا في الخارج لم يجدوا أي مشكل في الاندماج مع الفرنسيين بفضل التكوين الداخلي الذي تلقوه في الأقسام الداخلية.
في مقابل جودة التكوين، وانتشار نظام المدارس الداخلية في المغرب قبل الاستقلال وبعده، نجد أننا مساءلين جميعا عن سبب تراجع جودة الأقسام الداخلية في المدارس العمومية. إذ أنها اليوم موضوع شكايات من جمعيات الآباء، وهناك شكايات موثقة بالصوت والصورة للوضعية المخجلة التي آلت إليها الأقسام الداخلية في ثانويات وإعداديات ومدارس ابتدائية، كانت إلى وقت قريب مضرب المثل في صرامة النظام الداخلي وجودته لمدة تزيد عن نصف قرن.
حتى أن بعض الأقسام الداخلية خلال سنوات الستينيات كانت تستفيد من برامج دعم حكومية أمريكية، لكي تحافظ على المستوى الكبير الذي كانت تُدبر وفقه منذ أيام الحماية الفرنسية.
اليوسفي.. زعيم سياسي مدين لأقسام الداخلية بالوعي السياسي
في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، كان عبد الرحمن اليوسفي يُؤسس لمساره الأكاديمي. وعاش تجربة الدراسة في مراكش، بعيدا عن أسرته في طنجة لكي يكتشف عالم الداخلية وصرامة القوانين التي تنظمها.
عبد الرحمن اليوسفي الذي وُلد في طنجة وبدأ فيها حياته، اضطر إلى مغادرتها وهو في سن طفولة مبكرة، ليذهب وحيدا إلى مراكش لاستكمال دراسته وتعلم اللغة العربية في مدرسة حديثة وعصرية. وهو الأمر الذي لم يكن متوفرا في طنجة. إذ أن “المسيد” أو الكتاتيب القرآنية، كانت الوحيدة التي توفر تعليما باللغة العربية. بينما تتناسل مدارس البعثات الأجنبية في المدينة بشكل كبير.
رغبة اليوسفي في الحصول على تعليم باللغة العربية والفرنسية، قاده إلى مراكش، وهناك التقى بامحمد بوستة، ومحمد بنهيمة، كلاهما كانا من الشخصيات السياسية التي بصمت القرن العشرين وفترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني. حيث جمعت بينهم، اليوسفي، بوستة وبنهيمة، ذكريات الدراسة في جو من الصرامة الذي كانت تفرضه الأقسام الداخلية، خصوصا على عبد الرحمن اليوسفي الذي كانت تفصله مسافة كبيرة عن أسرته، حيث عرف معنى الاغتراب للمرة الأولى في حياته، ليعيشه مرات أخرى في صراعات دروب السياسة.
وبينما كان كل من بوستة وبنهيمة، من أبناء الأعيان الذين عاشوا طفولة مريحة نسبيا مقارنة مع طفولة اليوسفي، فإن الجميع كانوا على موعد مع بداية تشكل وعيهم السياسي انطلاقا من الأحداث التي عاشوها في مراكش، والتي مهدت لانطلاق الحركة الوطنية خصوصا مع انطلاق الأربعينيات، حيث فتح هؤلاء التلاميذ أعينهم على مشاهد متناقضة من الميز الذي كانت تمارسه فرنسا سياسيا واجتماعيا ضد المغاربة.
عندما ذهب اليوسفي منتقلا إلى الرباط سنة 1943، لاستكمال دراسته في ثانوية مولاي يوسف، تعرف على المهدي بن بركة، وكان اليوسفي وقتها متأثرا كثيرا بنظام الداخلية حيث الصرامة والدقة في مواعيد النوم والاجتماعات. وهو ما عرقل نسبيا نشاطه مع التلاميذ الذين جمعهم المهدي بن بركة لتأسيس نواة الحركة التلاميذية لحزب الاستقلال، وهي الحركة التي انطلقت بدورها من الأقسام الداخلية في عدد من المؤسسات. منها مؤسسات فلاحية كانت تابعة لفرنسا، حيث كان السياسي عبد الواحد الراضي، أحد أبرز السياسيين المغاربة الذين تخرجوا من المدارس الفلاحية الفرنسية التي كانت تعتمد نظاما داخليا غاية في الصرامة.
بالعودة إلى عبد الرحمن اليوسفي، فإن هناك واقعة طريفة جدا تتعلق بفراره من النظام الداخلي الذي كان مفروضا عليه طيلة سنوات دراسته ما بين 1935 ونهاية أربعينيات القرن الماضي عندما تخرج وذهب إلى باريس لدراسة القانون. والطرافة هنا تكمن في أنه أراد مرة قضاء العطلة خارج فضاء الأقسام الداخلية الرتيب، وقرر مرافقة أحد أصدقاء الدراسة إلى منزل عائلته هروبا من صرامة قوانين الداخلية. لكن بسبب أنشطته في اجتماعات المهدي بن بركة المخصصة للتلاميذ، فقد تلقى والد التلميذ الذي اصطحبه إلى منزله، وكان من الأعيان، مكالمة من الإدارة الفرنسية طلبوا منه ألا يستضيف اليوسفي لأنه من العناصر المشاغبة التي تقود المظاهرات، وهكذا عاد اليوسفي وحيدا إلى الرباط حيث عاش تجربة البحث عن مكان للمبيت خارج الداخلية، لأنه لم يكن قادرا على العودة إليها خوفا من العقاب.
ثانوية مولاي يوسف.. هنا روّض الوزراء وكبار المسؤولين
يصعب إحصاء أفواج المسؤولين المغاربة الكبار الذين درسوا في ثانوية مولاي يوسف. لكن أشهر من مروا بها كانوا يقودون المشهد السياسي في المغرب لعقود طويلة. كما أن كبار المسؤولين المغاربة، كانوا تلاميذ سابقين في تلك الثانوية التي كانت ساحتها معقلا للصراع بين الوطنيين وفرنسا.
من أشهر تلاميذ ثانوية مولاي يوسف نجد جل القادة الاتحاديين الذين ولوجوها في أربعينيات القرن الماضي، وبفضل قسمها الداخلي تنمى لديهم الوعي السياسي الذي أهلهم لكي يصبحوا من قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لدى تأسيسه سنة 1959. ومن أشهر هؤلاء نجد المهدي بن بركة وعبد الرحمن اليوسفي وفتح الله ولعلو، حيث درس كل اسم على حدة في فترات متفاوتة، بالإضافة إلى محمد اليازغي وعبد الواحد الراضي، هذا الأخير الذي ذكر في مذكراته أنه عاش تجربة الإشراف على التلاميذ واضطر لحداثة سنه وقتها بحكم أنه تخرج للتو، إلى الاعفاء عن شاربه لكي يبدو أكبر سنا من التلاميذ الذين كان من بينهم وقتها لحسن بروكسي، الذي أصبح لاحقا أول مغربي يحصل على درجة الدكتوراه من فرنسا في تخصص التقسيم الترابي، حيث عمل إطارا في وزارة الداخلية أيام الدكتور بنهيمة، واشتغل إلى جانب إدريس البصري في قسم الشؤون السياسية قبل أن يصبح من أنشط أعضاء مكتب الوزير البصري إلى حدود منتصف الثمانينيات، حيث حصل على دكتوراه أخرى من فرنسا في تخصص الإدارات والتقسيم الجهوي.
إذ أن المهدي بن بركة كان من أوائل التلاميذ المغاربة الذين درسوا في ثانوية مولاي يوسف، بل وكان زميله الذي يشاركه الطاولة هو محمد مجيد، الذي ترأس الجامعة الملكية المغربية للتنس، وكان من الوجوه القريبة من الملك الراحل الحسن الثاني طيلة مسار حكمه.
بالإضافة إلى هؤلاء، نجد أن من بين أشهر خريجي ثانوية مولاي يوسف، علال سي ناصر، الذي اشتهر اسمه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عندما اشتغل في مناصب سامية في الدولة حيث استعان به الملك الراحل الحسن الثاني. بالإضافة إلى الوزير حدو الشيكر الذي حمل حقائب وزارية في أزمنة حساسة جدا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكان معروفا بقربه الكبير من الملك الراحل الحسن الثاني حيث كان وزيرا للدفاع والداخلية، وهما الوزارتان اللتان كانتا على قدر كبير من الحساسية في تلك الفترة.
في مذكراته، تحدث عبد الواحد الراضي عن صرامة الأقسام الداخلية في ثانوية مولاي يوسف، حيث كانت مضرب المثل في الصرامة. كما تحدث لحسن بروكسي أيضا عن ذكرياته في القسم الداخلي لثانوية مولاي يوسف، حيث أكد أن الجنرال أوفقير شخصيا سنة 1955، كان يأتي بنفسه لكي يتفقد أبناء بعض الأعيان من أصدقائه الذين كانوا يعيشون في القسم الداخلي للثانوية، وفق نظام غاية في الصرامة.
حيث كان أغلب التلاميذ الذين يعيشون في القسم الداخلي من أبناء القرى، ويجمعهم وقتها تميزهم الدراسي. وهكذا كان القسم الداخلي محفزا على التنافس، حيث كان يتم تنظيم مسابقات في الرياضيات واللغة العربية والفرنسية. وفي المقابل، كان العقاب الذي يصل حد التعنيف، في انتظار كل الذين يخالفون التعليمات ويحاولون التسلل من سور داخلية ثانوية مولاي يوسف للذهاب إلى السينما في قلب الرباط.
أما لحسن بروكسي، فقد أكد أن الأمير مولاي الحسن، ولي العهد وقتها، كان يأتي إلى ساحة ثانوية مولاي يوسف، وهو وقتها تلميذ في المدرسة المولوية، للتعرف على التلاميذ في ثانوية مولاي يوسف، حيث كان يهدي المتفوقين منهم ملابس وأغراض يصطحبها معه لتوزيعها على من يحتاجها من التلاميذ. إذ أن داخلية مولاي يوسف وقتها اشتهرت بأنها الأكبر والأهم في عموم المغرب.
كوليج أزرو.. “أسطورة” تخرجت منها أدمغة الوزارات والجنرالات والانقلابيون
في سنة 1927، أرادت فرنسا أن تُنشى مدرسة داخلية تجمع فيها أبناء الأعيان لكي تلقنهم تعليما عصريا. اختارت منطقة أزرو نظرا لمحيطها الطبيعي الذي يتيح عزل التلاميذ تماما عن محيطهم وفرض نظام داخلي صارم لتأطيرهم.
وُجهت وقتها اتهامات لفرنسا بمحاولة تنصير أولئك التلاميذ، ولاحقا اتضح أن الأمر يتعلق بتكوين عصري فرنسي وفق النظام الأوربي لهؤلاء التلاميذ.
ومن أشهر من تخرج من “كوليج” أزرو، نجد الجنرال أوفقير والمحجوبي أحرضان، والكولونيل المذبوح والكولونيل اعبابو، بالإضافة إلى والد الجنرال الدليمي.
هؤلاء كانوا يمثلون الجيل الأول الذي تخرج من “كوليج” أزرو حيث تمكنوا بسهولة من الالتحاق بالجيش الفرنسي. ولم يكونوا كلهم مؤهلين بدنيا لدخول الجيش، بل وُجه قسم كبير من الخريجين إلى الإدارات الفرنسية في الرباط والمدن المغربية الكبرى حيث عملوا مُترجمين بحكم أنهم أصبحوا يتوفرون على مستوى ممتاز في اللغة الفرنسية بالإضافة إلى إتقانهم اللغة العربية.
وهكذا استطاعت فرنسا أن تخلق النواة الأولى للعسكريين والإداريين المغاربة الذين يتوفرون على تكوين علمي وأكاديمي لا يختلف عن التكوين الفرنسي. وأصبح سهلا على هؤلاء التلاميذ الذين تكونوا وفق نظام داخلي صارم جدا، أن يندمجوا في الحياة العصرية ويصبحوا أطرا في الجيش الفرنسي مثل الجنرال أوفقير، أو أشخاص بارزين في الإدارات الفرنسية في المغرب مثل الحسن الدليمي وعبد الله بن براهيم. حيث أصبح أغلب هؤلاء بعد الاستقلال من كبار مُسيري الإدارات والمؤسسات المغربية واصطدموا بجيل جديد من أبناء المغاربة الذين تابعوا بدورهم دراستهم العليا في فرنسا، لكنهم لم يعيشوا تجربة الأقسام الداخلية في كوليج “أزرو” وعادوا من فرنسا أكثر انفتاحا وتسامحا. أما خريجو “كوليج أزرو” فقد جمعوا بين التكوين العلمي المتين في اللغة الفرنسية وبين الصرامة الممزوجة بالقسوة، والتي تلقوها تحت سقف القسم الداخلي بـ”كوليج أزرو”، حتى أن المعطيات التي تتعلق بشأن محاولة فرنسا طمس الهوية المغربية والإسلامية للتلاميذ انتشرت أكثر عندما عينت فرنسا الخريجين في الجيش والإدارات.
موقع هذه المدرسة الإعدادية، المجاور لمدينة خنيفرة، والمحتل لغابة أزرو، زكى فرضية نظرية “المؤامرة”. إذ أن الوطنيين والمحافظين المغاربة ظلوا يتهربون من إرسال أبنائهم إلى “كوليج أزرو”. لأن موقعه المعزول زاد من غموض الحياة التي يعيشها المُسجلون به خلف أسواره الشاهقة.
الصرامة الكبيرة التي كان يتم بها تدبير شؤون المؤسسة أهلت بسهولة أشهر خريجيها إلى اعتناق الحياة العسكرية. وقد كان الخريجون محط اهتمام كبار الشخصيات المغربية، بما في ذلك الوزراء المقربين من السلطان محمد بن يوسف خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لأنهم كانوا يدركون أن الجيل الجديد الذي أشرفت فرنسا على تكوينه العلمي والأكاديمي، لا شك سوف يتبوأ مناصب هامة في المستقبل. وهذا ما وقع بالفعل.
جامع القرويين.. أقدم قسم داخلي منسي سقط سهوا من التاريخ
لا يختلف اثنان على أن جامعة القرويين في فاس الأقدم في العالم، كما لا ينكر أحد أنها خرجت إلى الساحة العلمية قامات خلدت أسماءها في التاريخ لقرون طويلة.
لكن التاريخ الكامن في أقسامها الداخلية، حيث كان يقضي الطلاب من خارج فاس فترة دراستهم التي قد تتجاوز 20 سنة، حيث يلجون إليها أطفالا ويغادرونها رجالا متمكنين في علوم الفلك والرياضيات والفقه والقضاء واللغة العربية، بقيت بعيدة عن الضوء.
أشار بعض العلماء المغاربة، خصوصا من القرن 18، إلى بعض ذكرياتهم في الأقسام الداخلية حيث كان الطلبة، أمثال أبي عبد الرحمن، وبن سعيد الجيلالي، وفقيه العلوم الشرعية الحاج الكانوني، يعيشون وفق نظام صارم وضعه علماء القرويين على امتداد قرون.
حيث كانت بعض البنايات المجاورة لجامع القرويين تخصص لمبيت الطلبة من مختلف الفئات العمرية وفق نظام رعاية صارم، خصوصا وأن جل الذين كانوا يلجون هذا القسم كانوا دون العاشرة من العمر، وكانوا يأتون من مناطق نائية من كل جهات المغرب ليصلوا إلى “القرويين” حلم طلاب العلم على امتداد قرون.
بالعودة إلى إشارة علماء القرن 18، فقد أشاروا إلى أن بعض الفقهاء والقضاة وعلماء القرويين كانوا يخصصون جزءا من مداخليهم لرعاية هؤلاء الطلبة وتخصيص وجبات غذائية يومية لهم طيلة سنوات دراستهم. بينما كان بعض أثرياء فاس، يهبون منازلهم أو يضعونها رهن إشارة الأوقاف لكي يستفيد منها الطلبة في السكن وتصبح بالتالي تابعة لجامع القرويين، حيث تصبح تلك المنازل غرف مبيت وإيواء لطلبة العلم.
وقد ورد في الكتابات التاريخية أن بعض زوجات ملوك الدولة العلوية كان لهن فضل كبير جدا على الأقسام الداخلية لجامع القرويين، حيث كن يخصصن أموال سنوية لتوفير متطلبات عيش آلاف الطلبة من مأكل وملبس، حتى أن السلطان العلوي محمد الرابع، الذي وُلد سنة 1810، كانت والدته قد وهبت دارا لها للأوقاف سكن بها أقران ابنها محمد ابن عبد الرحمن، ولما أصبح المولى محمد الرابع سلطانا للمغرب، عيّن لأول مرة من تكلف بتدبير أموال المنازل المجاورة للقرويين والتي فوت بعضها وأصبحت ملحقة للجامع ومخصصة لمبيت الطلبة وإيوائهم. حيث كانت بعض المناسبات الدينية، خصوصا عيد المولد النبوي وعيدي الأضحى والفطر، فرصة لجمع تبرعات سنوية لصالح الجامع، وكلف قاض أيام المولى محمد الرابع لتدبير صرف تلك الأموال بعد أن اشتكى بعض الطلبة أثناء تخرجهم، للمولى محمد بن عبد الرحمن من الحالة المزرية لبعض طلاب العلم في أشهر وأقدم جامعة في العالم.
لم تكن الأقسام الداخلية في جامعة القرويين تخلو من سياسة. فقد سبق لسلطات الحماية الفرنسية أن ضربت بقوة لقمع المظاهرات التي كانت تخرج من أماكن مبيت طلبة جامع القرويين. وقد حكى بن سعيد آيت إيدر، أحد أقدم مناضلي جيش التحرير المغربي، في مذكراته عن تلك الفترة التي كان فيها هو الآخر تلميذا في الجنوب المغربي، قائلا: ” وكردّ فعل على ما تعرض له طلبة القرويين من قمع واعتقالات، قمنا نحن بإضراب عام عن الدراسة، احتجاجا على سياسة العنف التي نهجها المستعمر ضد إخواننا في فاس. هنا لجأت سلطات الاحتلال إلى الباشا التهامي الكلاوي لإيقاف المظاهرات، فاستعمل بدوره وسائل قمع تقليدية قديمة تجلت في جلد الطلبة مئتي جلدة، وحك الفلفلة السودانية على أفواههم.. وكان من ضحايا هذه الحملة، محمد الفقيه البصري وعبد السلام الجبلي وعمر البيضاوي وبوشعيب الدكالي. أما أنا فكنت ضمن خلية القيادة الخلفية التي لم تكن معروفة لدى عملاء الاستعمار. الذي حال دون أن يشملني الاعتقال والانتقام. لم يتوقف الاضراب ونشط العملاء لإفشاله فما كان مني رفقة زميل آخر ينحدر من دكالة إلا التعرض لأحد هؤلاء العملاء وإشباعه ضربا”.