
تميّزت الرحلات المغربية باهتمامها البالغ بالرحلات الحجازية التي تستهدف القيام بفريضة الحج إلى الديار المقدسة. هذه الرحلات المهمّة، على مدار قرون، أثمرت العديد من المؤلفات التي ألقت الضوء على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية للكثير من البلدان والأقطار خلال مسارها وعبورها الطويل باتّجاه مقصدها. هذه المؤلفات والكتب قد أضحت تقليدا لدى كبار العلماء ورجال الفكر والأدب المغاربة، ما جعل المكتبة المغربية تزخر بالعديد من العناوين والمصنفات.
الرحلة العياشية من أشهر الرحلات الحجازية المغربية وقد عُرفت في مختصرها باسم “لقط الفوائد من ماء الموائد” هي للرحالة والفقيه المغربي أبو سالم عبد الله بن محمد بن ابي بكر العياشي (1627-1979) أحد أبرز أعلام المغرب والمشرق خلال القرن الحادي عشر الهجري زار الديار المقدسة مرّات عديدة وأمضى فيها مدة ليست بيسيرة درّس بالمدينة المنورة… تعود أصوله إلى قبيلة آيت عياش بجبل العياشي، كان والده من الملازمين للزاوية الدلائية وقد أسس زاوية بمنطقة العياشي وفيها تلقّى عبد الله بن محمد العياشي تعليمه الأوّل قبل الانتقال إلى القرويين بفاس.
الرحالة العياشي.. في بيت المقدس
نالت رحلة عبد الله بن محمد العياشي أهمية كبيرة بفضل ما تضمنته من معطيات تاريخية وجغرافية وأدبية واجتماعية وإنسانية، حرص فيها على وصفها والوقوف على تفاصيلها ما جعلها من المصادر التاريخية المهمة والمفيدة.
أقام الرحالة العياشي في القدس مدّة ونزل في زاوية المغاربة ما مكّنه من وصف الحرم المقدسي والقيام بقياسات لقبة الصخرة وزيارة معالمها ولقاء أعلامها من علماء وقضاة والتعرّف على الحياة العلمية فيها، وخاصة المغاربة منهم أمثال الشيخ عمر بن محمد العلمي…
يصف العياشي في رحلته طريقه إلى القدس الشريف: “… وفي اليوم الرابع ارتحلنا من الرملة صبيحة الأربعاء عند طلوع الفجر قاصدين إلى القدس الشريف، وطلعنا شعابا وعرة فوجدنا بها قوما من أهل تلك الجبال يأخذون الغفر (أي أجرا مقابل المرور) من كلّ من مرّ من تلك الطريق، وكانت على رؤوس أصحابنا مظلة من الدوم أو من جريد النخيل كنّا نتقي بها من حرّ الشمس، فلما رآنا قوم من أهل تلك الجبال صاحوا بنا من أعلى الجبل: يا للعار والشتم. فقلنا للمكاري (أي المرشد) الذي كان معنا: ماذا يقولون؟ فوجم أن يخبرنا، فلمّا ألححنا عليه قال لنا: إنّهم لما رأوا ما ظللتم به على رؤوسكم ظنّوا أنّكم نصارى فجعلوا يسبّونكم، فإنّ هذا إنما يفعله النصارى في هذه البلاد، فأزلناها عن رؤوسنا ولم نعد إليها من ذلك اليوم، والإنسان يحمي عرضه ودينه.
ولم نزل يومنا سائرين في صعود وهبوط في أرض وعرة، وعلى يميننا ويسارنا قرى ذات كروم، إلى أن وصلنا إلى قرية هي أدنى القرى إلى المدينة بها عين ماء يجري، فنزلنا بها وتوضأنا وصلينا الظهر، وسرنا ودخلنا مدينة القدس وقت العصر، وصلينا العصر بقبة الصخرة، وأنزلنا حوائجنا أوّلا بزاوية المغاربة حتّى لقيت الشيخ محمد الصيداوي نقيب رواق الشيخ منصور الكائن تحت صحن الصخرة المقدسة، وقد كتب إليه الشيخ عبد القادر كتابا يوصيه بنا، فأعطانا بيتا بإزاء الرواق نقلنا إليه حوائجنا، وكان داخل المسجد، فاغتبطنا به لتمكننا من الجلوس في المسجد والصلاة فيه في أيّ وقت أردنا، وهذا المسجد المقدس آية من آيات الله في فخامة البناء وسعة المقدار، فيه أشجار كثيرة من التين والزيتون عظيمة، تحت كل شجرة مصطبة مبنية بالحجر المنحوت على قدر ما تظله أغصان الشجرة، فيه شكل محراب يجلس الناس تحتها للصلاة والقراءة، ويأوي إليها الفقراء المتجرّدون…”.
العلم في خدمة الرحلة
غادر عبد الله بن محمد العياشي مدينة القدس متّجها إلى مقصده الأساسي حج بيت الله الحرام، مبيّنا الوسيلة المتبعة من لدن الرحالة في توظيف علاقاتهم العلمية والدينية في تسهيل مسار رحلتهم:
“… وخرجنا من القدس الشريف ضحى يوم الأربعاء الثالث والعشرين، وما كنّا عزمنا في ذلك اليوم على الخروج في ذلك اليوم إلى أن بعث إلينا القاضي النفاتي المتقدم ذكره، وقال: إنّي وجدت رفقة مأمونة وهي تيسير لنا، فاعزموا على المشي، فودعنا الشيخ عمر، وخرج معنا أصحابنا إلى خارج المدينة، وودعنا القاضي ودفع كراء الدواب التي ركبناها إلى الخليل من عنده، وكتب لنا كتابا إلى نائبه في مدينة الخليل عليه السلام يوصيه بنا، فسرنا في حفظ الله تعالى، ومررنا بالجوابي التي يأتي منها الماء إلى المسجد الأقصى، وهي جوابي عظيمة في غاية السعة لم أر أوسع منها، وهي ثلاثة متوالية يجتمع فيها الماء من عين هناك حتى إذا امتلأت ذهب في قنوات محكمات تحت الأرض إلى أن يدخل المسجد، ولم نجد فيها في هذه السنة إلا القليل من الماء لقلة الأمطار، فغارت العيون، ثم مررنا ببيت لحم وزرناه من بعيد، ولم نزل نسير يومنا في ارتقاء وانخفاض بين غياض ذات أشجار مختلفة من شجر البادية، وعلى يميننا ويسارنا قرى إلى أن دخلنا مدينة الخليل قرب العصر، وأنزلنا قاضيها نائب قاضي القدس ببيت في جوار المسجد، وقام بالواجب جزاه الله خيرا…”.