
شاهدت قبل سنوات فيلما إيرانيا ظل راسخا في ذاكرتي لحدود الساعة. لا يتعلق الأمر بروائع عباس كيروستامي أو سينيماتوغرافيا أصغر فرهادي، بل بفيلم مصور يشبه إلى حد ما أعمال المانجا اليابانية. «بيرسيبوليس»، إنتاج عام 2007 ومن إخراج الثنائي الإيراني- الفرنسي مرجان سترابي ووينشلاس، الذي يُعتبر من أهم الأعمال السينمائية التي رفعت سقف الجرأة في تناول الأزمات السياسية وموجات التشدد الديني التي اجتاحت البلاد عقب نجاح ما سُمي بـ«الثورة الإسلامية» التي استولت على السلطة.
يرافق الفيلم شخصية «مرجان»، الشابة الإيرانية الثائرة والتي نشأت تحت نظام الحجاب الإجباري والتفرقة بين الجنسين في الأماكن والمؤسسات العامة. يدخل فيلم «بيرسيبوليس» تحت صنف دراما ما يُعرف بـComing-of-age حيث اختبر المشاهد جميع المراحل العمرية التي مرت بها مرجان، ابتداء من طفولة مهزوزة في بلد مضطرب سياسيا وأمنيا، وانتهاء بعملية الفرار الكبير الذي ألقت بها في شوارع أوروبا الباردة، مهاجرة فقيرة متشردة.
تحمل مرجان مشاعر متناقضة بين حب الوطن وسخطها على استمرار رموز التطرّف والراديكالية الفكرية في السيطرة على السلطة، وترمز البطلة نفسها إلى المرأة الإيرانية التي لا زالت، وإلى حدود اليوم، ضحية سياسات جندرية تعسفية.
في الوقت الذي تقع النساء ضحايا لسلطة الفقيه، يختار شخص آخر القمع والتطرف والإقصاء الأيديولوجي طواعية. إنه اليساري العربي الموالي للعمامة الفارسية. يساري في حضرة الوليّ الفقيه، أو عندما يقع الثائر في حب جلاده.
في عالم السياسة العربية، حيث المنطق يُسحق تحت أحذية الشعارات والوعي يُغتال على يد «الممانعة»، يطل علينا مشهد سريالي عجيب، يساري يرفع صورة غيفارا بيد ويلوّح بشعار «يا حسين» باليد الأخرى، مرددا بصوت مرتجف: «الموت لأمريكا… عدوة الشعوب.. عاشت المقاومة!».
عزيزي القارئ، لا تقلق، لم تختلط الأمور عليك. أنت بالفعل تشاهد يساريا عربيا يدافع عن نظام ثيوقراطي تحكمه عمائم تحرّم الرقص والموسيقى، وتجيز جلد المدخنين، لكن يعتبر صواريخها مقاومة تقدمية، وشعاراتها الثورية فخرا أمميا.
هنا تظهر متلازمة ستوكهولم الحزبية بحلتها الأبهى، اليساري الذي وقع في حب جلاده الطائفي. لقد اختُطِف منطق هذا الرفيق ذات يوم في دهاليز الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وحُقِن بمصل «كل من يعادي الغرب صديقي»، فانقلب على تراثه التنويري وانبطح أمام سلطات دينية ترى في كارل ماركس كافرا زنديقا.
تسأله: كيف تدافع عن ولاية الفقيه وهي نظام ديني لا يعترف بفصل السلط ولا بحرية المعتقد؟ فيجيبك بكل ما تحمله الصنطيحة من جرأة وثقة: «يا رفيق، هذه مقاومة! لا تكن برجوازيا ساذجا أو رأسماليا متوحشا!» فتشعر لحظتها بأنك أنت من تحتاج دروسًا في التاريخ الثوري. من الملا علي إلى لينين مرورا بالرفيق المناضل شريف خيري رمز الصمود.
كيف حصل هذا الانقلاب العاطفي؟ كيف انتقل ابن ماركس ولينين من نقد الرأسمالية إلى التماهي مع خطاب ديني يتحدث عن التمهيد لظهور الإمام الغائب؟ لقد أُسر اليساري فكريا من قبل خطاب «الممانعة» و«التحرر من الاستكبار العالمي»، فأصبح يرى في لحية الولي رمزا للمقاومة، وفي عمامته سلاحا نوويا ضد الإمبريالية.
اليساري العربي المصاب بمتلازمة ستوكهولم يتبنى موقفا سرياليا، ينتقد أنظمة الخليج باعتبارها رجعية، لكنه يبرر النظام الإيراني لأنه «يدعم المقاومة». وكأن دعم المقاومة يعطيك حصانة ضد النقد، بل ويمنحك رخصة لبناء سجون تحت الأرض ومعسكرات «إعادة التأهيل» في الهواء الطلق. ربما يظن هذا اليساري أن الولي الفقيه سيمنحه حقيبة وزارية في جمهورية المقاومة الكبرى. وربما يعتقد أن الثورة الإسلامية هي النسخة الشيعية من الثورة البلشفية.
هو لا يرى التناقض في أن يُسجن الشيوعي الإيراني، بينما يتغنى هو بدماء الحرس الثوري. لا يشعر بالحساسية حين يرى أن الثورة يُصفَّق لها من على منابر تُجلَد فيها النساء. إنه فقط يرى «محور مقاومة»، و«إمبريالية عالمية»، أما الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهذه «ترف برجوازي» يؤجَّل حتى إشعار آخر.
لكن لا تُشفق عليه. هو لا يعاني. إنه سعيد في زنزانته الأيديولوجية، يكتب قصائد في مدح من يكمّم فمه. إنه مثال حي على أن الانحياز الأيديولوجي يمكنه أن يتفوق على المنطق، واليساري يمكنه أن يصبح عاشقا طائعا للعمامة، ما دامت تحمل شعارا معاديا لأمريكا.
هكذا تتجلى ملهاة العرب، اليسار يرقص طربا في حضرة الاستبداد. إذا كانت لحية المستبد طويلة بما يكفي، وصوته مرتفعا ضد واشنطن. إن داء فقدان البوصلة الفكرية المزمن الذي يعاني منه اليساري اليوم دفعه للاعتقاد أن النظام الإيراني يقف كدرع يحمي الأمة العربية من تغول الإمبريالية الغربية. نظام اللطميات الذي يسعى منذ خمسين سنة لتفتيت بلدك وتسليح ميليشيات مارقة هدفها زعزعة أمنك واستقرارك. هذا النظام الذي ساهم في تدمير سوريا والعراق ولبنان واليمن، إذا سقط (من وجهة نظر اليساري) فسنتحول مباشرة إلى الولاية الأمريكية رقم 51.. نعم، هكذا تحدث زرادشت.. والعهدة على الراوي.