شوف تشوف

الرأيالرئيسية

رسالة في التسامح الديني

يقول الفيلسوف «ليسينغ» لو أخذ الله بيمناه الحقيقة المطلقة وفي اليسرى البحث عن الحقيقة، ومعها الخطأ لزام، ثم قال لي اختر، إذا لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت يا رب: بل اليسرى، لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك. فهذا هو الفرق بين النسبي والمطلق، والبشري والإلهي. ومن بحث عن الحقيقة تواضع وتسامح، ومن ادعى امتلاك الحقيقة تعصب فلم يراجع. فهذا هو مفتاح أقفال التعصب، كما جاء في محكم التنزيل «أم على قلوب أقفالها؟».

في عام 1649 م طار رأس الملك تشارلز الأول، وولدت الجمهورية في بريطانيا على يد كرومويل. وكان أهم شيء فعله شق الطريق إلى الملكية الدستورية و(التسامح الديني)، فسمح لليهود بالعودة إلى بريطانيا، بعد أن طردوا منها ثلاثة قرون. وإذا كانت عظام كرومويل قد أصبحت في المزبلة، فالمهم هو ولادة الملكية الدستورية ونهاية الحكم المطلق.

والفضل في عمل كرومويل يعود إلى فيلسوف مشهور هو «جون لوك»، هرب إلى هولندا في جو «التعصب الديني». ويقول عنه المؤرخ «ويل ديورانت» إنه عندما رجع في ولاية وليم الثالث عام 1689م إلى بريطانيا وهو يناهز الستين، دفع في سنة واحدة للطباعة ثلاثة كتب جعلت منه أحد نجوم الفكر في التاريخ. كان الأول بعنوان «بحثان عن الحكومة» رفض فيه الحق الإلهي للملوك، وقال بنظرية فصل السلطات، وأرسى فيها قواعد الديموقراطية السياسية. والآخران هما: «رسالة عن التسامح الديني» و«مقال في الفهم الإنساني».

وكما حلل «نيوتن» الضوء، فقد قام «لوك» بتحليل العمل السياسي. ويرى «لوك» أن التسامح الديني  يجب أن ينتقل بين أبناء الدين الواحد إلى التسامح بين أبناء الديانات المختلفة: «يجب أن لا نستبعد إنسانا أيا كان عمله أو وظيفته، لأنه وثني أو مسلم أو يهودي».

وأثرت أفكار «جان لوك» في تفجير الثورة الفرنسية و«إعلان حقوق الإنسان». بل وإلى أمريكا الجنوبية فقد تأثر «سيمون بوليفار» بفكر لوك، وحرر خمس دول من الاستعمار الإسباني هي كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وبوليفيا وبيرو بين عامي 1819 و1825 م، وهو أمر نادر أن يجتمع لشخص واحد تحرير خمس دول.

وهكذا ترك لوك أثره على جو التنوير والتسامح الديني في أوروبا، فأخرج «إيمانويل كانط» كتابه عن «نحو السلام الدائم»، وظهر «إيراسموس» بالنزعة الإنسانية من روتردام.

إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد، لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على التوازن. فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض، والكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد، ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة. وأفضل حالة للطاقة هي أن لا تجمد ولا تتفجر. والخوف من العقارب والمخابرات ضروري للحفاظ على الحياة، ولكن زيادته تدفع صاحبه إلى الجنون. وأفضل شيء يتحقق في المجتمع هو العدل، وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية. ومن هذه المعاني وصل الفلاسفة إلى شيء سموه الوسط الذهبي، فالشجاعة هي وسط بين الخوف والتهور، والكرم هو ما بين البخل والإسراف. ومبدأ الثنائية خطأ، فليست الأمور سوداء أو بيضاء. ونحن نتعامل مع إسرائيل بين حدي الاستحالة والسهولة، فإما أنها دويلة العصابات، أو أنها التنين النووي. ولا يخرج (التدين) عن هذا القانون. والتشدد هو ضد قوانين الحياة ويدمر نفسه ومن حوله، والفكر الإسلامي المعاصر ابتلي بهذا الوباء مثل الحمى السحائية.

إن التدين يشبه الملح، فبدون الملح في الطعام يفقد كل نكهة، وبدون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى آلة لا معنى لها. وبقدر حاجة البدن الضرورية إلى الملح، بقدر تسممه إذا زادت الجرعة. فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة أعطى للحياة معنى وأورث في القلب الطمـأنينة وفي السلوك الانضباط، وإذا زادت الجرعة تحول الوعي إلى تعصب، والحياة إلى جحيم لا يطاق، وانقلب المجتمع إلى مصحة أمراض عقلية بدون أسوار وأطباء وعلاج.

وهذه الخطيئة القاتلة لا تنفرد بها أمة دون أخرى، فالخوارج والصهاينة والإسبان الذين دمروا حضارات أمريكا، والنازيون والفاشيون وجماعات التكفير المعاصرة والشيوعية يشربون من العين الحمئة نفسها. وفي النهاية يخسرون الرهان التاريخي فيتحولون إلى مستحاثات.

تروي «يونغ تشانغ» في كتاب «بجعات برية» أن «ماو تسي تونغ» أطلق في عام 1957م شعار «لتتفتح مائة زهرة»، ولكن الخبيث أوعز في الوقت نفسه لمن حوله بشعار مضاد أن «استخرجوا الثعابين من جحورها». وهكذا فكل من مارس النقد أصبح يمينيا متطرفا عدوا للثورة، وكانت حصة والدة الكاتبة أن تدل على مائة من اليمينيين المرتدين الكافرين بالثورة، وللتأكد من طهارتها الحزبية فقد نامت معها جاسوسة في نفس سريرها، فلعلها نطقت بأحلامها بكلمات ضد الحزب والقائد. وفي هذه الحمى الثورية المجنونة، مات 30 مليونا جوعا وهم يهتفون بحياة القائد الأبدي.

في القرآن آية تشير إلى هذا الإنسان المجنون – العاقل «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا».

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى