حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

نساء صغيرات

في عالمٍ يرفع شعار المساواة بيدٍ، ويخبئ بيده الأخرى دفتر أعذار جاهزة لبعض النساء، يبدو أنّ مفهوم الضحية لم يعد توصيفًا لحالة بقدر ما أصبح بطاقة عضوية في نادٍ اجتماعي يمنح امتيازات بلا حدود. فبمجرد أن يتعلق الأمر بالطلاق، يتبخر شعار المسؤولية المشتركة وتنتصب تماثيل جاهزة لامرأة «مكسورة الجناح»، حتى لو كانت قد قصّت الريش بنفسها ثم أشعلت فيه النار. المجتمع هنا لا يرى إلا دمعة ولا يسمع إلا تنهيدة، ولا يريد أن يقتنع بأنّ الخطأ لا يحمل كروموسومًا أنثويًّا أو ذكوريًّا، بل يحمل اسمًا واحدًا: الإنسان.

ولأنّه يحب القصص التي تُروى بنبرة مأساوية، يصرّ المجتمع على تقديم المرأة دائمًا في دور البطلة التراجيدية التي كانت تعجن الخبز بيد وتُطعم الحب باليد الأخرى قبل أن يستيقظ الزوج الشرير ويقرر تدمير كل شيء. هذه الرواية الاستهلاكية تُباع جيدًا، وتُلهب مشاعر الجمهور، وهي أسهل من مواجهة حقيقة مزعجة: أنّ بعض النساء يخنّ ويكذبن، ويهملن ويسئن، تمامًا كما يفعل بعض الرجال. لكنّ الاعتراف بهذه الحقيقة يهدد سردية الراحة، لذلك يقرر المجتمع بكل بساطة طي الصفحة، وإعادة طباعة السيناريو القديم نفسه مع تغيير طفيف في التواريخ.

إن هذا النمط من التفكير يتناقض تمامًا مع مبادئ النسوية التي تدّعي الدفاع عن المرأة بوصفها كائنًا كامل الأهلية، مسؤولًا عن اختياراته ونتائجها. لكنّ بعض الأصوات النسوية المتشددة، دون أن تشعر، تعيد المرأة إلى صور نمطية خشبية: ضعيفة، هشة، منكسرة، تحتاج إلى وصاية عاطفية وقانونية كي لا تقع من على الرصيف. فهل هذا هو التحرير؟ أم إعادة تغليف للخطاب الأبوي بطريقة جديدة وأكثر أناقة؟ الدفاع الأعمى لا يصنع مساواة، بل يصنع «تفضيلًا إيجابيًا» يسيء للمرأة قبل الرجل؛ لأنه يحرمها من أهم ما يجعلها إنسانًا كاملًا: المساءلة.

المجتمع، من جهته، يبدو شديد الكرم في توزيع الأعذار حين تكون المخطئة امرأة. يكفي أن تُذكّرهم بأنها «أم»، لتبدأ موجة التبريرات تنهال كالمطر الموسمي: «ماشي لخاطرها مسكينة»، «هرمونتها مخربقين». هنا يصبح الحمل والولادة صكّ غفران أبدي لكل الهفوات. تسأل نفسك بدهشة: هل تؤدي الوظيفة البيولوجية إلى إعفاء دائم من النقد؟ وهل الأمومة ترخيص رسمي لممارسة الأخطاء دون محاسبة؟ أم أنّ المجتمع يكره فكرة أن المرأة يمكن أن تكون قوية، مسؤولة وقادرة على تحمل عواقب قراراتها مثل أي إنسان آخر؟

لا أحد ينكر أنّ الزواج منظومة معقدة، وأنّ النساء، على مرّ التاريخ، يحملن ظلمًا كبيرًا. لكنّ تحويل هذا التاريخ إلى شيك مفتوح للضحية الدائمة أمر يسيء للعدالة قبل أن يسيء للنساء. فحين تُرتكب الأخطاء، يجب أن تُسمّى بأسمائها، دون هوادة ودون مجاملة. المساواة مسؤولية مشتركة، وجرأة للاعتراف بأنّ المرأة ليست ملاكًا والرجل ليس شيطانًا، والعكس صحيح.

الطريف أنّ المجتمع نفسه، الذي يعامل المرأة كقاصر عاطفيًا، هو ذاته الذي يصرخ بشراسة دفاعًا عن «حقوق النساء». لكنه، دون أن يشعر، يزرع في ذهن المرأة رسالة خطيرة: «لسنا مستعدين لأن نراكِ قوية لدرجة تُحاسبين فيها… فدعينا نحميكِ من نفسك». هذا النوع من الحماية ليس إلا قفصًا مطليًا بالذهب، يمنح صاحبه امتياز الشفقة وليس امتياز الاحترام. وما أكثر النساء اللواتي يرفضن هذا التأطير، ويمتلكن الشجاعة للاعتراف بأنهنّ مسؤولات عن فشل زواجهن كما يمكن للرجل أن يكون مسؤولًا.

ومن أطرف النفاقات الاجتماعية أنّ الخطأ نفسه حين يرتكبه رجل يصبح عنوانًا رئيسيًا على صفحات الجرائد، وحين ترتكبه امرأة يتحول إلى «سوء تقدير» أو «ظرف نفسي». بل إنّ المجتمع يعاني صعوبة حقيقية في لفظ جملة بسيطة حين تكون المخطئة امرأة: «أخطأت». يفضل استخدام التعابير الناعمة: «لم تُحسن الاختيار»، «انزلقت دون قصد». تخيّل رجلًا يحصل على هذا المدّ الشعري من التعاطف! سيُطلب فورًا تحويله إلى لجنة تقويم السلوك.

المشكلة في النهاية ليست في النساء، بل في المجتمع الذي يريد أن يصنع منهنّ نموذجًا واحدًا صالحًا للاستعمال الإعلامي والعاطفي والسياسي. نموذج المرأة الضحية أسهل في الترويج، أسرع في الانتشار وأكثر قدرة على استدرار التعاطف، لكنه في العمق إهانة مموهة. لأنّ الضحية لا تُحاسب، وغير المسؤول لا يُحترم، والإنسان الذي لا يُسمح له بالخطأ ولا بالمحاسبة يفقد أهم مقومات نضجه.

إنّ الاعتراف بأن بعض النساء يرتكبن أخطاء فادحة، وأنهنّ يمكن أن يكنّ ظالمات وقاسيات ومؤذيات، لا يقلل من شأن المرأة، بل يرفعها إلى مستوى الإنسان الكامل. أما الإصرار على معاملتها ككائن هش، معفى من العواقب، فهو شكل جديد من الوصاية يتخفى خلف خطاب «الدفاع».

ربما آن الأوان للانتقال من فكرة «المرأة الضحية» إلى «المرأة الإنسان». إنسانةٌ تخطئ وتتصرف بتهور أحيانًا، وتفشل أحيانًا، لكنها قادرة على الاعتذار، وتحمل المسؤولية وإعادة البناء. عندها فقط يصبح الحديث عن المساواة منطقيًا، محترمًا وغير انتقائي. وعندها فقط نكفّ عن استخدام الطلاق كمسرحية شعبية يتبادل فيها الجمهور التصفيق والدموع دون أن يفكر لحظة في أن البطولة الحقيقية ليست في أن ندعم الضحية المزعومة، بل في أن نكف كمجتمع عن ممارسة رياضة تبياع العجل للحمقى والمجانين.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى