الرئيسية

لهذه الأسباب كانت السكاكين تُشحذ للخروج بأحكام قاسية تتراوح بين المؤبد والإعدام

باقتراب المحاكمة من نهايتها، كانت النقطة التي ناقشها دفاع المتهمين بقوة، تتعلق بسبب تمديد فترات الاعتقال لعدد كبير من المعتقلين، تجاوزت 7 أشهر. نحن هنا نتحدث عن الفترة التي سبقت المحاكمة، لأنها لعبت دورا كبيرا في رسم مسار الجلسات من بدايتها إلى نهايتها.
دعونا في هذه الحلقة نقفز أزيد من أربعين سنة إلى الأمام، ما دمنا نتحدث عن صيف 1971، وبالضبط إلى الندوة التي أقامها النقيب المحامي عبد الرحيم بن بركة عندما أعلن عن صدور كتابه الذي يؤرخ للمحاكمة وفصولها وأطوارها وما تخللها من حوادث. كان موقفا عاطفيا بامتياز، إذ أن القاعة التي احتضنت اللقاء، شهدت حضور عدد من ضحايا المحكمة السابقين الذين كانت صدورهم تحفظ وقع مطرقة القاضي في تلك الجلسات الصيفية الكئيبة، وكانت القاعة تُرجع إليهم صدى قاعة مشابهة، شديدة القتامة، احتوتهم جميعا في عز الأزمة ليروا كيف أن قلة من رجال القضاء كان موكولا إليهم البت في مستقبل كل أولئك الذين كانوا في قمة شبابهم، والتهمة كانت ثقيلة لا تحتمل المزاح.

عودة إلى الرجل الغامض
بعد كل هذه الحلقات التي تحدثنا فيها عن كواليس الإعداد لمحاكمة مراكش وكيف نُقل إليها المتهمون وحصص التعذيب التي تعرضوا لها، والجلسات الأولى وكواليسها ومداخلات المحامين والإكراهات التي كانت تحيط بأجواء المحاكمة، لا بأس أن نعود إلى الرجل الذي التقيناه، في اللقاء الذي أقامه النقيب عبد الرحيم بن بركة قبل سنتين عند الإعلان عن كتابه. فالرجل، «سي محمد»، الذي كان واحدا من الذين تمت محاكمتهم بتهمة تهديد النظام في المغرب والتخطيط لعمليات مسلحة تستهدف الأمن العام للمواطنين، كان قد قرر أن يبدأ حياة جديدة بعيدا عن رفاقه. اخترنا أن نعود إلى قصته في الحلقات الأخيرة من هذه السلسلة، لأن له قصة طريفة مع الأحكام التي صدرت في حق المتهمين. يقول لـ «الأخبار» إنه كان يعيش أياما رتيبة في السجن العسكري في القنيطرة، وكان وقتها قد سمع عن المتهمين في انقلاب الصخيرات العسكري، وكان يتساءل مع بقية أصدقائه، عن سر سخرية الحياة التي جمعت بين عسكريين تورطوا في انقلاب عسكري لا يعرفون عنه أي شيء، وبين مدنيين تورطوا هم أيضا في مخطط سري لم يكونوا يعلمون عنه أي شيء أيضا. لكن القائمين على السجن كانوا حريصين على ألا يقع أي اتصال بين الطائفتين، وهكذا كان العسكريون قد قرؤوا عن قصة المتهمين المدنيين في جرائد المعارضة، وكان المدنيون الذين تتم محاكمتهم في تلك الأيام، يسمعون كثيرا من المحامين وعن طريق الجرائد، قصص تلاميذ المدرسة العسكرية بأهرمومو والمخطط الذي قام به الكولونيل اعبابو ولم يكلل بالنجاح.
يقول نفس المصدر إن بعض المتهمين، أمثال سعيد بونعيلات، أو محمد أجار، حسب الوثائق الرسمية، بالإضافة إلى متهمين آخرين من قدماء المقاومة، تألموا كثيرا عن سماعهم بخبر الانقلاب العسكري الذي كان مخططا له، وفرحوا لأن الانقلاب فشل، وكانوا قلقين بخصوص السلامة الجسدية للملك الراحل الحسن الثاني، وهو الأمر الذي كان يعكس مستوى الوطنية الكبير الذي كانوا يحتفظون به، رغم ما عاشوه من معاناة في الأقبية السرية. إذ أن بونعيلات وآخرين ظلوا يؤكدون على أمل كبير يسكنهم يُنهي معاناتهم مع الاعتقال والمتابعة بتهمة استهداف النظام. هذا الأمل كان يتمثل في تدخل مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني ليوقف تلك «المهزلة» وهو ما وقع بالفعل مرة قبل محاكمة 1971، وسيقع بشكل غير مباشر عندما يقرر الملك الراحل العفو عن المتهمين بعد صدور أحكام كثيرة بالإعدام في حق عدد كبير من المتابَعين الذين كان الملك الراحل يعرفهم شخصيا بحكم تعامله معهم أثناء عمليات جمع سلاح المقاومة وتسليمه للجيش الملكي.
تقول بعض المصادر إن الماضي المشترك بين الملك الراحل الحسن الثاني وبين بعض الأسماء القديمة في المقاومة، هو الذي جعله يتدخل ليطلع على الملفات ويوقف كل شيء، ويأمر بعفو ملكي على جل الذين توبعوا بعد المحاكمة وتمت إدانتهم، لتبقى بعض الأحكام قائمة في حق بعض الذين حوكموا غيابيا، لأن ملفاتهم كانت ثقيلة، وكان العفو يتطلب عودتهم أولا للمغرب للبحث معهم في المنسوب إليهم.
هذا الجيل من الذين عاشوا المحاكمة وكانوا من بين ضحاياها، لديهم فلسفة عميقة ومختلفة بخصوص الجلادين الذين أشرفوا على تعذيبهم، إذ يقول أغلبهم إن الأمر كان مقدرا له أن يتم بتلك الطريقة، وأن الدولة كانت تقوم بالاحتياطات اللامة لإيقاف المخططات الخارجية التي من شأنها أن تعصف بالبلاد، فيما يرى جيل آخر من الشبان، خصوصا منهم اليساريون الذين جايلوا محمد اليازغي وآخرين، أن ما وقع يعتبر جريمة سياسية في حقهم وفي حق كل الذين تعرضوا للتعذيب بتهمة المشاركة في مخطط لم يكونوا يعرفون عنه أي شيء.

عندما كانت الجلسات تحتضر
كان الجميع يحسون بالتعب مع اقتراب موعد الجلسات الأخيرة، لم يكن رئيس الجلسة كذلك ولا حتى ممثل النيابة العامة. كانوا يرفعون إيقاع الجلسات الأخيرة، فيما لاحظ المتابعون والمتهمون أن طاقة عبد الرحيم بوعبيد قد بدأت تخفت. المحاضر التي جمعها النقيب عبد الرحيم بن بركة، لا تُظهر خمولا في أداء الدفاع، بقدر ما تبين أن المحامين كانوا يرفعون إيقاع الأسئلة ويحاصرون النيابة العامة إلى حين الجلسة التي تم فيها النطق بالأحكام. لكن المصادر التي تحدثنا إليها قالوا إنهم أحسوا في الأخير أن عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة، قد بدءا يفقدان الأمل في إنقاذ بعض الرقاب من حكم المشنقة، وبدا الأمر واضحا في مداخلاتهما. من المرجح أن يكون هذا الأمر واردا إن لم يكن صحيحا، لأن الظروف التي مرت فيها الجلسات الأخيرة كانت عصيبة، وانقلاب الصخيرات كان قد ألقى بظلاله على كل شيء، وبالتالي كان محامو الدفاع يتوقعون، رغم الاستماتة التي دافعوا بها عن الجميع بدون استثناء، أن تكون الأحكام قاسية، لأن العاملين في منصة القضاء، لا بد وأن يحرصوا على إرسال رسالة مشفرة إلى محيط الملك ومستشاريه الذين كانوا يتابعون الجلسات منذ انطلاقها، مفادها أنهم يجتهدون في معاقبة المتهمين بأي تهمة تتعلق بمس النظام أو السلامة الجسدية للملك الراحل الحسن الثاني، خصوصا وأن انقلاب الصخيرات جعل الجميع في المغرب يضعون أيديهم على قلوبهم، بما في ذلك العسكريون، فما بالك بموظفي القضاء. حتى أن بعض المصادر القريبة من أجواء المحاكمة قالت في وقت سابق لصحف المعارضة، إن موظفي المحكمة وبعض القضاة، كانوا يتخوفون من أن تتخذ الدولة ضدهم إجراء ما إن هم أبانوا عن أي تعاطف مع المتهمين، مخافة أن يتم تصنيفهم في خانة الانقلابيين أو المتعاطفين معهم، لذلك كانت السكاكين، تُشحذ طيلة الأسبوعين اللذين سبقا إعلان الأحكام في قضية محاكمة مراكش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى