قصة رسالة التزكية التي حصل عليها العلوي من قدور بن غبريط في باريس
مذكرات مولاي المهدي العلوي -8-

يونس جنوحي
لم يكن سهلا على ابن مدينة سلا، وهو شاب دون العشرين، أن يستبدل أجواء مدينته المشحونة، بعد نفي السلطان محمد بن يوسف -20 غشت 1953- بأقل من شهرين، بأجواء باريس التي نقلته إلى حياة جديدة، حمل فيها همّ مستقبله في التعليم العالي، وواقع الطلبة المغاربة في فرنسا.
يحكي مولاي المهدي العلوي في مذكراته، عن هذه المرحلة:
“باريس هي بالضبط المدينة الأسطورية، التي ارتسمت صورتها في أذهاننا، من قراءتنا للصحف الفرنسية، وحكايات الأصدقاء الذين سبقونا إلى اكتشاف بعض أسرارها. باريس التي ستربطني بها علاقة خاصة لا تقل حميمية عن تلك التي جمعتني بمدينتي سلا، وإن كانت تختلف عنها في تفاصيل صغيرة فرضتها رغبات الشباب وغريزة الانطلاق والتحرر، التي رحلنا ننشدها قاطعين كل تلك المسافات.
بين مقاطعات باريس وأحيائها وشوارعها شهدنا كيف انتصر الإنسان على نفسه وتجسدت عبقريته في التصميم والإعمار وشق الأنفاق وبناء الجسور في أنموذج بديع أثار دهشتنا وإعجابنا ودفعنا للتفكر في تُراث الثورة الفرنسية، عسانا نستلهم منها ما يُمكن أن يرسخ في أجيالنا من قيم العدالة والأخوة والمساواة بعد التحرير والاستقلال.
التحقت بالدراسة بباريس إثر تدخل الصديق محمد عواد، لدى قدور بن غبريط، وكان مديرا مؤسسا لمسجد باريس الكبير، وسبق له أن اشتغل موظفا تابعا لوزارة الخارجية الفرنسية ومترجما لبعثتها الدبلوماسية بالمغرب، ثم لازم السلطان عبد الحفيظ، حيث عمل مترجما للحكومة الشريفة، وحضر عام 1912 معاهدة فاس التي أقرّت بموجبها فرنسا نظام الحماية على المغرب.
منحني بن غبريط رسالة تزكية لتسجيلي في ثانوية دي كارت Lycée Descartes المعروفة في المقاطعة الخامسة في باريس أمام ساحة لو بونتيون Place du Panthéon
وقد مرت منها شخصيات فرنسية من بينها بومبيدو Pompidou وفاليري جيكسار ديستان Valéry Giscard d’ Estaing، وذلك لاجتياز قسم الباكالوريا الثانية، بينما سيُسجل صديقي سيدي أحمد الشرقاوي في كلية الحقوق، جامعة السوربون.
كان والدي يخصص لي منحة مالية شهرية بقيمة ثلاثة آلاف ريال مغربي، تكفيني لأداء إيجار الغرفة التي انتقلت إليها بالقرب من الثانوية، وكان ثمنها حوالي 300 فرنك فرنسي، بينما كنت أدبر باقي المبلغ لتغطية مصاريف المعيشة والتنقل والكتب وغيرها من متطلبات الحياة الأخرى، حيث كان بوسعنا الاستفادة من الأسعار المرفقة للوجبات التي تُقدم في مطعم جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، ترشيدا للنفقات، ورغبة في اللقاء بالأصدقاء الطلبة من مختلف البلدان المغاربية”.
لا بد أن رسالة التزكية التي حصل عليها مولاي المهدي العلوي، من شخصية مغربية مثل قدور بن غبريط، قد ساهمت في تعزيز موقفه لدى الإدارة لكي تتم عملية التسجيل بنجاح.
وربما لو أن العلوي خصص أسطرا إضافية لشخصية بن غبريط، وكيف قضى الأخير سنوات حياته الأخيرة في فرنسا، لشكّل الموضوع إضافة فريدة لهذه المذكرات.
بالمقابل، تحدث العلوي بتفصيل وإسهاب، عن أجواء العمل الطلابي وعلاقات الطلبة المغاربة مع غيرهم من الجنسيات. وهنا، سلط الضوء أكثر على جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا، وقال إن المبنى الذي احتضن الجمعية، مملوك للدولة المغربية: “يوجد مقر جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، الواقع في 115 شارع سان ميشيل، في مبنى تعود ملكيته للمغرب، وكان يَعج بالحركة، ويشهد تنظيم فعاليات وأنشطة يشارك فيها كبار الأساتذة الفرنسيين المتخصصين في علم السياسة وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والصحافة والإعلام، كما كان بمثابة مدرسة في نشر الوعي الوطني لدى الطلاب والعموم، من خلال استقبالها لعدد من الوطنيين ورجال السياسة من المغرب ومن الجزائر وتونس، وذلك بمبادرة من الجمعية التي تعاقبت على رئاستها شخصيات سيكون لها شأن في بلدها، من بينهم المرحوم الدكتور عبد اللطيف بنجلون وقبله محمد الفاسي، وهو أول من مثل المغرب في اليونيسكو، وأول وزير للتعليم في حكومة الاستقلال، ثم من جيلنا، سيترأس الجمعية في فترة من الفترات المرحوم عمر بن جلون.





