ملامح من شخصية الإسباني «دي مورغا» أو «الحاج البغدادي»
كتب مذكراته «ذكريات مغربية» سنة 1868 عن مغامراته بالمغرب

يونس جنوحي
اسمه خوسي ماريا دي مورغا، ولقب بالحاج البغدادي، ما دام قد عاش بين المغاربة وتجول بينهم كأي مغربي آخر. وبما أنه إسباني، فإن الإسبان أطلقوا عليه اسم «المورو بيسكانيو» ورأوا أن فيه «شيئا» من المغاربة..
حل الحاج البغدادي، في المغرب سنة 1863، في فترة حكم المولى محمد الرابع وخاض مغامرته، متنكرا.. عمل راعيا ومقتلعا للأسنان في الأسواق الأسبوعية، وعاش بين أجدادنا طولا وعرضا.. وعندما عاد إلى بلاده كتب مذكرات «ذكريات مغربية»..
انبعثت هذه المذكرات، بعد أكثر من 160 سنة على أحداثها، لأول مرة سنة 1969 عندما وضعها باحثون إسبان تحت مجهر البحث العلمي والأكاديمي.. والآن، يبعثها مغربي يعرف الإسبان جيدا، وهو ذ. محمد المساري، من جديد، لكي تعيش بين المغاربة، ويعرفوا من خلالها سيرة واحد من أغرب وأعجب من حلوا في المغرب.
++++++++++++++++++++++++
أول ترجمة عربية لأقدم مذكرات إسباني زار المغرب سنة 1863
هي فعلا ذكريات مغربية تستحق أن تُروى. خاض مغامرة نقلها إلى العربية، د. محمد المساري الذي تخصص في اللغة الإسبانية، وعمل مفتشا للغة الإسبانية.
ترجمة عمل من هذا النوع، تتطلب أن يكون المُترجم مُلما بالثقافة الإسبانية وليس اللغة وقواعدها فحسب. وهو ما يتوفر في ذ. محمد المساري، بحكم أنه وُلد سنة 1948 في مدينة سبتة.
هذا الانفتاح على الثقافة الإسبانية، جعل المُترجم يخوض تجربة هذه الترجمة مدججا بترسانة من الأدوات التي تساعد على الفهم الجيد لعمق التعابير المستعملة في الكتابة باللغة الإسبانية، قبل أزيد من قرن ونصف.
سبق لمحمد المساري أن ترجم أعمالا أخرى إلى العربية، من الإسبانية. وبحسب ما تنص عليه سيرته الذاتية في كتاب «ذكريات مغربية» لـ«خوسي ماريا دي مورغا»، فإن المساري ترجم مقالات عن أمريكا اللاتينية سبق أن نُشرت في مجلات ودوريات متخصصة. ونال سنة 2004 جائزة «إدواردو ميندوثا» عن قصته القصيرة «ocultos Amores»، والتي كتبها باللغة الإسبانية.
«ذكريات مغربية» نُشرت لأول مرة في إسبانيا سنة 1868. والحقيقة أن الإسبان عندما نُشر هذا الكتاب تعاملوا معه بجدية، واعتبروه مرجعا مهما للتعرف على جغرافية المغرب وبنيته الاجتماعية، وليس مجرد مذكرات ترفيهية تندرج في أدب الرحلة، أو كتب «المغامرات».
السياق الذي نُشرت فيه هذه المذكرات كان مشحونا، في ظل التسابق الأوروبي على الفوز بالمغرب، خلال الفترة التي وصلت فيها فرنسا إلى أقصى بلاد الجزائر، ووقفت عند حدود النفوذ العثماني واستعصى عليها التوغل داخل المغرب.
أهمية هذه المذكرات تتمثل في أن الإسبان توفر لهم مرجع مهم عن المغرب، في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يحاولون جمع معطيات وتقارير عن مناطق المغرب، محاولين التسلل عبر فكيك وبوعرفة والمنطقة الشرقية للمغرب عموما. حتى أن الجامعة الفرنسية في الجزائر، أعلنت عن مكافآت مهمة لأي باحث فرنسي يقرر التطوع لاستكشاف المغرب، وهو ما لم يستجب له فرنسيو الجزائر خوفا من المصير الذي قد يلقونه على يد القبائل «المتعصبة» داخل المغرب.
وهكذا، فإن تجربة «دي مورغا» جعلت منه أشهر رحالة إسباني توغل داخل المغرب، بعد اجتيازه بنجاح مضيق جبل طارق سنة 1863، والمغرب وقتها تحت حكم المولى محمد الرابع، الشهير بإبرام الاتفاق الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية، ونجاحه في جعل الجهاد البحري مصدا ناجعا ضد هجمات الإسبان.
وفي الوقت الذي كان فيه التجار الإسبان، وحتى الدبلوماسيون يتجنبون إثارة المشاكل مع المغرب، خوفا من قراصنة سلا وأسطول الجيش المغربي، قرر هذا الإسباني، الذي لقب في المغرب بالحاج البغدادي، بحكم أنه ارتدى ملابس المغاربة وخالطهم، وفي إسبانيا لُقب بـ«المورو بيسكاينو»، في إشارة إلى تصنيفه «مغربيا» من طرف الإسبان، أن يرحل إلى المغرب، وبل ويسافر داخله، في الوقت الذي كان وجود الأجانب في أغلب مدن المغرب مُحرما. بل إن بعض الصحف، البريطانية على وجه الخصوص، كانت تنشر دوريا أحداث مقتل بعض الأجانب الذين قللوا من شأن الهجمات على الأجانب، وخرجوا من طنجة الدولية إلى نواحيها، ولم يقطعوا سوى كيلومترات قليلة جدا، حتى قُتلوا على يد رجال القبائل الرافضة للوجود الأجنبي في المغرب.
عندما يكتب المُغامرون مذكراتهم..
في انتظار أن يتم تعميم هذه المذكرات: «ذكريات مغربية»، لكي يطلع عليها القارئ المغربي المتعطش لهذا النوع من الإنتاج الأدبي التاريخي التشويقي – بحكم اندراجه في أدب الرحلة-، ويطالع بين سطورها أبعاد المغامرة التي خاضها «الحاج البغدادي» الذي أقنع المغاربة بشخصيته العجائبية، وحير الإسبان بإتقانه تقمص «الدور»، نورد هنا إضاءة من صحيفة «جسر التواصل»، التي كانت سباقة إلى التفاعل مع هذا الإصدار، والتعريف به:
«وُلِد خوسي ماريا دي مورغا، المعروف باسم المورو بيسكاينو عام 1827 في إحدى المناطق الباسكية (بلباو). وهو ينتمي إلى أسرة نبيلة، وكان قائدا في سلاح الفرسان، وشارك في الحروب الكارلية. بين عامي 1854 و1859 زار لندن واسكتلندا والقسطنطينية، وكان شاهدا على أطوار حرب القرم. ولأنه كان مفتونا بالبلدان الإسلامية فإنه درس اللغة العربية في باريس. في عام 1861، وبعد انتهاء حملة إفريقيا التي قادها الجنرالان أودونيل وبريم، طلب التقاعد من الجيش ليسافر إلى المغرب بمفرده.
عندما وصل مورغا إلى المغرب عام 1863، عاش كـ«مرتد»، وهي الطبقة الأكثر احتقارا في الإمبراطورية المغربية، واندمج في الحياة اليومية والممارسات الدينية للبلاد، لدرجة أنه قرر ارتداء الجلباب والعمامة، متخذا اسما إسلاميا مثلما فعل دومينكو باديا، حيث سمى نفسه «الحاج محمد البغدادي».
في المغرب، وبصحبة خادم ودليل وحمار أجرب، عمل كمعالج، وقلّاع أسنان، وقابلة توليد النساء اليهوديات، وطارد أرواح شريرة، وبائع متجول، ووليّ. كان هدفه فهم روح الشعب المغربي وقد نجح في تلك الغاية.
في عام 1866، وبعد ثلاث سنوات من التجوال المستمر في مدن المغرب الشمالية عاد إلى إقليم الباسك، حيث كتب ذكريات مغربية للمورو بيسكاينو، وهو نص لاذع وساخر مليء بالملاحظات والأوصاف حول العادات والأوضاع السياسية بالمغرب، وكذا الجوانب التاريخية والجغرافية لهذا البلد المغاربي العظيم.
تم إعداد طبعة من قبل المؤرخ والكاتب فيديريكو فيراستيغي، الذي كرس عقدين من الزمن لدراسة حياة وأعمال المورو بيسكاينو بلا كلل.
لقي دي مورغا بعد وفاته اهتماما واسعا، فقد صدر مؤلف جماعي عام 1969 اهتم بمسار حياة هذا الرحالة الاستثنائي، وهو بعنوان المورو بيسكاينو: الأصل، الموطن. والعمل في الأصل هو ثلاث محاضرات قدمها في بلباو كل من خابيير دي إيبارّا وتوماس غارسيا فيغيراس وغييرْمو غواسطابينو غالِنْتْ.
لقد ألف دي مورغا كتابه وهو في بلده وبين أهله وعشيرته، وذلك بعد أن تحلل من القناع الذي تخفى تحته ما يقارب الثلاث سنوات وهو يطوف بأزقة مدن المغرب ويعاشر الناس في البوادي، ويشاركهم نمط عيشهم. وكان خلالها حُرّا ومتحررا لكي يصرح بما يشاء، وأن يفصح عما يدور في خاطره.
