الرئيسية

تاريخ النهب في المغرب

«عند مغادرته بوابة القصر الملكي في آخر يوم من حياته السياسية القصيرة نوعا ما، تفرغ المهدي المنبهي ليعيش حياة هادئة في طنجة وفي الخارج أيضا، وبدا أن التهمة التي وجهت له لم تكن نابعة من فراغ، لأن بعض الذين عاصروه في آخر أيامه تحدثوا عن أن الرجل كان ينعم بحياة هادئة في طنجة، ويقوم رفقة زوجته وأبنائه بسفريات إلى الخارج للترويح عن نفسه، في وقت كان فيه مستقبل المغرب على المحك، خصوصا مع اقتراب التوقيع على معاهدة الحماية سنة 1912. هذا الرجل يعد تاريخيا أول من وجهت له تهمة تهريب أموال الدولة إلى الخارج.. هنا البداية، وهكذا تورط آخرون».
للذين لم يعودوا يسكنون معنا في المغرب، قصة غريبة مع المال. اشتروا كل شيء، بما في ذلك طرقا تضمن لهم الهروب بجلدهم من الرقابة ويد العدالة التي كانوا يعلمون أكثر من غيرهم أنها ستسعى وراءهم بمجرد تغيّر الحال..
ستجدون أن التاريخ كان يلعب لعبة لا يمل منها في كل مرحلة من المراحل التي مر منها المغرب. خلال مئتي سنة أو ربما أكثر بقليل، كان تهريب الأموال إلى الخارج هو المهنة الرسمية لعدد من موظفي الدولة والوزراء أيضا.
الهاجس الذي يحرك هؤلاء جميعا، هو رغبتهم في تأمين حياتهم بعد أفول نجمهم وانقطاع السبل بهم. كلهم، بدون استثناء، كانوا يعلمون أن فترة ما سوف تأتي لا محالة، لن يكون لهم فيها أي صلاحية ولا سلطة، وسيكون من الصعب عليهم أن يعيشوا حياة عادية بعد أن ألفوا وضعهم، خصوصا وأنهم قاموا بأمور كثيرة تجر عليهم الأعداء أكثر مما تعود عليهم بالصداقات، وهكذا كان يتوجب عليهم تأمين حياتهم بعد انتهاء صلاحيتهم في السلطة.
كيف هرب هؤلاء أموالا إلى الخارج، قيد تقلدهم لمناصبهم، وكيف استطاعوا، عبر أجيال متواصلة، أن يمارسوا الفساد المالي داخل دهاليز الدولة، قبل الحماية الفرنسية وبعدها أيضا، ويفرغوا من صناديق الدولة من المال.
في هذا الملف نعود إلى أقدم الفترات التي كان فيها المغرب يحتك بالخارج، لنقف عند أول حالة من حالات الاتهامات التي وجهت لمسؤول كبير في الدولة بتهريب الأموال إلى الخارج ومحاولة تأسيس حياة جديدة في بريطانيا، خصوصا أن المغرب في فترته كان يمر بأزمة حقيقية وكانت المؤشرات كلها توحي بأن البلاد أصبحت في مهب الريح.
نفس السيناريو بأناس آخرين سيتناسل ليفرز المزيد من الأسماء المخزنية، ممن هربوا الأموال إلى الخارج، لكنهم لم يستفيدوا منها بعد أن فرضت عليهم الإقامة الجبرية في المغرب، وصودرت كافة ممتلكاتهم داخله عقابا لهم على عدم اصطفافهم في صف مريدي الملك محمد الخامس والداعين إلى عودته إلى المغرب.
بعد الاستقلال سيصبح تهريب الأموال إلى الخارج، علما حقيقيا بعد أن كان مجرد هواية، وستأتي على المغرب مراحل كان يتوجب عليه فيها أن يقطع مع الفساد ويوقفه، خصوصا في محطة حالة الاستثناء، ثم الحملة التطهيرية.. هل أوقفت هذه المناسبات نزيف الأموال المهربة إلى الخارج؟ بدا وكأن تهريب الأموال كان أكبر من أن تحتويه حملة رسمية، ما دام بعض الرسميين متورطين وغارقين حتى الأذنين.

هؤلاء بدؤوا «موضة» تهريب أموال البلاد إلى الخارج
كيف يعقل مثلا أن يفكر أحد المواطنين المغاربة، غير العاديين بطبيعة الحال، في نقل أمواله إلى خارج البلاد. تقول بعض المعطيات الأولية إن بعض المعمرين، هم من همسوا في أذن بعض الأعيان المغاربة الوزراء السابقين لكي ينقلوا أموالهم خارج المغرب. والدليل على هذا الطرح، حسب مروجيه، أن بعض الوزراء السابقين، خصوصا الذين اشتغلوا إلى جانب الملك محمد الخامس سنوات الأربعينيات، استفادوا من امتيازات بعد تنقلهم إلى خارج المغرب، شملت حمايتهم وتوفير المنازل لهم، والمقابل كان ترويجهم للأموال التي نقلوها معهم من المغرب إلى فرنسا على وجه الخصوص.
لكننا وجدنا لكم إشارات أقدم مما تحدث عنه هؤلاء، وهكذا فإن أول من وجهت له أصابه الاتهام بأنه يخطط لنقل الأموال إلى الخارج، وكان مسؤولا بارزا في الدولة، هو الوزير القوي المهدي المنبهي الذي بدأ حياته السياسية قبل وفاة المولى الحسن الأول بفترة قصيرة، واستمر عمله داخل القصر الملكي كمقرب من الملك أولا، ووزير للدفاع، ثم ممارسا لمهام وزير الداخلية دون حتى أن توجد في المغرب وزارة للداخلية!
وجهت للمهدي المنبهي تهمة ثقيلة عندما كُلف رسميا بتمثيل القصر الملكي في مراسيم تربع إدوارد السابع على عرش بريطانيا، واستغل أعداؤه داخل القصر الملكي غيابه في هذه المهمة التي يفترض أنها من اختصاص وزير الخارجية، وروجوا ما مفاده أن المهدي المنبهي هرب معه مبالغ ضخمة مستغلا السفرية إلى الخارج، بمساعدة بعض أصدقائه الإنجليز ليبدأ حياة جديدة في بريطانيا إذا ما تأزمت الأوضاع في المغرب، وكاد عند عودته أن يدخل السجن، فقد كان بعض المخازنية ينتظرونه في رصيف الميناء، وأخبره القايد ماكلين وهما في السفينة أثناء عودتهما إلى المغرب بعد انتهاء الزيارة الرسمية، أن هناك من يطبخ مؤامرة ضده داخل القصر الملكي ويتهمه بأنه يهرب أمواله إلى إنجلترا بمساعدة أصدقائه البريطانيين الذين كانوا يترددون على بيته في فاس. لكنه لجأ إلى حيلة، كما جاء في الرواية التي قدمها الصحفي صاحب «المحلات السلطانية»، إذ أن المهدي المنبهي عندما وصل إلى الميناء، تنكر حتى لا يتعرف عليه المخازنية، واتجه صوب القصر الملكي، وهو الأمر الذي تطلب منه سفر ليلة كاملة دون توقف، من ميناء طنجة إلى فاس، ويفاجئ الجميع بمثوله أمام الملك لتوضيح ملابسات التهمة التي طالته.. وفي الأخير تم طي الملف لأن أعداءه لم يكونوا يتوفرون على أي دليل مادي على تهريبه للأموال إلى الخارج.
عند مغادرته بوابة القصر الملكي في آخر يوم من حياته السياسية القصيرة نوعا ما، تفرغ المهدي المنبهي ليعيش حياة هادئة في طنجة وفي الخارج أيضا، وبدا أن التهمة التي وجهت له لم تكن نابعة من فراغ، لأن بعض الذين عاصروه في آخر أيامه تحدثوا عن أن الرجل كان ينعم بحياة هادئة في طنجة، ويقوم رفقة زوجته وأبنائه بسفريات إلى الخارج للترويح عن نفسه، في وقت كان فيه مستقبل المغرب على المحك، خصوصا مع اقتراب التوقيع على معاهدة الحماية سنة 1912.
بهذا يكون المهدي المنبهي أول سياسي توجه له تهمة تهريب الأموال إلى الخارج، وتثبت السنوات بعد ذلك أنه فعلا كان ينقل بعض أمواله خارج البلاد لتأمين حياته ومكانته الاجتماعية في حالة ما إذا ازدادت الأوضاع سوء في المغرب.
بعد ذلك جاءت فترة المسؤولين الآخرين الذين وجهت لهم نفس التهمة، وبينهم وزراء كبار ومستشارون في قلب القصر الملكي قبل بداية الخمسينات، وهؤلاء لم يكونوا في حاجة لكي توجه لهم أصابع الاتهام بتهريب الأموال إلى الخارج، بل كانوا يقومون بهذا الأمر في واضحة النهار، بمساعدة أصدقائهم الفرنسيين الذين قدموا لهم ضمانات بدء حياة جديدة في المدن الفرنسية بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى، واتهامهم بالعمالة لفرنسا وخيانة الدولة المغربية في عز أزمة العرش ونفي الملك محمد الخامس إلى الخارج. أما الجيل الثاني منهم، فقد التحقوا بالخارج سنة 1956، في رحلة للنجاة بحياتهم قبل أن يطولهم غضب الشارع، فيما بعضهم، كما وقع للحاج المقري الذي جرد من ممتلكاته وبقي حبيس بيته لا يغادره، فيما لجأ أصدقاؤه إلى الخارج بعد أن صادرت الدولة رسميا ممتلكاتهم مثل المقري تماما. لكن الفرق كان يكمن في أنهم عاشوا حياة رغيدة في فرنسا، واستفادوا من الأموال التي هربوها معهم في الحقائب، بحرا، ليبدأوا بها حياة جديدة في الخارج.
وتكشف بعض المصادر أن الذين لم يتمكنوا من العبور إلى الخارج، مثل الفاطمي بنسليمان، الذي كاد أن يتبوأ منصب أول وزير أول في تاريخ المغرب سنة 1954، كانوا بدورهم قد عملوا على نقل بعض أموالهم إلى الخارج، كما أنهم استفادوا من تسهيلات قدمتها لهم الإدارة الفرنسية في المغرب، لمساعدتهم على تحويل أموالهم إلى خارج المغرب وإيداعها في أبناك بـ«باريس» و«ليون»، في انتظار سفرهم النهائي إلى فرنسا بعد تأزم الأوضاع في المغرب ليبدؤوا حياة جديدة هناك، لكن الأمور سارت في اتجاه آخر، خصوصا وأن بعضهم، كما وقع للمقري والفاطمي بنسليمان وآخرين، لم يتمكنوا من المغادرة وبقوا حبيسي منازلهم في المغرب، بل وتم الاستيلاء على ودائعهم بالخارج على يد أصدقائهم!
أحد هؤلاء أيضا، هو الحاج الحجوي، وكان قد صنف في لائحة الخونة التي صدرت بعد عودة محمد الخامس من المنفى مباشرة، وكان هناك حديث عن نجاحه في تهريب أموال مهمة إلى الخارج، وكأنه توكوكأنه تتنبأ بقرب مصادرة ممتلاكته. بالإضافة إلى الحاج اعبابو الذي كان الملك محمد الخامس قد وضع حدا لنفوذه بمجرد وصوله إلى العرش، وهكذا كانت سنوات الثلاثينيات، غير سارة بالنسبة له، ويقال إنه كان يشرع أيضا في نقل مبالغ مالية بمساعدة أصدقائه الفرنسيين، والدليل أن محمد الخامس عندما صادر أملاكه بالدار البيضاء، تدخل الفرنسيون وقدموا ضمانات للقصر الملكي مقابل تمكين اعبابو من السفر إلى فرنسا، ليبدأ حياة جديدة هناك، وما كان هذا الأمر ليتم لولا أن اعبابو كان يتوفر على ثروة بالخارج.

صفقات بملايين الدولارات أبرمها الوزراء الفاسدون وألغتها الدولة في آخر لحظة
إذا كان الفضوليون في حاجة إلى دليل مادي على وجود الفساد المالي في صفوف الوزراء السابقين في الدولة، فإن الحادثة الشهيرة لوزراء الملك الحسن الثاني سنة 1970، تبقى أكبر دليل على أن كواليس الوزارات كانت غير بريئة. حتى أن الملك الراحل أمر شخصيا بمحاكمة الوزراء الفاسدين وتم الزج بهم في السجن، وكانت التهم الموجهة إليهم تحوم كلها حول الفساد المالي واستغلال مناصبهم الوزارية لأغراض شخصية. والحقيقة أن هذه التهمة كان يجب أن تجر وزراء آخرين بالإضافة إلى الذين وجهت إليهم، وسيجد القائمون على أمر «تطهير» الوزارات المغربية من الفساد أنفسهم مجبرين على جمع أسماء أخرى في لائحة الفساد واستغلال النفوذ وتهريب أموال الدولة إلى الخارج.
لهذا السبب بالضبط كان البعض غير راضين عن مشاهد تقديم الوزراء المغاربة إلى المحاكمة وإسكانهم في الزنازين في انتظار صدور الحكم النهائي، قبل أن يتدخل الملك الحسن الثاني لإنهاء كل شيء، بعدما تأكد أن المشهد كان كافيا لبث الرعب في نفوس وزرائه الآخرين، خصوصا أن الرسالة وصلت إلى الجميع، ومفادها أن القصر لن يتساهل مستقبلا مع الوزراء الذين كانت لديهم بطون كبيرة.
مر المغرب بمراحل أخرى، بعد هذه المحاكمة، وعاد جيل جديد من الوزراء الجشعين لينضموا إلى لوائح الوزراء الذين شكلوا الحكومات في المغرب، وكانت قصص استغلالهم لنفوذهم في الدولة واضحة، حتى أن بعضهم دخلوا الحكومات فقراء وخرجوا منها أغنياء بعقارات في الداخل والخارج، وهو ما يعتبر دليلا قويا على أن تهريب الأموال إلى الخارج، كان قائما في الثمانينات وحتى في التسعينيات.
تتحدث بعض القصص عن امتلاك وزراء سابقين، قيد حياتهم، لعقارات في العواصم العالمية، وعند تتبع الخيط لمعرفة الطريقة التي يراكمون بها الثروات ويهربونها إلى الخارج، نجد أن القصص كلها تلتقي في محيط الملك الحسن الثاني، أي أن الذين كانوا يسمحون لهؤلاء الوزراء والموظفين السامين بتهريب الأموال إلى الخارج، هم أنفسهم الذين يفترض فيهم أن يكونوا أهل ثقة للملك الراحل، وهكذا كان تهريب الأموال المغربية خارج الدولة، مزدهرا خصوصا خلال الثمانينات.
الدليل على هذا الكلام، جاء بعد سنة 1999، أي بعد وفاة الملك الحسن الثاني، ليظهر جليا أن بعض مقربيه استغلوا ثقته والرمزية التي مثلوها في دولته، لكي يراكموا ثروات ضخمة بالخارج، بل وليغضوا الطرف عن آخرين ليكونوا ثرواتهم بالخارج. أحد هؤلاء هو عبد الفتاح فرج، مدير الكتابة الخاصة للملك الحسن الثاني منذ 1964 إلى 1999، وهي مدة طويلة كان فيها يصول ويجول ويضع يده على وثائق مهمة. استفاد بحكم منصبه من صلاحيات واسعة وحول أموالا طائلة إلى الخارج، إلى درجة أنه مكن أصدقاء له، وأصدقاء أصدقائه أيضا، من تحويل مبالغ مهمة بالعملة المغربية إلى خارج المغرب، بشكل غير قانوني، مقابل الاستفادة من عمولة شخصية. والنتيجة كانت وجود عقارات فخمة وشقق فاخرة مسجلة بأسماء مسؤولين مغاربة ونافذين ووزراء سابقين، دون توفرهم على وصل قانوني يؤرخ لنقلهم لتلك الأموال إلى الخارج وأداء الضرائب المترتبة عن عملية النقل للدولة.. وهكذا كانت النتيجة تفويت الملايير على الدولة المغربية، وعجزا في عدد من القطاعات التي كانت تخصص لها الملايير سنويا، دون نتيجة.
كانت هناك طريقة أخرى لتحويل الأموال إلى الخارج، بشكل غير مباشر هذه المرة، وتتمثل في الصفقات التي كانت تبرم بين مؤسسات تابعة للدولة وبين تمثيليات أجنبية، أو بين شركات أجنبية يساهم فيها مغاربة بشكل غير مباشر، ويسهرون على تفويت الصفقات لها باستعمال نفوذهم داخل الدولة، وهكذا يتم تفويت مشاريع مهمة لشركات أجنبية، ويستفيد الطرف المغربي من عمولته بالعملة الصعبة، ويتلقاها خارج المغرب.. تبقى هذه الكواليس حبيسة الصالونات المغلقة، للذين يحبون «مضغ» الماضي، ويتحدثون في ما بينهم، عن قصص أثرياء مغاربة اغتنوا في فترة وجيزة، وأصبحت لديهم عقارات في أفخم الأحياء والشوارع الأوروبية، والحال أنهم كانوا قبل الوصول إلى مناصبهم، غير قادرين على توفير قيمة شقة عادية في أصغر مدينة في المغرب. بعض هذه الصفقات المشبوهة، ألغتها الدولة في آخر لحظة، خصوصا عندما كان الحسن الثاني يفطن إلى أن أحد وزرائه يستغل نفوذه بشكل مبالغ فيه، كما وقع في صفقات بناء سلسلة فنادق شهيرة بالرباط والدار البيضاء بمعايير عالمية، واشترط بعض المسؤولين على ملاكي الشركات الأجنبية و«ماركة» تلك الفنادق أن يفوتوا لهم مبالغ مهمة مقابل تسهيل أشغال البناء والترتيبات الإدارية، وعندما بلغ الأمر إلى الملك الحسن الثاني أوقف كل شيء.. وحسب بعض المصادر التي واكبت تلك الأحداث، فإن أولئك الوزراء كانوا يخططون للاستفادة من المبالغ الضخمة بالعملة الأجنبية لشراء عقارات والمساهمة في رأسمال شركات في أوربا وأمريكا، خصوصا في مجال التصدير والقطاع السياحي، لكن تدخل الملك في آخر لحظة أوقف كل شيء، ليعاد تدبير مشاريع إنشاء سلسلة الفنادق الشهيرة بالمغرب.

«من أين لك هذا؟».. الجملة التي كانت تصيب مهربي الأموال بالسكتة القلبية
يبقى صاحب «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير»، عبد الكريم الفيلالي الذي توفي في نهاية شتبنر 2013، أول من طالب في تاريخ البرلمان المغربي بمحاسبة الأغنياء الجدد داخل الدولة المغربية. فقد كان الفقر في الأوساط الشعبية يزداد اتساعا وانتشارا خلال الستينات، في وقت كان فيه الأغنياء الجدد يتكاثرون في المساحة الضيقة للوزارات والمؤسسات التابعة للدولة. كانوا يدخلونها كأيها الناس، ويخرجون منها بثروات ضخمة ومشبوهة أيضا.. وهو ما جعل عبد الكريم الفيلالي، المؤرخ الغاضب، يصيح داخل قبة البرلمان خلال أواسط الستينات: «من أين لك هذا» ويطالب بسن قانون يحمل نفس الاسم، ليحاسب جميع المسؤولين المغاربة بما في ذلك الوزراء والمستشارين الذين اغتنوا بشكل فاحش، وفي فترة قصيرة جدا.
كان عبد الكريم الفيلالي مغضوبا عليه في محيط الملك الراحل الحسن الثاني، سيما أنه كان يجهر بعداوته لمستشاري الملك، خصوصا منهم أحمد رضا اكديرة، وكان يتهمه باستغلال قربه من القصر ليراكم ثروة ضخمة، ولم يكن اكديرة ليرد على الفيلالي الذي كان مؤرخا أيام الملك الراحل محمد الخامس.
«من أين لك هذا» لم يلق آذانا صاغية، رغم أن الملك الراحل كان قد حل البرلمان وأوقف الوزراء في إطار ما كان يعرف بحالة الاستثناء، وهو ما اعتبره الكثيرون إشارة قوية من الملك الحسن الثاني عن غضبه الكبير تجاه الوزراء الفاسدين والبرلمانيين الذين كانوا لا يقومون بمهامهم كما يجب، بل تفرغوا لأغراضهم الشخصية على حساب المواطنين.
هذا التفسير يقول إن الملك الحسن الثاني أوقف كل شيء لأنه كان غير راض عن المسؤولين أمامه، وتكلف شخصيا بتفقد الوزرات والقطاعات الحيوية بالبلاد، ليزاول لوحده مهام جميع وزراء الحكومة. حالة الاستثناء التي أغلق على خلفيتها البرلمان، كان تلتقي مع دعوة عبد الكريم الفيلالي في نقطة وقف نزيف الأموال من خزينة الدولة. فالذين اغتنوا بسرعة، أصبحوا كذلك لأنهم استغلوا مناصبهم، وحالة الاستثناء جمدت جميع أنشطتهم، ليتوقف النزيف ولو بشكل مؤقت.
عبارة من أين لك هذا، التي دعا إليها الفيلالي في سنوات الستينات، عادت بقوة بعد وفاته في 2013، وتحسر الكثيرون لكون هذا الشعار بقي حبيس القاعة التي لفظه الفيلالي تحت قبتها، ولم يفعل إلا في ظروف معينة، سرعان ما تم طي صفحتها، بعد أن راجت أقاويل كثيرة عن عدم مصداقيتها، تماما كما وقع خلال «حملة التطهير» التي قادها ادريس البصري منتصف التسعينيات، وأطاحت برؤوس كثيرة.

تجار يهود بدؤوا «هواية» تهريب الأموال تهربا من الضرائب ليؤسسوا ثروات بالصدفة
بمجرد تأسيس ميناء مدينة الصويرة وتقديم تسهيلات مهمة للتجار اليهود كي يستقروا بها لتعزيز نشاطها التجاري وجعل مينائها أحد أهم المنشآت الاقتصادية في المغرب، قبل 150 سنة من اليوم، حتى بدأ بعض أبناء أعرق العائلات اليهودية في المغرب وأقدمها، باستغلال التسهيلات التي وضعها المخزن أمام الأنشطة التجارية المنطلقة من ميناء الصويرة نحو أوربا وأمريكا.
من هنا بالضبط، بدأت أولى الاتهامات التي وجهت للتجار اليهود، وجعلت علاقتهم بالدولة تتدهور إلى درجة أن أحد موظفي المخزن وكان يدعى الحاج بن محمد، كان يحرض بعض «المخازنية» لكي يلاحقوا الحرفيين اليهود وينتقموا منهم، لأن بعض التجار الآخرين في الصويرة، كانوا يتهربون من دفع الضرائب وتسببوا في إحراج كبير للدولة بعد أن اشتكى منهم عدد من السفراء الأجانب، خصوصا فرنسا، على خلفية صفقة شراء أسلحة تقدم بها تاجر يهودي يدعى «مقنين»، واكتشف الفرنسيون في ما بعد أن هذا التاجر أدلى أمامهم بورقة رسمية مزورة ليقنعهم بأنه يمثل الدولة المغربية في تلك الصفقة، ويتبرأ منه المغرب في ما بعد. هذا التاجر اليهودي، بالإضافة إلى تاجرين ينحدران من عائلة «المالح»، وجهت لهم تهم ثقيلة تتمثل في التهرب من دفع الضرائب للدولة، بالإضافة إلى تهمة أخرى تتمثل في تهريب الأموال إلى الخارج.
في مراسلة رسمية باللغتين الفرنسية والإنجليزية، بين ممثلي القنصليتين الفرنسية، والبريطانية في مدينة طنجة سنة 1830، توجد مراسلة مهمة تسلط الضوء على قصة التجار اليهود وتهمة تهريب الأموال التي لاحقتهم وجعلت أغلبهم غير قادرين على العودة إلى المغرب، جاء ما يلي: «السيد القنصل المحترم، هناك إخبارية سرية وصلت إلينا مؤخرا، تؤكد أن الدولة المغربية ليست راضية تماما عن رعاياها التجار اليهود خصوصا منهم الذين أبرموا صفقات مهمة مع حكومتينا. حسب الإخبارية التي توصلنا بها فإن وزارة الدفاع بحكومة بلادكم، تعرضت لمقلب خطير على يد تاجر يهودي يدعى مايير مقنين، وقد تبرأ من التهمة وقال إن أحد أبناء أخيه يقف وراء الصفقة المشبوهة التي تمت باسمه، خصوصا بعد أن تخلت الدولة المغربية عنه وتبرأت من الصفقة، وأكدت لحكومتنا أن هذا التاجر متهرب من أداء ضرائبه للدولة المغربية وأنه يستغل ثقة أعلى سلطة في البلاد على خلفية عملية قديمة كان قد استفاد فيها من إعفاء ضريبي وتوصية ملكية لتسهيل مهامه التجارية، لكنه استغلها لصالحه الشخصي وأبرم بها صفقة الأسلحة. لدينا معلومات تقول إنه مطلوب للسجن في المغرب لكن المخزن المغربي غير قادر على الوصول إليه. ونطلب من فخامتكم إخطار حكومتكم بهذه التطورات حتى توسع معنا دائرة البحث للوصول إليه في إطار التعاون بين البلدين». لم يتبين أمر صحة هذه الوثيقة من عدمه، خصوصا أنها لا تحمل أي رقم يصنفها في أي إطار، ولا تحمل أيضا أي شعار يمثل إدارة أجنبية في الخارج، باستثناء التوقيع الذي ذيلت به، والذي ينسبها إلى القنصل البريطاني. كما أنها جاءت مصورة عن وثيقة أصلية كتبت بخط اليد.. لكنها على كل حال تقدم وجهة نظر في قصة سبق ذكرها في مصادر مغربية، وتلتقي معها في التفاصيل، وهو ما يقوي مصداقية الوثيقة على الأقل.
هذه الهواية التي بدأت على خلفية التسهيلات الكبيرة التي استفاد منها التجار اليهود المغاربة حتى يطوروا اقتصاد الدولة في فترة من الفترات، كان لها دور كبير في رسم خريطة جديدة للأثرياء المغاربة الذين بدؤوا وقتها في تشكيل النواة الأولى لوجودهم بعد أن كان الغنى بالمعايير العالمية أبعد ما يكون عن المغاربة. لم يكن من السهل على الراغبين في تكوين الثروة أن يضبطوا أنفسهم أمام بريق المال وسحر العلاقات مع الأجانب، لذلك قدموا مصلحتهم الشخصية، وقاموا بتحويل ثرواتهم إلى الخارج المغرب، لخدمة مصالحهم الخاصة بدل ملء خزينة «دار المخزن».

إدريس البصري.. الثري الجديد الذي حارب مهربي الأموال في حملة التطهير!
خلال منتصف التسعينات، كان الحديث في المغرب موحدا حول حملة التطهير الشهيرة التي كان ادريس البصري يقودها في وجه الذين كونوا ثروات بشكل غير مشروع. كان الملك الحسن الثاني غاضبا من حجم الفساد الذي يتخبط فيه كبار الوزراء والمسؤولين المغاربة، وحسب ما راج في الكواليس وقتها، فإن الحسن الثاني لم يكن راضيا أبدا عن أداء المسؤولين الكبار، وأمر بفتح تحقيقات موسعة في ثرواتهم المشبوهة، وهو ما جعل حملة التطهير، تلقى تجاوبا كبيرا في الشارع المغربي.
إلى هنا بدا كل شيء جيدا، لكن أن يتحكم وزير الداخلية الأسبق، ادريس البصري، في العملية ويعتبر الراعي الرسمي لها لتنزيل التعليمات الملكية الصارمة، فهذا كان لوحده مصدر نكتة.. ولو في الكواليس.
لم يتقبل الكثيرون أن يكون ادريس البصري هو الراعي الرسمي لهذه الحملة التطهيرية التي كانت تفتش بدقة في الحسابات البنكية لبعض الأسماء دون غيرها، ليتضح في الأخير أن ادريس البصري استغل حملة التطهير لصالحه، ليصفي بها حساباته السياسية ويبعد الذين كانوا لا يدخلون تحت مظلة الداخلية التي كان يسيطر عليها بشكل مطلق منذ نهاية السبعينات، حتى أنه تحول وبدون منازع إلى أشهر وزير داخلية في تاريخ المغرب!
لم يكن إيقاع حملة التطهير مسايرا إلا لرغبة ادريس البصري، وقد كان هناك تذمر واسع من النهاية التي آل إليها بعض المسؤولين الذين سجنهم ادريس البصري، فيما كان بعض المحسوبين عليه طلقاء، رغم أنهم متورطون أيضا في صفقات مشبوهة وكانت لديهم عقارات بالخارج، لا يتوفرون على أي وثيقة قانونية تفسر الطريقة التي حولوا بها أموال اقتناء تلك العقارات إلى الخارج، وهو دليل دامغ على أنهم كانوا يمارسون تهريب الأموال إلى الخارج لاقتناءئها.
حملة التطهير، التي أريد لها أن تكون قطعا مع الفساد داخل الإدارات والوزارات المغربية، كانت في الحقيقة تصفية لحسابات سياسية، وبدا الأمر واضحا سنة 1996 عندما ازداد ادريس البصري قوة بعد تلك الحملة، ولم ينجح أحد في توجيه أصابع الاتهام له، علما أن المعارضة وقتها كانت تنتقده وتروج إلى أنه «امبراطور» جديد داخل الدولة، والأخطر أنه كان متحكما في المشهد السياسي أيضا، ويفرق الفوز بالصفقات العمومية وصناديق الدولة، بل ونجح في خلق جيل من الأغنياء الجدد فقط لأنهم كانوا موالين له سياسيا.. فكيف يتحكم إذن في الحملة التطهيرية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى