شوف تشوف

الرأي

جدلية العنف واللاعنف من منظور قرآني (6)

بقلم: خالص جلبي
إن القرآن ينطلق من مبدأ (لا إكراه في الدين) دخولا وخروجا، وهذا يعني أنه لا يوجد قتل للمرتد كما نص عليه فقهاء العصر المملوكي. ويمكن للإنسان أن يخرج من الدين ثلاث مرات، بدون أن تخرج روحه مرة واحدة، كما جاء في سورة النساء: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا، لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا»، ولكن لم يقل اخرجوا أرواحهم بحد السيف، وهو ما فات على أورهان المبرمج على عداء الإسلام إيديولوجيا، وعلى عدم الاستفادة من القرآن. ولا يعرف القرآن، ولم يطلع على القرآن، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.
ومفهوم قتل المرتد الذي يشكل فضيحة أخلاقية سوف نتناوله في ما بعد في مقالة خاصة موسعة، والذي كان سلاحا أمويا وسلطويا عبر التاريخ لاستئصال أي نسمة تفكير وخلية عصبية تشع بالخير الأخلاقي. وهي مصيبة اتفقت عليها كل المدارس الإسلامية القديمة ووافقهم فيها بكل أسف الغزالي الراحل، حين وافق على قتل (فرج فودة)، ولكن أن تتم ليس بيد الشباب المتحمس فقد كان عملهم (افتئاتا على الدولة) على حد تعبيره، فأي دولة وأي شباب؟
ومشكلة الحداثيين والتحديثيين وأضرابهم أنهم لا يعرفون الثقافة الإسلامية ويحاربونها عن جهل وسطحية، ومعهم الحق في بعض الزوايا، ولكن مثلهم مثل من يريد استئصال ثألول من الأنف بالمنشار أو المقص بدون تخدير.
وهذا ينطبق على الأصوليين الذين لم يستوعبوا صدمة المعاصرة، فهم يستقبلون رياح العولمة الباردة بدون دثار وحطب ونار.
مر علينا حتى الآن نموذجان من التفكير، الأول (أورهان) الذي رأى في القرآن مصدر كل عنف وقتل، والنموذج الثاني (م. ص) من رأى أن اللاعنف لا ينفع في المواجهات، وأن ابن آدم المهدد بالقتل لو انتبه إلى أخيه لقتله. وهو خطأ فادح في الفهم، وهي وصفة لا قرآنية جدا، فحين يتصرف الاثنان بهذه الطريقة فلن يحدث فرق كبير، فمن سبق كان القاتل والمسبوق كان المقتول. وهذا يختلف جدا عن الرجل الذي لم يدافع عن نفسه، فمن دافع عن نفسه فقتل كان مجرما مثل القاتل الذي هاجم، فكلاهما نفسيا قاتل بفرق السرعة والسبق والفنية، وكلاهما من العينة الإجرامية نفسها، وأهمية عدم الدفاع عن النفس أنها تحيل القاتل إلى مجرم، وأما حركة الدفاع والهجوم فتقلب القاتل إلى بطل منتصر، فهاتان آليتان نفسيتان مختلفتان جدا. ومنه جاء تعبير القرآن في لفظين في الآيات الست من سورة المائدة (الخاسرين) و(النادمين)، «فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين». أي إن القاتل لم يكن بطلا، بل مهزوما خاسئا مدحورا، ولم يتحرر من ضغط شعور الجريمة حتى تاب، وهو يعني أن من مات لم يمت بل نشر مذهبه، حين اعتنقه القاتل بعد غياب صاحبه، وهو معنى الخلود في الشهادة. وهذا قد يحدث، وكلنا سنموت يوما، والعبرة في ثبات وديمومة الأفكار. وإلا كان الكون باطلا بني عبثا، وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون.
ونأتي الآن إلى النموذج الثالث من التفكير السائد في الساحة، والذي جاءني من الأخ (أحمد الخطيب) من فلسطين، الذي يقف في الزاوية المقابلة للتفكيرين السابقين، فهو يرى أن «العدو في الإسلام هو الكفر، والأعداء هم الكفار، فالكفر هو الأمارة الدالة على وجود الأعداء، أي هو السبب الشرعي.  فنحن نعادي الناس بسبب كفرهم، والأصل في المعاداة بيننا وبين كل البشر هو وجود الكفر، فإذا وجد الكفر وجد العداء، وإذا عدم الكفر عدم العداء، لذلك كان الأصل في المعاداة هو وجود الكفر حقيقة وكان الكفر سببا في العداء». ليخلص بعدها فيقيس على هذا موالاة الكفار الأعداء:
«إذ لا يجوز لمسلم أن ينصر الكافر أو يعاونه أو يشاوره أو يحبه أو ينصحه أو يصادقه أو يركن إليه أو يخضع له أو يستسلم لسلطانه برضاه، فإن فعل ذلك كان مواليا له وينطبق عليه حكم الموالاة، إلا في حالة التقية لقوله تعالى».
وبعد هذه المقدمة والشرح يصل إلى وصفة الخلاص أن العلاج الشافي:
«لمشاكل الأمة ومصائبها هو سهل وبسيط، ويتمثل في منع موالاة الحكام للكفار. ومنع هذه المولاة لا يتحقق فعليا إلا بإبعاد هؤلاء الحكام عن السلطة، والإطاحة بهم، وتنصيب خليفة واحد للمسلمين مكانهم يوالي الله ورسوله وجماعة المسلمين»
وهذه الأحجار الثلاثة التي بناها الرجل غير مستقرة، إذا سحب منها الحجر الأول سقط البناء برمته وتهاوى فكان لسقوطه دوي عظيم.
فالقرآن لا يربط بين (الكفر) و(العداوة)، بل بين العداوة والظلم، وفي السورة التي يذكر فيها إبراهيم عليه السلام التي يخاطب فيها الكافرين: «كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده»، ينتقل بعدها مباشرة ليقول: «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة»؛ فيكسر بكلمة واحدة كل مقولة الأخ الخطيب من فلسطين، فحجته داحضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى