
يونس جنوحي
في العام المقبل، 2026، والذي لم تعد تفصلنا عنه سوى أيام قلائل، سوف يحتفل الأمريكيون بـ250 سنة على استقلال بلادهم، يوم الرابع من شهر يوليوز المقبل.
وإلى اليوم، لا يزال أغلب سياسيي أمريكا يرددون حقيقة تاريخية، مفادها أن أول دولة اعترفت باستقلال الولايات المتحدة هي المغرب.
وهؤلاء لا يتحدثون من منطق ترديد ما تعلموه في المدارس مثلا، بل ينطلقون من حقيقة اطلاعهم على الأرشيف الرسمي للبلاد. أسهل ما قد يُقدم عليه أي مواطن أمريكي اليوم أن يلج إلى الأرشيف الرسمي. نصف دقيقة بالضبط، هي ما يحتاجه أي ضيف على المكتبة الوطنية الأمريكية، لكي يطلع على أقدم وثيقة في تاريخ البلاد، والتي كُتبت بالخط المغربي، وتبدأ بعبارة: “الحمد لله وحده”، وتنتهي بالخاتم السلطاني العلوي، وفيها اعتراف بالولايات المتحدة الأمريكية واستقلالها.
ومن عجائب التاريخ أن العلاقات المغربية الأمريكية بدأت رسميا في العشرين من شهر دجنبر 1777، بالمعنى الكامل لـ”العلاقات الدبلوماسية”.. وها هو هذا الشهر يشهد وصول السفير الأمريكي الجديد إلى الرباط.
السفير الجزائري في واشنطن قال قبل أيام إن أول بلاد اعترفت باستقلال الولايات المتحدة هي الجزائر. والحمد لله أن الصحافي الأمريكي الذي كان حاضرا هناك، تدخل وصحح المعلومة.. إذا كان السفير الجزائري يهوى ركوب الأمواج، فإن الصحافي الأمريكي لعب دور “البحر الهادئ”.. وهوى السفير -كان الله في العون- على قفاه!
لا بد أولا من توضيح حقيقة تاريخية مهمة، وهي أن المغرب فتح اتصالا مع أمريكا لتجنب وقوع حرب كارثية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. الأمريكيون أحسوا مباشرة بعد استقلالهم أن مصالحهم التجارية في خطر، بسبب أنشطة الجهاد البحري التي كانت تنطلق من طرابلس، وتفرض إتاوات على السفن العابرة.
لقد كان أهالي طرابلس القاطنون في الساحل، يعتقدون أنهم يستطيعون توقيف بارجة أمريكية تقطع المحيط الأطلسي في أقل من أربعة أشهر.. ولم يكونوا يعلمون أن البارجة مزودة بقذائف ومدافع كفيلة بجعل جزء محترم من التراب الليبي يغرق تحت البحر المتوسط.
والحمد لله أن المغرب كان يحكمه سلطان اسمه المولى محمد بن عبد الله، أو السلطان محمد الثالث. وهو الذي بادر إلى مراسلة قراصنة طرابلس، وأخبرهم أنه في صفهم ويدعمهم، لكنه في نفس الوقت حذرهم من عواقب التسرع والإقدام على خطوات غير محسوبة.
ولأن الأمريكيين كانوا يُدركون قوة تأثير هذا السلطان العلوي، الذي منع أي توغل عثماني في المغرب، فقد فضلوا أن يبعثوا إليه رسالة يشرحون فيها معاناتهم في منطقة البحر المتوسط..
ونزع السلطان فتيل توتر وشيك، وحُسب له تاريخيا أنه أول سلطان اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد المولى محمد الثالث، جاءت فترة حكم ابنه المولى سليمان، وهو الذي فاوض الأمريكيين ووقع معهم أول اتفاق سلام، ومنحهم مقرا قنصليا في طنجة، أصبح أول بناية رسمية أمريكية في العالم، خارج تراب الولايات المتحدة. وهكذا فإن أول سفارة أمريكية في العالم، فُتحت في طنجة سنة 1821، وحملت اسم “المفوضية الأمريكية”، وعُين بها قناصلة وموظفون ومبعوثون رسميون إلى المغرب.
لا يمكن لأي بلد آخر في العالم أن يدعي أسبقية الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.. لأن السياق الدولي وقتها كان واضحا، والوثائق الرسمية واضحة أيضا.
في الوقت الذي كان فيه المولى محمد الثالث يستقبل الوفد الأمريكي، ويحمله رسالة رسمية إلى واشنطن، حتى لا تندلع حرب في البحر المتوسط، كان الجزائريون يجمعون شباك الصيد، وينتظرون الأخبار القادمة من طرابلس، في اتجاه طنجة، ولا يقوون حتى على رفع الدعاء إلى الله لكي يغادر الأتراك منطقتهم.. فما بالك بأن يبعثوا رسالة إلى الولايات المتحدة!
لم يكن هناك حكم فعلي في الجزائر، خلال تلك المرحلة، وكانت التعليمات تأتي إلى “الباشا” من “أنقرة” و”إسطنبول”. والطريقة الوحيدة لكي يراسل الجزائريون أمريكا في ذلك الوقت، أن يضعوا رسالة في قارورة زجاجية ويرموا بها في البحر.. وأن تمر أولا عبر طنجة. ولو أنهم أرسلوها فعلا سنة 1776.. ربما، قد تصل هذه الأيام!





