قلتُ لمحمد الخامس عندما زار طريق الوحدة: “إنهم يكذبون عليك يا جلالة الملك”؟

يونس جنوحي
قصة المقاوم “الدكالي”..
بدأت الأحداث في سنة 1957 تتخذ منحى أكثر عُنفا، وكانت الاختطافات تزداد وطأة. ووُجهت أصابع الاتهام بهذا الخصوص لأكثر من شخص. وأبرز من وُجهت لهم هذه التُهمة، بالوقوف وراء اختطاف وتصفية المقاومين من أعضاء جيش التحرير والأعضاء السابقين في خلايا المقاومة، هو المهدي بن بركة شخصيا. وبعض الاتهامات لا تخلو طبعا من حسابات شخصية، وما أكثر الذين تلوثت أسماؤهم بالدماء وهم منها أبرياء.
كنتُ في هذا التاريخ، أرتدي بذلة الجيش الملكي، لكني لم ألتحق بالثكنات، بل بقيتُ مرافقا لولي العهد الأمير مولاي الحسن، بحكم موقعي السابق في المقاومة، والمتمثل في الإشراف على “الاستعلامات”. فقد كان عدد من المقاومين، كما أسلفتُ، يأتون إلى ولي العهد طلبا للمعونة، أو التوظيف.
كان قد بلغ إلى علمي أن أحد إخواننا يعيش وضعية صعبة، وهو المقاوم “الدكالي”. وهكذا فقد التقيتُه، واطلعتُ بنفسي على مشكلته، وتأكدتُ فعلا أنه يستحق أن يكون من جملة المقاومين الذين سوف يستفيدون من المساعدة بعد الاستقلال. قررتُ أن أقترح اسمه لكي يحصل على وظيفة، أو مأذونية تُعينه على إطعام أطفاله.
لكن المفاجأة أنني عندما كنتُ أستعد لأنقل إليه الخبر المفرح المتمثل في حصوله على عمل، فإذا بي أتلقى خبر تصفيته. وأدركتُ فورا أنه كان تحت مراقبة ما، وأن هناك من يتربص به.
مع المهدي بن بركة..
كل من عرفوا المهدي بن بركة يُقرون أنه كان شخصية غاية في الذكاء، ويُبهر من يسمع إليه بمدى سعة اطلاعه وشبكة معارفه، ودهائه السياسي. لقد كان دائما يحمل في جيب قميصه مذكرة يُدون فيها كل ما يقال في حضوره من أفكار ومعلومات وأسماء ومقترحات.. كان منظما جدا، ومُستمعا جيدا أيضا.
لقد سبق له أن زارنا في تطوان، أثناء استعداد حزب الاستقلال للمشاركة في محادثات “إكس ليبان” التي نُظمت في شهر غشت سنة 1955.
كان الإخوان وقتها يتدربون ويستعدون لعملية 2 أكتوبر السرية، والتي لم يكن يعرف عنها أحد أي شيء. وجاء المهدي بن بركة لكي يتحدث إلينا بشأن التخفيف من عمليات المقاومة في الدار البيضاء، لإفساح المجال لـ”السياسيين” حتى يجلسوا إلى الطاولة مع الحكومة الفرنسية.
كان اللقاء مع المهدي بن بركة مشحونا، حتى أن المقاوم سعيد بونعيلات قد ثار في وجهه، وقال له:
-عندما كنتَ أنت منفيا، آ المهدي، قل لي من أطلق سراحك: هل هي السياسة أم “القرطاس”؟
وطبعا فإن المهدي بن بركة لم يُعجبه هذا الجواب. وبقية الأحداث معروفة. فقد ذهب السياسيون إلى “إكس ليبان”، وجاءت أحداث 2 أكتوبر وتلقى الفرنسيون ضربة موجعة أجبرتهم على التراجع.
لكن كانت هناك أياد خططت لإزالة أحداث الثاني من شهر أكتوبر 1955 من الذاكرة الجماعية، وقليلون اليوم من يعرفون قيمتها ودورها في المسار الذي عرفته الاحداث.
أما ثاني لقاء بيني وبين المهدي بن بركة، فقد كان في “ديور الجامع” بالرباط، بعد الاستقلال. كانت وقتها تُهمة وقوف المهدي بن بركة وراء عدد من حالات اختفاء واغتيال رفاقنا في المقاومة، قد بدأت تنتشر في أوساط المقاومين، خصوصا منهم المنتمون لحزب الاستقلال.
وقد كان مُخططا أن نتناول وجبة العشاء في بيت المهدي بن بركة، رفقة كل من المحجوب بن الصديق، الذي كان يتزعم الذراع النقابي لحزب الاستقلال، والحاج العتابي الذي كان مكلفا باللاجئين في تطوان.
وجدتُ بيت المهدي بن بركة بسيطا، ولا يدل على أنه يُراكم الثروة أو يستفيد من امتيازات في الدولة. وقد كان هذا واحدا من جوانب التقدير والاحترام اللذين يحظى بهما بن بركة بين الناس عموما.
تناولنا وجبة العشاء في منزله، وتشعب بنا الحديث عن السياسة، والأحداث الوطنية والتحديات التي تنتظر البلاد. وعندما كنا بصدد مغادرة بيته، سلمتُ عليه عند الباب، وخاطبتُه قائلا:
-قل لي آسي المهدي، من منا نحن ضيوفك الثلاثة سوف يُقتل أولا عندما نُغادر منزلك؟
التقط بن بركة الإشارة، وأجابني على الفور:
-لستُ أنا المكلف بالاغتيالات. عليك أن تسأل الفقيه البصري.
عندما غادرنا منزل المهدي بن بركة، لامني المحجوب بن الصديق كثيرا على محاولة استفزازي للمهدي وحذرني من العواقب. لكني في الحقيقة لم أعر الأمر أي اهتمام.
المهدي وطريق الوحدة
عندما انطلق مشروع طريق الوحدة، سنة 1957 دائما، شاركتُ في الأشغال بالإشراف على فرقة من الجنود في الجيش الملكي، وعملنا معا على توزيع المؤونة وتنظيم الأشغال.
وقد كان ولي العهد الأمير مولاي الحسن، مشرفا بنفسه على سير هذا المشروع الوطني. فقد كانت طريق الوحدة، بطول 80 كيلومترا، وتربط بين تاونات وكتامة، ترمز إلى توحيد شمال المغرب الذي كانت تحتله إسبانيا، مع بقية المناطق التي كانت تحتلها فرنسا، وهكذا استحق المشروع أن يُلقب بـ”الوحدة”.
كان المهدي بن بركة يسهر على سير المشروع، وعهد إليه الملك الراحل محمد الخامس بإدارة بعض جوانبه التنظيمية.
وحدث أن جاء الملك الراحل محمد الخامس شخصيا لزيارة المكان وتفقد سير الأشغال، وكان يرافقه ولي العهد الأمير مولاي الحسن.
تكلف المهدي بن بركة بمرافقة الملك محمد الخامس في جولة تفقدية لكي يقف بنفسه رحمه الله على الأشغال، وكنتُ أنا أسير في الخلف مع المرافقين. وسمعتُ المهدي بن بركة يشتكي للملك الراحل ويُخبره أن العمال والمتطوعين يعانون من نقص فظيع في المؤونة والطعام ويتضورون جوعا. فلم أتمالك نفسي وقفزت بين الصفوف إلى أن وصلتُ إلى حضرة الملك محمد الخامس وطلبتُ أن يأذن لي بالحديث، وقلتُ لجلالته إن هؤلاء الناس -في إشارة إلى المهدي- يكذبون عليك يا جلالة الملك. واستدرتُ في اتجاه الجنود، وطلبتُ منهم أن يحفروا الأرض، فرأى جلالته رحمه الله بعينيه المؤونة قد دُفنت في حفرة لإخفائها..
كميات هائلة من اللحوم والخضروات دفنت تحت التراب. فاستنكر رحمه الله ذلك التصرف، واغتنمتُ الفرصة وناديت على أحد المتطوعين وكان مريضا ويداه متقرحتان، ورأى جلالته بنفسه وضعية بعض المتطوعين الذين جاؤوا للمشاركة لكنهم لا يصلحون لذلك النوع من العمل. فقد كانت الأشغال شاقة، وتحتاج إلى عُمال أشداء، متآلفين مع حمل المعاول، وليس الشباب المُتعلمين الذين جاؤوا من الأقسام الدراسية.. فقد كانوا صراحة لا يقوون على العمل.
عندما حل وقت الغداء الذي نظم للملك الراحل محمد الخامس وولي العهد في خيمة نُصبت لهذا الغرض، أذكر أن الملك محمد الخامس كان يجلس مع مرافقيه في طاولة، بينما كان ولي العهد مع المهدي بن بركة وآخرين في طاولة أخرى.
وكان ولي العهد يتحدث مع المهدي بن بركة، وطلب منه هذا الأخير أن يُنادي عليّ ليتحدث معي بخصوص ما وقع في حضرة الملك محمد الخامس.
واقتربتُ من ولي العهد، وتفاجأتُ بالمهدي بن بركة يُخبره بنفسه عن واقعة سؤالي له عندما زُرناه في بيته أنا والمحجوب بن الصديق. وضحك ولي العهد عندما سمع الواقعة، ولم يتطور الخلاف بيني وبين بن بركة..
لكن ملف اغتيالات المقاومين ظل مفتوحا. بل إن بعض المقاومين الذين كنت أتابع وضعهم عن كثب، كانوا إما يُختطفون أو يتم اغتيالهم بمجرد ما أن يندمجوا في الجيش الملكي، أو يتم إلحاقهم بوظيفة ما، مهما كانت بسيطة، لإعالة أسرهم. وهذه من الأمور المؤسفة التي أثرت كثيرا على سير البلاد في طريق الاستقرار في الأشهر الأولى التي تلت الاستقلال، وكلّفت الوطنيين غاليا.