لعل كتاب “الدولة المستحيلة” لوائل حلاق، الكندي من أصل فلسطيني، الذي ألف وصدر سنة 2013، عن سبق إصرار من كاتبه، ليجعله مثيرا للجدل انطلاقا من العنوان. فتوقيت الصدور مدروس بعناية، إذ أخرج المؤلف والشارع العربي في ثورة، فيما الإسلام السياسي يدلف للسلطة، فجاء نذير شؤم للإسلاميين مفندا أهليتهم للحكم المدني، مما جعلهم يغاضبون المؤلف، ويتهمونه بتثبيطهم، رغم أنه وضح مرارا أن ذلك التزامن كان محض مصادفة، شاجبا الأحكام المستعجلة على كتابه قبل تبين مضامينه بشكل دقيق.
خالد فتحي
لم يحظ كتاب “الدولة المستحيلة..” بالقبول المتوقع حتى لدى العلمانيين، فقد رأوا من جانبهم أنه قدح في مبادئ الدولة الحديثة ووصمها باللاأخلاقية والسعي لتدمير مستقبل البشرية. أما الكاتب، فتحلى بالشجاعة، ولم ينكر أن كتابه هو بالفعل رؤية للحداثة بمنظار الإسلام، وحكم عليها من مرجعية أخلاقية إسلامية.
الحكم النموذجي
في الفصل الأول يصف حلاق الحكم الإسلامي النموذجي . فحسب أطروحته ظل العالم الإسلامي لمدة 12 قرنا يطبق الشريعة كقانون أخلاقي يقبل به الجميع بما في ذلك الأقليات، ولكن مع مجيء الاستعمار تم التفكيك الاجتماعي والاقتصادي، وحيل بين الشريعة وتنظيم كل مناحي الحياة لتقتصر على مهمتين: الأحوال الشخصية وإسباغ نوع من الشرعية على تشريعات الدولة الحديثة.
وهكذا، يورد حلاق، وقع المسلمون في حيرة: هناك الدولة الوطنية الحديثة كواقع لا يرتفع، وهناك الحنين للتجربة الإسلامية الأولى التي أسسها النبي بالمدينة، وبالتالي طرح السياق الجديد مسألة التوفيق بينهما، لتسعى عدة جهات من الإسلام السياسي إلى ادعاء أن الدولة المدنية لا تتعارض مع الشريعة، لكن محاولاتها بقيت دون جدوى وظهرت كمهمة مستحيلة.
وفي الفصل 2 يصف “الدولة الحديثة النموذجية”، مبرزا خصائصها وتطورها عبر الزمن. أما الفصل 3 فجاء بعنوان “الفصل بين السلطات: حكم القانون.. أم حكم الدولة” ويتطرق للفروق الدستورية بين نموذجي الدولة الاسلامية والدولة العصرية.
وفي الفصل 4 يستعرض حلاق “القانوني والسياسي والأخلاقي”، وفيه يبرز التنافر الجوهري بين الدولتين.
أما الفصل 5 فيخصصه لـ “الذات السياسية والتقنيات الأخلاقية لدى الذات”، وفيه يبرز أن النموذجين يتمخض عنهما شكلان من الذات مختلفين من حيث التمثلات السياسية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية للعالم .
المأزق الأخلاقي للحداثة
في الفصل 6 يختار الكاتب عنوان “عولمة تضرب حصارها واقتصاد لا أخلاقي”، وفيه يعتبر أن العولمة قضت على إمكانية تحقق الدولة الإسلامية، وإذا كانت هناك فلتات، وتم تأسيس هذا الحكم، فمآله الزوال. أي أن السياقات العالمية وأشكال الدولة القومية وتضخم قوتها يمنع استمرارية دولة تقوم على الشريعة.
وفي الفصل 7 المعنون بـ “النطاق المركزي اللاخلاقي”، يقدح في الحداثة ويرد الاعتبار معنويا لهذه الدولة الاسلامية المستحيلة، معتبرا أن الخلل لا يكمن فيها، بل في غياب الحاضنة الأخلاقية التي تستوعب الأبعاد الفلسفية والأخلاقية للدولة الإسلامية، مركزا على التطور اللاأخلاقي للحداثة. كأنه أراد أن يقول إن تعثر الدولة الإسلامية يعود إلى المأزق الأخلاقي للحداثة.
وهكذا ينتهي إلى عكس ما هو منتظر من عنوان الكتاب، ويعلن بوضوح نقده للحداثة ومشروعها، والحقيقة أنه اذا قرأنا الكتاب بروية، ولم ننسق وراء الغبار الذي يخلقه العنوان، والانطباع الأول الذي يعطيه، فحلاق يعتبر أن الدولة الإسلامية مستحيلة، إذا أرادت أن تقوم على أساس الدولة العصرية الغربية الحداثية، لكنها قد تكون ممكنة إذا بني نظامها السياسي على أساس الأخلاق الإسلامية.
تناقض داخلي
يقيم الكتاب مواجهة بين الدولة المدنية الإسلامية التي تريد أن تثبت ذاتها، وبين الدولة الحديثة التي قامت على الحداثة، والتي تعد النموذج الذي يطمح الإسلاميون لتجسيده في مشروعهم، أو لنقل إنه النموذج المفروض عليهم النسج على منواله واقعيا.. حيث يقوم بالبحث في ما إذا كان يمكن المزج بين النموذجين أم لا، مما جعله يستنتج أن «مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق، وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بتناقضها الصارخ مع أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة».
لا يرتجل حلاق، ولا يتعمد أن يصدم الإسلاميين، بل ينبههم إلى أنهم يحاولون المستحيل، ويشرح لهم ذلك بحجج نظرية. فالمسلمون في مأزق تاريخي مفاهيمي بين ما يتطلعون إليه أخلاقيا وثقافيا، وبين الأخلاق التي فرضتها الدولة الوطنية التي أسسها الغرب، والتي يتمثلها هو بسلاسة لكونها سيرورة قادمة من عصر التنوير ومن الانجازات التكنلوجية والعلمية التي أعقبته ومن مبادى الرأسمالية والتراث الفكري والدستوري الفرنسي والأمريكي. وهي “الميزة” التي لا تتوفر للدولة ذات المرجعية الإسلامية التي يراد بناؤها على الطراز الغربي الحداثي.
ويوضح حلاق أن الغرب يتعامل مع منتجات من بيئته، ويفرض بمركزيته على بقية العالم أن ينخرط في بيئة ليست من صنعه، أن يتخلى عن تاريخه، ويبني حداثته على المفاهيم الغربية التي تناقض المثال الأخلاقي النموذجي الذي كان ينبغي نظريا أن يكون، وأن العالم الإسلامي مجبر على تبني أسس الدولة الحديثة، ولو أسفرت الحداثة الآن عن وجهها القبيح، وظهر بجلاء أنها تقوم في النهاية على الاستبداد السياسي والاقتصادي وعلى تدمير البيئة والمناخ وكل المصادر الطبيعية للحياة.
وجود صوري للشريعة
يسترسل الكاتب في شرح الورطة التي وجدت فيها الدول الإسلامية نفسها بعد ذهاب الاستعمار، ذلك أن مكافحة الاستعمار لم تمتد للنظام السياسي الموروث عنه، بل دعمته هذه الدول مستمرة على نفس نهج الدولة المستعمرة الذي تفقد فيه الشريعة مركزيتها وتصير مجرد مصدر لإضفاء الشرعية على الدولة الحديثة. ولاحظ أن الدولة الحديثة بعد الاستقلال لم تكن لها الكفاءة لملء الفراغات التي ترتبت عن انهيار البنى التقليدية. ولذلك لم تتمكن الدولة الوطنية من فرض ذاتها بشكل كاف، وهذا ما يفسر قيام الدولة الدينية بإيران التي فشل معها كلا النموذجين بسبب التشوهات التي رافقت تطبيق الشريعة في قالب حديث.
