
بقلم: خالص جلبي
خميرة الثورة الفرنسية كان الكثير ولكن أبرزهما كانا اثنين: هما فولتير وروسو، ويحتاج كل منهما إلى حديث خاص، وحين سقط لويس السادس عشر وقام بتصفح كتابات الاثنين قال: «إن هذين دمرا فرنسا»، ويقصد بالطبع العرش البوربوني وكنيسة البابا. وحول فولتير يمكن قراءة الفصل الخاص به في كتاب «قصة الفلسفة» لويل ديورانت، المؤرخ الأمريكي. ولكن فصل اسحقوا العار أصبح رمزا لفولتير، وكذلك مبدأه حول التسامح والسماح لكل الآراء بالحضور.
في ما يخص فولتير فأهم ما يسم هذا الرجل دعوته إلى حرية التعبير، والتسامح الديني، وكان خصما لدودا للكنيسة، ولعب فكره دورا في إنضاج الأوضاع للثورة الفرنسية، ولم يكن اسمه فولتير، بل (فرانسوا آريت). وتبنى اسمه الذي اشتهر به فولتير عندما سجن للمرة الأولى في سجن الباستيل. ولم يكن اعتقالا واحدا يتيما فمن دخل الحبوس مرة أصبح من أصحاب السوابق، كما حصل معي فدخلت أقبية البعث الجهنمية أربع مرات، حتى غادرت جهنم البعث إلى جنة ربي فهو يؤويني ويطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين، هي وصفة لكل حر أن لا يبق في أرض يشعر فيها أنه من المستضعفين ولو كانت جنة نعيم.
وهو ما فعله فولتير أخيرا فقرر مغادرة فرنسا نهائيا وفر بجلده من كل البلد والخلان وتاريخ الطفولة ومراتع الشباب، وبقي مشردا حتى آخر حياته بين بريطانيا وسويسرا، وبروسيا التي كانت نواة ألمانيا الموحدة لاحقا، وفي النهاية استقر في قرية فرني في سويسرا، قريبا من الحدود الفرنسية، بعد أن أصدر الملك لويس الخامس عشر قرارا بمنع دخوله فرنسا، وحرمت الكنيسة كتبه، واعتبرته هرطيقا ملحدا زنديقا وشيطانا مريدا، مخربا للعقيدة الصحيحة وهداما لتعاليمها.
وبعد سجنه الثاني في الباستيل، أخرج منه بشرط أن يذهب باتجاه بريطانيا، فلا يعود. وهناك دهش من الحرية التي يعيش فيها الناس، في ظل حكم برلماني، وتعلم اللغة الإنجليزية في سنة، وبدأ يناقش المفكرين البريطانيين، وذكر عن بريطانيا أن فيها أكثر من ثلاثين مذهبا دينيا، بدون قس واحد، أو سجن رعب من نوع الباستيل، وأعجب بحركة الكويكرز السلامية.
وفي بروسيا بقي لفترة عشر سنوات في بلاط الملك فريدريك الثاني، الذي كان يتقن الفرنسية، وكانت لغة الثقافة يومها، إلى درجة أن فولتير قال عن الجرمانية: «لم تكن اللغة الألمانية تستخدم سوى عند العوام في الطرقات أو للخدم من سائسي الخيل، أما الثقافة والشعر والفن فكانت باللغة الفرنسية التي يتكلم بها الألمان بشغف».
ولم تكن هناك ألمانيا بعد، وفي عهده كان عدد الولايات الألمانية أكثر من أيام السنة، فزادت عن ثلاثمائة ولاية، لا يجمعها إلا اللسان والفن، حتى وحدها أوتو فون بيسمارك.
وفي النهاية اختلف مع الملك البروسي حول نشر قصيدة؛ فهرب منه، وكاد أن يدخل السجن في فرانكفورت، حينما ألقوا القبض عليه، وفي النهاية أطلقوا سراحه فولى وجهه شطر سويسرا.
ولم يدخل فرنسا فيموت فيها عام 1778 إلا قبل وفاته بأيام، وكان عجوزا تجاوز الثمانين، فاستقبلته فرنسا أفضل من ملك، وممن زاره (بنيامين فرانكلين)، الرئيس الأمريكي لاحقا، وطلب من حفيده تقبيل يده، والتبرك بها.
ومن أجمل شعاراته «اسحقوا العار» حينما حيل بين محبين أن يتزوجا، لأن الشاب كان كاثوليكيا والفتاة بروتستانتية، فأرادوا قتل الشاب، فأطلق شعاره المذكور لسحق التعصب الديني.
وفي الثورة الفرنسية كان نداؤه فظيعا دمويا: «اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس».
ومن عانى من التشدد الديني والعنت يفهم رواج أفكاره؛ فالتعصب يحول المجتمع إلى مصحة عقلية كاملة، بدون أطباء وأسوار وعلاج وقضبان يحجز خلفها الناس، بل يعاشر المرء المجانين في وضح النار جهارا عيانا، يتبرعون بالموعظة، وعليه أن يتحمل آذاهم ويبتسم لهلوساتهم، كما حصل معي في القامشلي التي ولدت فيها، حين اقترب أحدهم مني وقال: «سمعت عنك تقرأ كثيرا، فانتبه إلى عقلك من الجنون».
وعندما حضرته الوفاة جاءه قسان كان مصيرهما الطرد؛ فأما الأول فسأله فولتير وهو على فراش المرض والموت: «من أرسلك؟»، قال: «الله»، قال: «فارني أوراق اعتمادك»، فهرب.
أما الثاني فأبى أن يستغفر له، حتى يعترف بأنه كاثوليكي صحيح العقيدة، فطرده وطلب من سكرتيره أن يكتب في وصيته، أنه يموت على عبادة الله، وكراهية الكهان.
وصفه المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في كتابه «قصة الفلسفة»، أنه كان قبيحا مختالا فصيحا بذيئا يحمل أخطاء عصره، وكان قادرا على قتل عدوه بضربة قلم. استطاع أن يكتب في عمره المديد، الذي طال حتى 84 سنة 99 كتابا، تتألق كل صفحة منها بنور الحكمة والفائدة.


