شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

جرائم الحضارة الغربية

بقلم: خالص جلبي

 

ما يحدث في غزة هذه الأيام هو من إبداعات الحضارة الغربية المشؤومة.

والحديث كثير عن عبقرية الحضارة الغربية، ولكن هل هي كذلك، أم خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، مثل كل حضارات التاريخ؟

من المهم أن نعرف ثلاثة أو أربعة مصطلحات ضرورية لتأسيس المنهجية، المجتمع ـ الحضارة ـ الدولة ـ الثقافة.

فأما المجتمع فهو الحوض الإنساني الذي يضم أفرادا من نفس الثقافة بنسيج من العلاقات، فلا يسمى مجموعة من البشر في مطار عالمي أنهم مجتمع، مهما بلغ عددهم، ومنه فقد أطلق الرب على مشروع الأمة وخميرة المستقبل إبراهيم وهو فرد أنه كان أمة!

وأما الحضارة فهي نسيج بشري أوسع وأرحب من الدولة والمجتمع، وهي الخلاصة التي وصل إليها توينبي، حين رجع القهقرى لفهم كيف ولد المجتمع البريطاني؟ فلا يمكنه من فهم بريطانيا لوحدها خارج إطار الحضارة الغربية.

 وحين تابع أبحاثه وعلى مدى نصف قرن، وصل إلى خلاصة مصيرية عن  بزوغ 600 مجتمع بدائي، انبثقت منها 28 حضارة رفع رقمها لاحقا إلى 32 حضارة، وكان منها الحضارة الإسلامية، التي قال عنها الكاتب (ريشارد باورز) في مجلة «التايم»، إن أعظم فكرة جاءت في الألفية الثانية كانت تلك التي أتى بها ابن الهيثم العراقي، في ترسيخ المنهج التجريبي العلمي، وهو من اكتشف طرفا من أسرار الضوء وقوانينه.

أما الدولة فهي ذلك الصندوق الحديدي الذي تورط فيه الجنس البشري هربا من فوضى الغابة، كما ذكر ذلك برتراند راسل في كتابه «السلطان The Power»، وبذلك احتجز في زوايا القمع والاضطهاد وما زال، وهو محتار في صياغة النموذج المحرر لإرادة الإنسانية، أو إنسانيته بكلمة أدق، ويذكر برتراند راسل نماذج لا نهائية من صياغات الدول، التي تخللتها الحروب الأهلية والعالمية وألوان الاستبداد والدعوة إلى نظام اللادولة.

أما الثقافة فقد اختار لها بن نبي الجزائري أنها إفرازات السلوك اللاوعي، وكيف يتصرف الإنسان حيال المعضلات بدون كتاب وكتيب، ويضرب لذلك مثل الطبيب الإفريقي والألماني، بتوحد العلم واختلاف الثقافة.

وحين نأتي على الحضارة تطالعنا أول شيء أطروحة فوكوياما عن نهاية النموذج، وأن التاريخ أفرغ جعبته، وأن الحضارة الغربية هي نهاية التاريخ. وأنه أنتج نموذجا لا مثيل له ولا لاحق بعده، وهي أكبر من خرافات جداتنا العجائز، وهن يروين قصص الجن في ليالي الشتاء الباردة بجنب المدفأة.

وهناك بيننا من يمنح الحضارة الغربية سمة الطفرة التي لا نظير لها في تاريخ الإنسان، وأنه لا وجود لشيء اسمه الحضارة الإسلامية، ونحن نعرف من الطب أن بعض الطفرات تقود إلى السرطانات في البيولوجيا، كما أن طفرات الأنفلونزا والإيدز الخبيث جعلته بدون علاج منذ ثلاثين عاما.

المسيح الدجال وأنا شخصيا استفدت من المؤرخ توينبي وديورانت وشبنغلر وفيكو وإيمانويل تود جدا، حين أخذوا بيدي لفهم الظاهرة الحضارية ضمن القانون العام، وخاصة توينبي الذي فهم التاريخ ضمن دورة لا تنتهي من صعود حضارات وأفول أخرى، وحين يستعرض قانون البداية يذهب إلى قانون التحدي والاستجابة كآلية للبزوغ بأشكال منوعة، أما الفناء والاندثار فيطوقهما قانون موحد بشكل موحد من الانتحار الداخلي.

فإذا أخذنا هذا القانون على محمل الجد، فهمنا لماذا أرّخ الفيلسوف والمؤرخ الألماني شبنغلر لظاهرة أفول الحضارة الغربية بظاهرة الاستعمار، كمرض عضال من الاستكبار، التي سوف تستغرق فيها رحلة الهبوط القرون القادمة، ويجب أن لا يروعنا الرقم؛ فروما السفاحة والإمبراطورية الممتدة الجشعة بأشد من الجرذ للجبنة المعفنة، جاءها الأجل بعد أربعة قرون من مذبحة قرطاجنة التي قتلوا فيها 450 ألف نسمة (كما لو قتل عشرة ملايين اليوم من أهل نيويورك)، وساقوا بقية أهلها 50 ألفا للعبودية، في بقايا من حرائق يراها كل من يزور قرطاج اليوم في تونس، مذكرين بقانون هرقليطس عن الصيروة، وقانون الحرب أنها أم التاريخ وأبوها.

وهذا الكلام يفيدنا أن الحضارة دورة لا تقف عند مكان، وتودع كل مكان، فاليونان التي ضربها الإفلاس هذه الأيام، وارتعش اليورو فرقا من الانهيار، كانت يوما أرض مفكرين أحرار.

وفي بغداد جاءها يوم كان المعتزلة يتناقشون حول الجزء الذي لا يتجزأ وبداية العالم ومعنى الحياة والموت، والنجم والشجر يسجدان، ويطبق إبراهيم النظام من المعتزلة تجارب على الحيوانات، وينشئ آخرون برجا فلكيا، وبيمارستانات، حسب تلوث أهواء، ويستحم في بغداد ملايين في آلاف من الحمامات، التي لم تعرفها أوروبا إلا بعد ألف سنة، وفيها عدد من الأطباء أكثر مما هو اليوم في بغداد.

كما جاء العصر الكلاسيكي والمثالي والمجنون في الحضارة الغربية من برونو وغاليليو وهوبز وسيبنوزا وديكارت في جو من الحروب المجنونة في حرب الثلاثين عاما، وحرب المائة عام، وحرب الوراثة، والأرمادا ونهاب الأمريكيتين، وحروب القارة العجوز المنتفخة بالعنصرية والاستعمار والجشع ونهب المستعمرات.

ويجب أن نضيف هنا في الطنبور نغما؛ فنقول إن أعظم الجرائم التاريخية نفذتها الحضارة الغربية، فساعة أبادت الهنود الحمر بالبنادق مثل الحمام البري، وساعة أبادت ثمانين مليونا من القارة بالجدري المنقول الموزع بالبطانيات، على أهل العالم الجديد، الذين لا يعرفون المرض القديم، كما جاء في كتاب أستاذ السوربون تزفيتان تودوروف، «مسألة الآخر»، وساعة تشن الحروب الصليبية في أطول وأعنف حرب في التاريخ البشري 171 سنة، تمتد حتى أيام بوش على العراق والحملة الصليبية الثامنة من غلمان بني صهيون يمدهم الغرب بخيل ورجال وسلاح نووي، ولا نعرف أين المصير، وهل سينتهي العالم من هنا، فيصدق عليها قصة المسيح الدجال، وينتهي العالم أيضا كما في نبوءات نوسترا داموس.

وتارة تطبق الشيوعية فيهلك من ورائها 200 مليون نسمة، كما ذكر ذلك ستيفان كورتوا في كتابه الأسود، أو تفرخ النازية والفاشية بجنب الشيوعية، كما انتقلت إلينا هذه الأمراض الخبيثة على شكل العبثية والبعثية، مثل الطاعون والقراد وداء البغال.   

وهكذا فلائحة جرائم الغرب ـ عفوا الحضارة الغربية ـ أكبر من كتاب وإحصاء، وهو وجه أسود مربادا كالكوز مجخيا، فيجب النظر في التاريخ بعين النصفة والنقد، وإلا ما كنا شهداء على العالم، ولا نعرف معنى الشهادة، التي تفيد الحضور الواعي، مثل أي شاهد مؤتمن في محكمة مصيرية.   

 

نافذة:

أعظم الجرائم التاريخية نفذتها الحضارة الغربية فساعة أبادت الهنود الحمر بالبنادق مثل الحمام البري وساعة أبادت ثمانين مليونا من القارة بالجدري المنقول الموزع بالبطانيات على أهل العالم الجديد الذين لا يعرفون المرض القديم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى