شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

رحلات شهيرة…ابن جبير.. رحلاتُ أندلسي

حظيت رحلات ابن جبير بأهمية قصوى، بالنسبة للمؤرخين خصوصا والدارسين عموما، فقد عُدت شهادة معاصرة لفترة تاريخية بالغة الأهمية، شهدت  تقلبات سياسية عدة وأحداث فاصلة في الكثير من البلدان العربية والإسلامية. محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي ولد في مدينة بلنسية سنة 540 هجرية، عالم من علماء الدين البارزين في الأندلس ومن أدبائها المشهورين. تنقل بين العديد من المدن الأندلسية ليستقر به الأمر في النهاية في غرناطة حيث لمع شأنه وذاع صيته. كانت كل رحلات ابن جبير لها دافع معين ففي رحلته الأولى، صحبة صديقه الطبيب أحمد بن حسان الغرناطي، كانت بقصد أداء فريضة الحج. أما رحلته الثانية فقد دفعه إليها فرحه باسترداد المسلمين لبيت المقدس من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي. أما رحلته الأخيرة فكانت بسبب وفاة زوجته، فكانت الرحلة الثالثة ترويحا لنفسه عما ألم به من حزن على فراقها.

كتب ابن جبير رحلاته على شكل مذكرات يومية بحسب الشهور الهجرية والميلادية، في كتاب عُرف باسم “تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار”. وتتجلى أهمية هذه الرحلات في وصفها للمجتمعات الإسلامية وصفا دقيقا وموضوعيا على اختلافها، ومستوى معيشتها، وطرق تفكيرها وحظها من الرقي والانحطاط. كانت نظرة ابن جبير إلى واقع هذه المجتمعات وعقلياتها المختلفة تتسم أحيانا بالكثير من القسوة والانتقاد الشديد للمظاهر السلبية التي عاينها. لذلك، كان لهذه الرحلة اعتبار من قبل الدارسين للتاريخ الإسلامي حيث عُدت وثيقة تاريخية ذات أهمية كبيرة وخاصة تفتقدها معظم الكتب التي تناولت هذه الحقبة التاريخية.

                   

      الرحالة ابن جبير في بغداد

“… هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها. وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه، قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعْيُن النوائب إليها، كالطلل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حُسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز النظر، إلا دجلتها (يقصد نهر دجلة)، التي هي بين شرقيها وغربيها منها، كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ، هو من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن الهوى إلا أن يعصم منها مخوفة.

وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء، يزدرون الغرباء ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنبياء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده، أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يَسْتكرمون في معمور البسيطة مَثْوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم…”

يضيف كذلك في وصف مدينة بغداد: “هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي، ودجلة بينهما. فأما الجانب الغربي، فقد عمه الخراب، واستولى عليه، وكان المعمور أولا. وعمارة الجانب الشرقي مُحْدَثة، لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة… فأكبرها “القُرَية”، وهي التي نزلنا فيها بِربَضٍ منها يعرف المربعة، على شط دجلة بمقربة من الجسر… ثم “الكَرْخ” وهي مدينة مُسورة. ثم محلة “باب البصرة”، وهي أيضا مدينة، وبها جامع المنصور رحمه الله، وهو جامع كبير عتيق البنيان… ثم “الشارع” وهي ايضا مدينة. فهذه الأربع أكبر المحلات. وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمَةٌ يتناولون طبخ الأدوية والأغذية. وهو قصر كبير، فيه المقاصير، والبيوت، وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليها من دجلة”.

                       

   في وصف دار الخلافة

… وأما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة… ودور الخلافة مع آخرها، وهي تقع في نحو الربع أو يزيد، لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلين اعتقالا جميلا، لا يخرجون ولا يظهرون، ولهم المرتبات القائمة بهم، وللخليفة من تلك الديار جزء كبير، قد اتخذ فيها المناظر المُشْرفة، والقصور الرائقة… وليس له اليوم وزير، إنما له خديم يُعرف بنائب الوزارة… يُعرف بالصاحب مجد الدين أستاذ الدار… أبصرنا هذا الخليفة المذكور… بالجانب الغربي، أمام منظرته به، وقد انحدر عنها، صاعدا في الزورق إلى قصره بأعلى الجانب الشرقي على الشط، وهو في فتاء من سنه، أشقر اللحية صغيرها، كما اجتمع بها وجهه، حسن الشكل، جميل المنظر، أبيض اللون، معتدل القامة… سنه نحو الخمس والعشرين سنة، لابسا ثوبا أبيض شبه القباء برسم ذهب فيه، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة، مطوقة بوَبَر أسود من الأوبار الغالية القيمة، المتخذة للباس… متعمدا بذلك زي الأتراك، تعمية لشأنه، لكن الشمس لا تخفى وإن سُترت. وذلك عشية يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين. وأبصرناه أيضا عشي يوم الأحد بعده، متطلعا من منظرته المذكورة بالشط الغربي، وكنا نسكن بمقربة منها”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى