شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

التحرر من الخوف والحزن

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

 

 يقول الفيلسوف محمد إقبال في كتابه الموسوم «تجديد التفكير الديني»: «غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم، والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ، وهذه الدعوة إلى عالم الحس والاستشهاد به، وما اقترن بها من إدراك لما يراه القرآن من أن الكون متغير في أصله، متناه قابل للازدياد، كل ذلك انتهى بمفكري الإسلام إلى مناقضة الفكر اليوناني، بعد أن أقبلوا في باكورة حياتهم العقلية على دراسة آثاره في شغف شديد. ذلك أنهم لم يفطنوا أول الأمر إلى أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع هذه النظريات الفلسفية القديمة، وبما أنهم كانوا قد وثقوا بفلاسفة اليونان، أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية. وكان لا بد من إخفاقهم في هذا السبيل، لأن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية، على حين انحازت الفلسفة اليونانية للتفكير النظري المجرد وإغفال الواقع المحسوس»(1).

 

جدلية الاستقراء والاستنباط (INDUCTION)(DEDUCTION):

الفلسفة اليونانية كانت استنباطية (DEDUCTIVE)، أو كما عرفت بالقياس الأرسطوطالي، أو المنطق الصوري. والانقلاب العقلي الذي دشنته العقلية الإسلامية في التاريخ بتطوير قراءة الواقع بالفكر الاستقرائي (INDUCTIVE)(2)، أي اعتماد الواقع مصدرا للمعرفة، والواقع يضم الطبيعة والنفس وأحداث التاريخ. الفكر الاستنباطي يضع القاعدة الكبيرة ليقيس عليها، ومن هنا أخذت اسمها القياس، في حين أن طريقة الاستقراء نمت من الجيب الإسلامي الأندلسي على يد ابن رشد والمدرسة الإسلامية التحررية، لتنتشر في أوروبا بدءا من إيطاليا. الاستقراء هو قراءة الواقع وجمع الملاحظات المشتركة، لاستخراج قانون عام ينظم هذه الملاحظات المبعثرة؛ فالاستنباط هو عملية التحليل العقلي من فوق إلى تحت، والاستقراء عملية معكوسة من تحت إلى فوق؛ فهي العملية المنطلقة من الواقع إلى بناء القوانين العليا الشاملة التي تضم أكبر قدر من الملاحظات (3). ويبقى هذا قانون يصمد حتى يأتي قانون أعلى منه بآلية الحذف والإضافة؛ فيضم مجموعة أضخم من الملاحظات؛ فيأخذ القانون صفة شمولية أكبر، والعلماء اليوم يحاولون توحيد قوانين الكون في أقل عدد ممكن، كما هي في محاولة أينشتاين وستيفن هوكينغ في دمج قوى الوجود الأساسية الأربع (الكهرطيسية والجاذبية وقوى النواة القوية والضعيفة) في قانون واحد أساسي، كما كان الوجود في مرحلة ولادته الأولى، بعد الانفجار العظيم.

 

جدلية النفس والبدن:

إذا كانت تضاريس قارة البدن قد تم اختراقها تشريحيا، وكشف الأعضاء نزولا حتى التشكيل النسيجي الخلوي في مستوى تركيب الخلايا وتفاعلاتها الداخلية؛ فإن الفتح الجديد اليوم هو في فك تعقيد التركيب النفسي وكيف يعمل الدماغ؟ وآليات التفكير وأين الإرادة؟ وما هو الوعي؟ وما دلالة الحرية الإنسانية؟ هذه الأسئلة تعمل عليها مجموعة ضخمة من العلوم اليوم، مثل فسيولوجيا الأعصاب والأبحاث العصبية وتشريحها، والفلسفة وعلوم النفس بمدارسها المختلفة (التحليلية والسلوكية والجشتالت وعلم النفس الارتقائي وعلم النفس الإنساني الحديث).

كل هذه العلوم تريد فهم الإنسان (الداخلي)، أو تشريح النفس، وليس تشريح البدن القديم الذي قام به فيساليوس منفردا، فتشريح النفس يحتاج إلى مجموعات ضخمة من العلماء المتعاونين، كما حصل في لقاء نونبر من عام 1995 م في مدينة (سان دييغوSAN DIEGO) بكاليفورنيا، بمناسبة مرور 25 عاما على تأسيس (جمعية العلوم العصبيةSOCIETY FOR NEUROSCIENCES)، حيث اجتمع قرابة 20 ألف عالم، شكلت عناوين الأبحاث فقط ثلاثة مجلدات سميكة. كان اللقاء يريد فك لغز جملة واحدة «من يكون أنا؟WHO IS I WER IST ICH»(4)

 

سباحة النفس بين قطاعات (الطبيعي) و(العصاب) و(النفاس):

النفس تسبح في العادة بين ثلاثة قطاعات، أو إذا شئنا للتبسيط فإنها تنتقل من دائرة إلى أخرى بشكل متداخل ارتدادي سفلي هابط، أو علوي صاعد كما سنشرح بعد قليل. منحى الارتداد للأسفل هو بين دائرة الوضع الطبيعي والعصاب (NEUROSIS) والنفاس (PSYCHOSIS)، بحيث إن هناك قطاعا مشتركا بين كل حقلين متقاربين؛ فإذا تحركت النفس وتزحزحت أكثر باتجاه الحلقة الجديدة، انخلعت من تأثير الحلقة الأولى، ودخلت تحت السيطرة المطلقة للدائرة الجديدة.

لتوضيح السباحة في هذه الحلقات، يمكن استخدام مثال طاقة الغضب، أو الخوف، أو الحزن، والعاطفتان الأخيرتان هما من أشد العواطف تأثيرا وزعزعة لكيان النفس الداخلي؛ ولذلك اعتمدهما القرآن كعينات اختبارية في مدى أهمية الإيمان وجدواه لحقن الروح بالثبات والاستقرار (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

الحزن عاطفة تستولي على الإنسان في شيء مر عليه وانقضى «لكيلا تأسوا على ما فاتكم» (5)، والخوف عاطفة مدمرة مربكة معيقة للتفكير السليم مما سيحدث، ويأتي مع لحظات الزمن الزاحفة باتجاهنا «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم»(6).

 

 

 مراجع وهوامش:

(1) كتاب «تجديد التفكير الديني» للفيلسوف المسلم الهندي محمد إقبال، ص: 145- 146. (2) الموسوعة الفلسفية مترجمة عن الإنجليزية فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق، وبإشراف الدكتور زكي نجيب محمودـ دار القلم بيروت، ص: 562. (3) يراجع في هذا كتاب «منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته»، تأليف الدكتور علي الوردي، بحث المنطق الصوري وكيف كان اليونان يبحثون عن عدد أسنان الحصان ويهدرون الوقت بدون حدود، بدون أن يكلفوا خاطرهم ويقوموا بفتح فم الحصان وعد أسنانه. لم يفعلوا هذا لأن الفلاسفة يبحثون الأمور بشكل عقلي مجرد، ومن هنا نفهم ثورية النظرة الإسلامية بتوجيه الأنظار إلى الواقع الذي هو الصورة الأساسية للوجود التي لا تقبل التزوير. (4) نشرت التفصيلات الكاملة لهذا اللقاء الهام وذيوله الفلسفية مجلة «الشبيغل» الألمانية، عدد 16/ 1996 م، ص: 190- 202. (5) تأمل الآيتين من سورة «الحديد» رقم 22- 23: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور». (6) تأمل الآية من سورة «آل عمران»، رقم 172: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل».

 

نافذة:

الاستقراء هو قراءة الواقع وجمع الملاحظات المشتركة لاستخراج قانون عام ينظم هذه الملاحظات المبعثرة فالاستنباط هو عملية التحليل العقلي من فوق إلى تحت والاستقراء عملية معكوسة من تحت إلى فوق

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى