
نعيمة لحروري
في مدينة بوعرفة، لا يموت الناس فقط بسبب الحوادث، بل بسبب الغياب. غياب التجهيزات، غياب الكفاءة، وغياب أدنى مقومات الرعاية الصحية.
محمد الشيخاوي، شاب في مقتبل العمر، وحيد أمه، كان ضحية هذا الغياب. بعد أن دهسته شاحنة على مستوى ساقه، نُقل إلى ما يُفترض أنه مستشفى إقليمي، لكنه لم يجد فيه سوى الجدران. سيارة الإسعاف الوحيدة في مستشفى الحسن الثاني كانت معطلة، فأُبلغت السلطات المحلية. طلبت عائلته المساعدة، وانتظرت.. وظلت تنتظر ساعتين كاملتين حتى وصلت سيارة تابعة للمجلس الإقليمي. ساعتان نزف خلالهما محمد، صامتا، متألما، ومعلقا بين الحياة والموت.
وحين وصلت سيارة الإسعاف أخيرا، بدأت رحلة جديدة أشد قسوة: أربع ساعات تقريبا نحو مستشفى وجدة الجامعي. أربع ساعات من النزيف المتواصل، من الألم المتفاقم، من الأمل المعلق. وعندما وصل أخيرا، كانت دماؤه قد خانته، وكانت كل محاولات الطاقم الطبي هناك نبيلة، لكنها متأخرة. محمد لم يمت من الحادث.. بل من النزيف، من التأخير، من الإهمال الذي راكمه نظام صحي مهترئ.
هذه ليست مجرد قصة فردية، بل مرآة لواقع صحي مهترئ في إقليم بأكمله. المستشفى الرئيسي في بوعرفة بات عنوانا للعجز بدل العلاج، مجرد محطة انتظار للموت أو الترحيل. التخصصات الطبية الحيوية شبه منعدمة: لا وجود دائم لأطباء الإنعاش، الجراحة، التوليد، أو حتى تقنيي المختبر المؤهلين. المرضى يُنقلون لمسافات طويلة في سيارات إسعاف متهالكة، أحيانا لأكثر من 600 كيلومتر، لا لشيء سوى لأن المستشفى غير قادر على التدخل.
النساء الحوامل يُجبرن على قطع هذه المسافات في ظروف غير إنسانية، فقط من أجل ولادة آمنة. أما مرضى السكري، الضغط الدموي، وأمراض القلب أو الغدة، فلا يتوفر لهم الحد الأدنى من المتابعة، لأن التحاليل الأساسية التي يحتاجونها غير متوفرة. حتى الأدوية الضرورية لم تعد مضمونة، وأحيانا يُطلب من المرضى دفع تكاليف جانبية لا تتماشى مع حقهم المفترض في العلاج المجاني.
الأدهى أن كل هذه الاختلالات أصبحت معتادة. أصبح الصمت هو رد الفعل الرسمي، وأصبحت هذه المعاناة جزءا من حياة السكان اليومية. لم يعد المرض هو المشكلة، بل ما يُرافقه من إهمال وتأخير ومخاطرة.
الحل لا يكمن في وعود منمقة أو زيارات رسمية عابرة. ما نحتاجه هو إصلاح شامل لمنظومة الصحة بالإقليم: مستشفى مجهز، تخصصات طبية قارة، مختبر فعال، سيارات إسعاف كافية، وأدوية متوفرة باستمرار. نحتاج إلى بنية تحتية تحترم إنسانية الناس، لا مجرد مرافق فارغة من المضمون.
ما يحدث في فجيج ليس مجرد أزمة قطاع، بل هو وجه من وجوه التهميش العميق. حين يموت الناس لأن الإسعاف لم يأتِ، لأن الطبيب غير موجود، لأن التحاليل غائبة، فذلك ليس قضاء وقدرا، بل هو تقصير بشري لا يغتفر.
لا أحد يستحق أن يُترك لينزف حتى الموت، لأنه وُلد في مدينة صغيرة.
ولا كرامة تُبنى فوق أنقاض الأرواح المهدورة!