الملك الحسن الثاني ألبسني بذلة الجيش بعد نجاتي من الاغتيال في مهمة إلى بوضياف

يونس جنوحي
قصتي مع بذلة الجيش الملكي
لم أفكر يوما في الالتحاق بالجيش الملكي من قبلُ. فقد كنت أتردد على إقامة ولي العهد، وكان مدير ديوانه هو الصديق عبد الرحمن الكوهن. وخلال تلك الفترة، في أوائل سنة 1956 وطيلة تلك السنة حقيقة، كان ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، متابعا عن كثب لملف جيش التحرير وكان يزور مناطقه في مختلف جهات المغرب.
وبحكم المهام السابقة التي مارستها هناك قبل الاستقلال، كنت أعرف جيدا رؤساء وحدات جيش التحرير وكلهم كانوا أصدقاء لي.
في تلك المرحلة، لم يبدأ التصدع بعدُ في صفوف المقاومين في سياق سوء الفهم بين الجناح السياسي والمقاومة، لكن إرهاصاته بدأت تتبين على الأرض.
عندما كان ولي العهد يرغب في استدعائي، كان يتصل بدار أحرضان، ويبعث في طلبي وألتحق به في إقامة ولي العهد.
في إحدى المرات، في هذا السياق الزمني دائما -أي خلال سنة 1956- كلفني بمهمة غاية في الأهمية. عندما وصلتُ عنده، وجدته في انتظاري، وأمامه حقيبة، مغلقة، متوسطة الحجم. قدمها لي بين يدي، وأمرني أن أنتقل فورا، دون أي تأخير إلى تطوان. وقال لي رحمه الله: «اذهب الآن إلى تطوان، وسوف تجد محمد بوضياف في انتظارك. سلّم له هذه الحقيبة وعد إلى هنا على الفور».
كان ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، يعلم جيدا أنني كنت صديقا لمحمد بوضياف منذ أيام المنفى في تطوان، وقد حكينا له سابقا عن اتصالنا بالإخوان الجزائريين، ولديه صورة واضحة عن تحركاتهم في الناظور وتطوان. لذلك كلفني بهذه المهمة.
فعلا، انطلقتُ فورا في مهمتي وأسرعتُ لتنفيذ الأمر في أقرب وقت ممكن.
عندما وصلتُ إلى تطوان، وجدت بوضياف فعلا في انتظاري، في المكان نفسه الذي كان ينزل فيه دائما عندما كنا نلتقي في تطوان. فقد كانت «دار بركات» موقعا يتجمع فيه الوطنيون وضيوف تطوان من الفدائيين مغاربة وجزائريين.
عندما وصلتُ كان المساء يقترب، سلمتُ بوضياف الحقيبة، وأقول هنا إنني، بعد كل هذه السنوات التي مرت على هذه الواقعة، لا أعلم إلى اليوم ماذا كان يوجد في الحقيبة. وحتى بوضياف لم يفتحها أمامي، وفهمتُ أنه كان على اتصال سابق مع الأمير مولاي الحسن، فقد كان ينتظر وصولي بدوره.
وُضع الطعام، واجتمعنا حول المائدة. وبينما نحن جلوس، سمعنا صوت إطلاق نار، ولم أنتبه إلا وأنا ملقى على الأرض، بعد أن حاولنا جميعا الاحتماء من الطلقات.
انتبه الإخوان الحاضرون، في تلك اللحظة، إلى أنني أنزف من منطقة مؤخرة الرأس. كنت محظوظا يومها لأني لم أمت، فقد مرت الرصاصة بمحاذاة رأسي تماما، واحتكت قليلا مع فروة رأسي من الخلف. ولو أنني أدرت رأسي قليلا، لربما استقرت الرصاصة داخله ومتُ في الحال.
لقد نجوت بأعجوبة من موت محقق.
بدأت الأسئلة تتناسل في رأسي، واحتار بوضياف كثيرا. لم نكن نعلم من المستهدف من هذا الهجوم. إذا كان بوضياف مُستهدفا فهذا يعني أنه يتعين عليه أن يغادر على الفور. وإن كنت أنا مستهدفا، كان الأمر يعني أن هناك أطرافا لا ترغب في أن أظهر في المكان.
كل الاحتمالات واردة، فقد كانت هناك بعض الأطراف والدخلاء على المقاومة بعد الاستقلال يسعون للسيطرة على أسرة المقاومة وقدماء المقاومين، وتصفية كل الأسماء التي من شأنها أن تعرقل مخططهم.
قررتُ ألا أبقى ساعة أخرى في تطوان، وأن أعود أدراجي فورا إلى الرباط، لأحكي لولي العهد ما وقع. فقد قدّرتُ أنه يجب أن يعلم فورا بهذه التطورات. وفعلا لم تفلح توسلات الإخوان بالبقاء لأرتاح، إلى أن يطمئنوا عليّ من تأثير الجرح في مؤخرة رأسي. كان هناك دم على قميصي، وأداروا ضمادة على رأسي لكي يتوقف النزيف وانطلقتُ في رحلتي ليلا إلى الرباط.
وصلتُ في الصباح الباكر، ولم أذهب إلى أي مكان، بل انطلقتُ فورا إلى إقامة ولي العهد، وقفزت بسرعة من السيارة. ما أن علم ولي العهد بوصولي في تلك الساعة المبكرة، حتى خرج ليطمئن عليّ أولا، وحكيتُ له ما وقع، وعاين بنفسه الدماء على قميصي والضمادة تحيط برأسي، وطمأنتُ جلالته على المهمة وأخبرته أن الحقيبة وصلت إلى بوضياف وأنني سلمتها له يدا بيد.
هنا أجرى مولاي الحسن اتصالا هاتفيا، وطلب أن يحضر عنده على الفور من يأتي ببذلة عسكرية للجيش الملكي، وألبسني إياها وصرتُ، من تلك اللحظة إلى أن بلغتُ سن التقاعد، عسكريا.
أنا وبوضياف
علاقتي بمحمد بوضياف كانت ممتدة قبل هذه الواقعة، واستمرت إلى ما بعدها. بعد استقلال الجزائر، كان بوضياف يمارس العمل السياسي في بلاده، لكنه سنة 1963 سوف يحكم عليه بالإعدام من طرف جناح الهواري بومدين الذي انقلب على رفاقه وسجن بن بلة وآخرين.. نجا بوضياف بأعجوبة، وأصبح يعيش بين باريس وسويسرا، ويزور المغرب.. لكنه أصبح يتردد على المغرب أكثر، في السبعينيات، وعاد الاتصال بيني وبينه في تلك الفترة بقوة، وكثيرا ما كان يزورني في منزلي، لنشرب الشاي ونسترجع ذكريات فترة تطوان ومغامرات المقاومة.
في تلك الفترة، التي كان فيها مستقرا في المغرب، عرّفني على زوجته وأبنائه، وكان بيننا ود متصل لا ينقطع.
وفقط لأعطي مثالا على عمق صداقتي مع بوضياف عندما استقر في المغرب خلال السبعينيات، فقد كان رحمه الله ينتظرني دائما في مقهى بمدينة القنيطرة. ولا يمكن أن يتناول وجبة الإفطار إلا ونحن معا في الطاولة نفسها. وكثيرا ما كنت أذهب إليه وأجده جالسا ينتظر، ويرفض دائما أن يتناول الإفطار إلا بعد انضمامي إليه..
وعندما استُدعي لكي يصبح رئيسا للجزائر، استمرت الصداقة بيننا، بل وكان رحمه الله يتصل بي هاتفيا في بعض المناسبات، ولم يحل سفره إلى الجزائر دون الحفاظ على صداقاته في المغرب.
كانت هناك بعض الشخصيات الجزائرية والمغربية، التي كان بوضياف وأسرته يكنون لها ودا كبيرا. من بين هذه الشخصيات «مدام بنگاسم»، وهي سيدة جزائرية تزوجت في المغرب واستقرت مع المغاربة، وكانت ميسورة الحال، وكان بوضياف يكن تقديرا كبيرا لها ولعائلتها.
أما كيف علمتُ أن بوضياف سوف يصبح رئيسا للجزائر، فقد جاء عندي إلى المنزل، بداية التسعينيات، وأذكر جيدا ما دار بيني وبينه، ولا أنساه نهائيا، فقد كانت لحظات مؤثرة، قال لي: «لقد استدعوني لكي أصبح رئيسا للجزائر. ما رأيك؟».
أجبته بأنني لست مُلما بالشأن الداخلي للجزائر، وأنه يتعين عليه أن يربط الاتصال مع رفاقه في الداخل، خصوصا الذين كان يمارس معهم العمل السياسي داخل الجزائر، ويثق في ولائهم وإخلاصهم، لكي يضعوه في الصورة. إذ لا يجب أن ننسى أن بوضياف غادر الجزائر منذ الستينيات، ولم يكن يعرف حقيقة ما وراء الكواليس، داخل البلاد.
كانت لدى بوضياف رغبة في الإصلاح، لكنه لم يكن يعرف ما سيفعله معه الجزائريون. وحسب ما أعلم، فقد اتصل بوضياف بالدكتور الخطيب أيضا لكي يستشيره في هذا الأمر. واتصل أيضاء بأصدقاء آخرين، ونصحوه بالذهاب إلى الجزائر وقبول العرض، ليصبح رئيسا للجمهورية.
كان وصول بوضياف إلى الرئاسة، في يناير 1992، مدعاة تفاؤل في صفوف عدد من الرفاق في المغرب، وكان هناك ارتياح لأن بوضياف صديق للمغرب، ووصوله إلى الرئاسة، بداية التسعينيات، يعني أن القضية الوطنية، قضية الصحراء المغربية، لا بد أن تعرف انفراجا، وأن بوضياف سيعيد الأمور إلى نصابها ويوقف دعم البوليساريو.
لكن هذه «الاستشرافات» كلها اصطدمت مع الواقع الجزائري.
فقد كانت هناك جيوب مقاومة ترفض الأعمال التطهيرية التي بدأها بوضياف. فقد بلغنا أنه زج بأحد المسؤولين الكبار في السجن على خلفية قضايا فساد واختلاسات، وأسس جبهة سياسية جديدة لإصلاح شؤون البلاد.
كانت آخر زيارة لبوضياف إلى المغرب، قبل اغتياله بمدة قصيرة، وقد جرى بيني وبينه اتصال، ولم يكن يدور بذهني نهائيا أنه الاتصال الأخير.
وفي يوم 29 يونيو وصل إلينا خبر اغتيال الرئيس الجزائري محمد بوضياف. لم أستوعب الخبر في البداية، لكن أدركنا جميعا أن التخوفات التي كانت لديه قبل قبول المنصب، هي نفسها التي أدت إلى اغتياله بتلك الطريقة الغريبة. على الهواء مباشرة، وتابعها الجزائريون جميعا، ووصلت مشاهدها إلى العالم.
عندما علم الملك الراحل الحسن الثاني، باغتيال بوضياف، أرسل رسالة فورا إلى زوجته، وبعث جلالته في طلب أصدقاء بوضياف في المغرب لكي يذهبوا، بإشراف من جلالته، ويحضروا جنازة الرئيس الفقيد.
وفعلا ذهب الدكتور الخطيب، وحسب ما أذكر، فقد رافقه اثنان يمثلان المقاومة. وطبعا لم أذهب لأنني كنتُ عسكريا، ولا حاجة لكي أشرح المزيد..