هكذا يخلص إلى أن اعتماد الشريعة أسلوب حكم لم يكن بالجدية والالتزام المطلوبين، وبالتالي كان هناك فشل لصب نموذج الدولة الحديثة في الدولة ذات الحكم الاسلامي، لأن هذه الأخيرة تبحث عن حلول أخلاقية في الحداثة تفتقدها هي هذه الحداثة أصلا. إذ رغم تضمين الشريعة في الدساتير، فإن وجودها صوري وغير مؤثر، وهو ما أدى به إلى المطالبة بغض الطرف عن التجربة الإسلامية الحديثة، والاتجاه رأسا نحو تجربة الحكم الإسلامي التي كانت قبل وقوع العالم الإسلامي في براثن الاستعمار.
ولا يأنف الكاتب من نوستالجيا علمية تفرض نفسها عليه، فيؤكد على قدرة المسلمين على حكم أنفسهم وبناء دولتهم، وهم قد قاموا بهذا بالفعل، وعلى مدى طويل، وعلى امتداد مساحات شاسعة، إلا أنهم قاموا بذلك استنادا لمرجعية مفارقة لمرجعية الدولة الحديثة السائدة الآن عبر العالم. فالدولة في ظل الحكم الإسلامي، لا تبحث عن تحقيق أكبر قدر من الفائدة على عكس الدولة الحديثة التي تقوم على هذا المبدأ، والتي رغم محاولاتها إيجاد سند أخلاقي يسعفها على مستوى حل الإشكالية الاخلاقية في النطاقات الثانوية (الأطراف) من خلال استدعاء موروث فلسفي قديم يعود إلى أرسطو وافلاطون وتوما الأكويني، فإنها فشلت فشلا ذريعا في ذلك.
وينصف حلاق الحكم الإسلامي لما قبل الاستعمار، والذي كان في وضع مريح أخلاقيا بعد أن مدته الشريعة الإسلامية المتأتية من الوحي، بنموذج ناجز، مقبول، وقادر على دمج الأقليات وحل الاختلالات والتناقضات التي تظهر في الأطراف بفضل نزعة المجاهدة الأخلاقية التي تنأى بالحكم الإسلامي بالسعي وراء أكبر قدر من المصلحة. هذا ما عبر عنه وائل حلاق بأنه كمسيحي يفضل أن يعيش في العصر الأموي أو العباسي.
هذه الثغرة الأخلاقية لدى الغرب، يورد حلاق، دفعته لطلب واستدعاء مرجعية تنويرية أخلاقية تسدها، لكن هذا المنحى برأيه يتناقض مع حداثة الدولة بالاعتماد على أطروحات ماضوية ويشبه في سلوكه ما يقوم به دعاة بعث الحكم الإسلامي. وبالتالي فإن الغرب قرر أن يتمركز حول ذاته، وهو سائر في تبني ضلالته القائمة على أن التقدم العلمي الذي توفره الدولة الحديثة سيحل كل إشكاليات الإنسانية.
الشكل قبل المضمون
ينبري وائل حلاق في مؤلفه إلى تحليل هذه الدولة الحديثة، الواثقة بنفسها، ويقوم بسبر أغوارها للخلوص إلى حقيقتها، وهنا يورد أن هناك عدة تصورات عن مضمون الدولة الحديثة والتي اسفرت عنها عبر مجرى تاريخها والتي قد تكون ليبرالية، أو اشتراكية، أو شيوعية، أو محافظة، ولكن في ما يخص هويتها الحداثية فإن الشكل هو الحاسم في الأمر، وهو أهم من المضمون، وأنه هو من يحدد حداثة الدولة من عدمها، وأنه عابر لكل هذه التصورات المضمونية، فيضيف أن الشكل يتطلب شروطا ثابتة أهمها سيادة الدولة، واحتكار التشريع من طرفها، وبيروقراطيتها وهيمنتها الثقافية. ولقد كان هدفه هذا من تفكيك الدولة الحديثة إلى مجموعة خواص أن يبرز تعارضها مع الرؤية الإسلامية التي تنبني على مركزية الأخلاق فيما لا تنظر الدولة الحديثة إلا إلى المصلحة .
حكم إسلامي لا دولة إسلامية
يرى حلاق أن الدولة الحديثة تقوم على الفصل بين السلطات، وهو ما يناقض فلسفة الحكم الإسلامي القائمة على أسس أخلاقية وقانونية سياسية واجتماعية. وهكذا سيخلص إلى فكرة أصيلة، وهي أنه لا يمكننا الحديث عن دولة إسلامية وإنما عن حكم إسلامي، مستنكرا أن الدولة الحديثة تنكرت لمثل هذه التجربة “الرائعة اخلاقيا”.
ويبدع حلاق في توصيف الفروقات بين النموذجين بخصوص هوية الذات التي سوف تتخلق في كنف كل منهما: الدولة الحديثة، تقوم على مبدأ سياسي، وتطالب بالتالي الفرد بأن يضحي من أجل الدولة، فيما يجعل الحكم الإسلامي هذه التضحية خيارا شخصيا للفرد انطلاقا من وازع أخلاقي تجاه المجتمع. وبالتالي يصوغ الذات بطريقة مختلفة انطلاقا من منزلة الشريعة في النفوس، وليس بالإكراه بالقوانين الوضعية التي تفرضها المواطنة.. هذه التباينات تجعل النموذجين على طرفي نقيض. ذلك أن الدولة العصرية تستخدم البشر في سبيل أهدافها، فيما يقوم الحكم الإسلامي بإشاعة القيم الدينية في المجتمع، وفسح المجال أمام الفرد لكي يختار هو بنفسه أن يتصرف لفائدة الذات الجمعية استنادا لقيم أخروية.
وينتقل حلاق إلى مرتبة عليا من التحليل، حيث ينكب على التقنيات التي تنهجها الذات للتأقلم مع شكل الدولة، حيث يستدعي بالنسبة للحكم الإسلامي نموذج الغزالي، وكيف أخضع الذات بالخلوة والتعبد كواجب أخلاقي، مما يبرز الهوة بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الحداثي للحكم. واستحالة أن يأخذ الحكم الإسلامي قالب الدولة الحديثة.
رفض للهيمنة الغربية
ويبين الكاتب أن الأمر يزداد تفاقما مع طوفان العولمة الذي يهدد بالتنميط الحضاري التام، نتيجة الإفراط في كسب القوة من لدن الدول القومية الغربية، والرغبة الجامحة لديها في الهيمنة الثقافية والاقتصادية على الآخر. هذا الاخر الذي تزدري ماضيه وتقاليده وفلسفاته. مما سيجرف كل ما تبقى لدى العالم الإسلامي من تمثلات معرفية عن مفاهيم الحكم لديه، ويمهد لاجتياح معرفي كاسح، لكنه يدعو إلى مقاومة كل هذا.
لا يمكن لحلاق ذي الجنسية الكندية والمسيحي الذي يعد نبوغه وتفوقه منتوجا للحضارة الغربية، والذي هو في نفس الآن الفلسطيني الذي ولد في كنف حضارة شرقية والمفكر المنقطع لدراسة الفقه الإسلامي أن ينهي كتابه دون أن يحاول التوفيق بين النموذجين المتصارعين، لذلك سيدعو إلى ضرورة التحاور مع الغرب، واصلاح الحداثة من داخلها أخلاقيا راجيا نشوء نموذج أخلاقي حديث من خلال انتهاز وعي الغرب بمآزق ما بعد الحداثة، لحثه على الاستفادة من التجربة الاخلاقية للحكم الإسلامي، فقد يكون هذا المزج بين النموذجين هو البلسم والدواء لأوجاع البشر على هذه الأرض.