
في ظل المناداة بتخليق الحياة السياسية، ومشاريع قوانين الانتخابات والصرامة في منح التزكيات، والدعوة لاستقطاب الشباب للمساهمة في تجويد الخدمات العمومية، تتكرر مشاهد مقززة داخل عدد من المجالس الجماعية، وتشهد بعض الدورات نزولا خطيرا في مستوى النقاش السياسي، بعدما تحولت مداخلات أعضاء من طرح اقتراحات البرامج والمشاريع التنموية ومناقشة طرق صرف المال العام وانتقاد فشل التسيير، إلى تبادل السب والقذف من قاموس الشارع والاتهامات الثقيلة، في سلوك يضرب في العمق الميثاق الأخلاقي للعمل السياسي، ويطرح أكثر من علامة استفهام حول أهلية الكثير من المنتخبين لتحمل مسؤولية تسيير الشأن العام.
وما يزيد الوضع قتامة، هو تكرار حدوث هذه الانزلاقات اللفظية الخطيرة أمام أنظار السلطات المحلية، التي تمثل عمال الأقاليم بالدورات، دون أن يتم التدخل واتخاذ قرارات حازمة لوقف نزيف تبخيس عمل الجماعة كمؤسسة دستورية، وتعثر تفعيل المساطر القانونية التي تنص على احترام الضوابط الأخلاقية داخل المجالس المنتخبة.
إن التساهل والتغاضي عن تطبيق القانون لأسباب وتوازنات فارغة، جعل من هذه الانحرافات التي تحدث داخل الاجتماعات والدورات الرسمية سلوكا معتادا يجري التطبيع معه، بل أضحى بعض المنتخبين يتباهون علانية بخرقهم للقانون، في مشهد يُكرس الرداءة ويُضعف صورة المؤسسات التمثيلية.
وبالعودة لتفعيل المحاسبة، نجد أن المسؤولية في هذا الوضع الكارثي لا تقع فقط على المنتخبين، بل تمتد إلى الأحزاب السياسية التي تتحمل وزر تزكية وجوه تفتقد لأدنى شروط الكفاءة واللياقة السياسية، والحال أن التزكيات القائمة على الولاءات الضيقة للقيادات الحزبية والمصالح الشخصية بدل الكفاءة والنزاهة، تُفرز مجالس هجينة، وتكرس للعبث في تسيير الشأن العام كما تُفرغ العمل السياسي من معناه النبيل.
إن هذه الممارسات المشينة التي تنقل على المباشر بالمنصات الاجتماعية، تعتبر من أبرز أسباب تعميق الهوة بين المواطن والسياسة، وتؤدي إلى عزوف فئات واسعة، خاصة الشباب، عن الانخراط الحزبي والمشاركة في تسيير الشأن المحلي. والنتيجة تكون إعادة تدوير نفس الوجوه المستهلكة والممارسات الفاسدة، وإنتاج مجالس تساهم في تعطيل التنمية وتفقد المواطن الثقة في مسار الإصلاح.
لا يختلف أحد على أننا اليوم في حاجة ملحة لإعادة الاعتبار لهيبة ودور المؤسسات المنتخبة، والبداية من مراجعة قانون التزكيات داخل الأحزاب، والصرامة في ردع انزلاقات المنتخبين، وتفعيل الإجراءات في حق كل من يرتكب جرائم السب والقذف وتبادل الاتهامات الثقيلة أمام أعين السلطات الإقليمية، وإلزام كل مُبلغ عن الجرائم بتقديم الدلائل وتحرك القضاء عندما تقتضي بعض الحالات ذلك.
وختاما فإن تمييع النقاش العمومي داخل المجالس الجماعية لا يأتي منه خير، ولا علاقة له بالمزايدات السياسية وحرية التعبير وممارسة المعارضة، بقدر ما يتعلق الأمر بجرائم ترتكب في حق الديمقراطية المحلية، وإجهاض مشاريع التنمية وعرقلة تفعيل دور الجماعات الترابية، وهو ما يحتاج إلى إرادة حقيقية والجدية في تنزيل الإصلاح ووقف العبث بصورة المؤسسات والنزول بالممارسة السياسية دركات لما تحت القاع في جهنم الفساد.




