ياسر عبد العزيز
في عام 1993 كان المصور الجنوب إفريقي كيفين كارتر في رحلة عمل إلى جنوب السودان، الذي كان أطفاله يعانون المجاعة في تلك الأثناء، حيث تفقد العمل الجاري في مجمع لمنح المساعدات الغذائية للسكان المحليين، قبل أن يجد طفلة مريضة هزيلة بسبب نقص التغذية، تعاني في طريقها للوصول إلى مستودع الغذاء، في وقت يقف بجوارها نسر، يرقبها متربصا، لاختيار الوقت المناسب للانقضاض عليها.
لقد التقط كارتر تلك الصورة بالفعل، وهي الصورة التي باتت تُعرف لاحقا بصورة «النسر وطفلة المجاعة»، ورغم أن المصور انتحر عقب حصوله على جائزة «بوليتزر» عن تلك الصورة، فإن أثرها ظل فعالا، خصوصا لأنها ألقت الضوء على معاناة أطفال جنوب السودان جراء نقص الغذاء.
لكن جدلا أخلاقيا ومهنيا تفاعل بقوة على خلفية التقاط تلك الصورة، وضمن هذا الجدل وجه البعض أصابع الاتهام إلى المصور، بداعي أنه كان قادرا على إبعاد النسر عن الطفلة «الفريسة»، أو مساعدتها وإيصالها إلى مقر توزيع المساعدات، عوضا عن الانتظار وتحين الفرصة لالتقاط «صورة تاريخية»، قادرة على منحه جائزة مرموقة في مجال عمله الأساسي.. الصحافة.
ولعل هذا الجدل كان مساهما في القرار الذي اتخذه «كارتر» بالانتحار، وهو أمر يبعث على أسى كبير، لكنه يثير أيضا أسئلة، وعلى رأسها بالطبع: ما الصحافي؟ وماذا يفعل في الميدان؟
لقد سعت مراكز البحث والتفكير والوحدات المؤسسية المتخصصة في وسائل الإعلام الكبرى إلى الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، وضمن هذه الاجتهادات بدا أن توافقا كبيرا جرى على أن وظيفة الصحافي هي نقل العالم وشرحه، وليس تغييره بقوة الفعل الفردي، وفقا للمواقف الأخلاقية أو السياسية للصحافي.
لذلك، يحض كبار الصحافيين في غرف الأخبار، كما تشجع الأدلة المهنية التي تطورها المؤسسات الإعلامية، العاملين في المهنة على عدم الانخراط في الأفعال التي يتصدون لتغطيتها، لأن هذا الانخراط قد يكون نوعا من الانحياز لأحد أطراف التغطية، بما يخل بموقف الوسيلة والصحافي الذي يُفترض أنه يتبنى فكرة الموضوعية. أو لأن انخراط الصحافي في التطورات الميدانية التي يتصدى لمتابعتها، قد يعوقه عن ممارسة مهنته الأصلية، وتحوله إلى ثائر يقذف الحجارة في مظاهرة، أو مناضل يحارب العدوان، أو سياسي يقذف رئيس دولة بالحذاء في مؤتمر صحفي، انتصارا لما يعتقد أنه «حق وعدل والتزام أخلاقي».
ويتوسل المنادون بعدم الانخراط في تعزيز حجتهم تلك بأن الصحافة مهنة مهمة وحيوية، لأنها تنقل ما يجري على الأرض للناس، وتفي بحقهم في المعرفة، بما يمكنهم من اتخاذ المواقف والقرارات السليمة، وأن تلك المهمة قائمة بذاتها ولفائدة المجتمع ومصلحة الجمهور، وأن ادعاء دور أقل مما تستوجبه يضر بها، كما أن ادعاء دور أكبر من ذلك يضرها ضررا مماثلا.
وفي الأسبوع الماضي، عاد الحديث مجددا عن انحياز الانخراط، والأدوار المفترضة للصحافيين حين وقوع الكوارث أو المعارك، التي يتصدون لتغطيتها، حينما شنت الحكومة الإسرائيلية حملة منظمة ضد أربعة صحافيين عملوا لصالح وسائل إعلام عالمية كبرى، منها «أسوشيتد برس» و«رويترز»، بداعي أنهم «علموا بموعد هجوم (طوفان الأقصى)، ولم يبلغوا السلطات الإسرائيلية».
وذهبت الحكومة الإسرائيلية في ملاحقة هؤلاء الصحافيين الأربعة إلى اتهامهم بالمشاركة في هذا الفعل الذي استهدف مستوطنات «غلاف غزة»، خصوصا بعدما وُجدت صورة لأحدهم يتلقى قبلة من القيادي «الحمساوي» يحيى السنوار، ما عدته دلالة على انتمائه المفترض لـ«حماس».
لقد نفت معظم هذه الوسائل أن أيا من العاملين بها أو المتعاونين معها كان على علم بموعد هجوم «حماس»، كما دافعت عن مواقفها إزاء التغطية، ورغم أن إحدى هذه الوسائل قطعت تعاملها مع المصور الذي نُشرت صورته برفقة «السنوار»، فإن هذا القرار لم يكن كافيا لكي توقف إسرائيل مطالباتها بمحاسبة هؤلاء الصحافيين، واعتبارهم «مشاركين في الجريمة» المفترضة.
يجب ألا تخضع وسائل الإعلام العالمية، التي استهدفتها إسرائيل بتلك الاتهامات، لهذا الضغط أو الابتزاز، ورغم أنه من المقبول والمفهوم أن تجري هذه الوسائل تدقيقا، للتأكد من أن العاملين بها أو المتعاونين معها لا يتصلون بروابط تنظيمية أو عاطفية مع أطراف النزاعات والقضايا، فإن ذلك لا يعني أن يتحول صحافيوها إلى مخبرين أمنيين.
ينبغي ألا يعلم الصحافي بجريمة أو مخالفة قانونية من دون أن يتخذ الموقف المهني اللازم حيالها، أي القيام بتغطيتها وفضح تفاصيلها للجمهور، أما أن يتحول الصحافيون إلى مخبرين للإبلاغ عن الأحداث قبل وقوعها، فذلك مما يقوض مهنة الصحافة ومفهومها.
وإذا جاز أن يمارس الصحافي دورا إنسانيا في منع جريمة ما قبل وقوعها، أو التدخل لإنقاذ حياة إنسان في مأزق صعب، فإن ذلك يجب أن يحدث من دون أي إخلال بوظيفته الأساسية، التي لا تقل أهميتها عن غيرها من الوظائف.
وفي حالة هجوم «طوفان الأقصى»، لم تثبت إسرائيل أن الصحافيين علموا بموعد الهجوم. كما تبرز أيضا إشكالية أكبر؛ إذ إن هؤلاء الصحافيين المتهمين من قِبل إسرائيل فلسطينيون، وما تطلبه إسرائيل أن تحولهم ببساطة إلى مخبرين لها، فيما هي كما يعلم الجميع ليست سوى قوة احتلال.
نافذة:
ينبغي ألا يعلم الصحافي بجريمة أو مخالفة قانونية من دون أن يتخذ الموقف المهني اللازم حيالها أي القيام بتغطيتها وفضح تفاصيلها للجمهور