وبالرغم من الصورة القاتمة التي يقدمها دي مورغا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالمغرب، وهي كانت كذلك إلى حد كبير، إلا أنه في الوقت ذاته تأسره الحياة في هذا البلد، ففي أحد فصول الكتاب يعبر قائلا: «لقد قضيت أجمل أيام حياتي بين العرب. ولو قدر لي، لأسباب سياسية أو لانتكاسات الحظ، أن أختار منفى خارج وطني، فلا شك ستجدونني بينهم. لأنني لن أجد صعوبة في التأقلم مع نمط عيشهم الذي أعرفه جيدا، لأنني اليوم، وأنا أحيا مستريحا وسط ما توفره الحضارة، تنتابني حرقة ويستولي علي الحنين إلى سكون بوادي أرض البربر وكرم حصير الدواوير».
لم يكن دي مورغا كاتبا متمرسا في حياته. فلا يُعرف عنه أنه كتب شيئا قبل تأليف هذا الكتاب ولا بعده. لذا جاء أسلوبه مطبوعا بنوع من السجية، إلى درجة أنه يقارب في بعض جوانبه السرد الشفوي. وإذا كانت تلك ميزة إيجابية ومستحبة في بعض الأحيان، إلا أنها تطرح صعوبة جمة أمام المترجم. فالكثير من التعابير الجاهزة والألفاظ والمفاهيم والصور البلاغية التي اعتمدها الكاتب، وهي حتما كانت عادية ومفهومة لمعاصريه، لم تعد كذلك اليوم لكونها أصبحت متجاوزة بفعل الزمن؛ مما يفرض على المترجم بذل جهد مضاعف حتى يتمكن من تقريب المعنى الذي توخاه المؤلف، ولا يكون النجاح حليفا له في كل الأحوال».
++++++++++++++++++++++++
عاش متجولا بالمغرب كمولد ومعالج أسنان وعاد لإسبانيا لكتابة مذكراته
لولا الاهتمام الذي حظيت به سيرة هذا المغامر الإسباني، سنة 1969، عندما بُعث كتابه من جديد على يد باحثين إسبان، ربما ما كانت سيرته لتصل إلى القارئ الإسباني قبل أكثر من نصف قرن، وإلى القراء المغاربة اليوم بعد هذه الترجمة التي اشتغل عليها د. محمد المساري، في سفر «أنيق» من الإسبانية إلى العربية.
كتب د. خالد طحطح، تفاعلا مع خروج هذه الترجمة العربية، مسلطا الضوء على شخصية الحاج البغدادي، وقصة مذكراته المغربية، وتفصل فيها كما سوف نرى في مقاطع أخرى من هذا الملف:
«من المعروف أن دي مورغا هو أشهر رحالة إسباني توجه إلى المغرب، وتتكامل دراساته مع كتابات دومينغو باديا (علي باي)، بل وتتفوق عليها في جوانب عديدة.
حلَّ الحاج محمد البغدادي أو مورو فيسكاينو، وهو أحد الثلاثي التقليدي من المسافرين الإسبان، بالمغرب خلال القرن التاسع عشر وذلك في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان.
نزل الحاج البغدادي بالمغرب، مباشرة بعد حرب تطوان، وخلالها قام برحلة استكشافية عبر ربوع المغرب بهدف معرفة تنظيمه السياسي وعادات سكانه الاجتماعية، ودامت رحلته من 1863 إلى 1866، وخلالها زار عددا من المدن المغربية، ولدى عودته إلى إسبانيا، نشر في بلباو عام 1868 كتابه ذكريات مغربية، وهو خلاصة وافية للبيانات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية المغربية، فضلا عن سرده بأسلوب ممتع للتجارب الشخصية التي عايشها، وهو بحق يعد دليلا إثنوغرافيا ذا طابع رومانسي مميز عن مغرب القرن التاسع عشر.
كان دي مورغا ضابطا في الجيش الإسباني ضمن فرسان بافيا ومونتيسا. ولاحقا شارك كمتطوع في حرب القرم 1854-1856 مع الحلفاء.
وهناك في أراضي الدولة العثمانية تعرف على العادات الشرقية، لدرجة أنه بمجرد عودته إلى إسبانيا بدأ تعلم اللغة العربية في مدينة باريس الفرنسية. عاد بعد ذلك إلى مدريد وحصل على دبلوم في الجراحة البسيطة من جامعة سان كارلوس في المدينة، مما سمح له لاحقا خلال مغامرته الإفريقية، بالعمل كمعالج وطبيب أسنان.
لم يتمكن دي مورغا من المشاركة في الحرب الإفريقية 1859-1860 (حرب تطوان)، بعد أن استعد لهذه المناسبة، مما سبب له خيبة أمل كبيرة جعلته يقدم استقالته من الجيش، ثم بدأ التحضير لما ستكون عليه رحلة حياته: رحلة استكشافية عبر الأراضي المغربية».
هل كان «دي مورغا» جاسوسا إسبانيا؟
وُجهت تُهمة التجسس لعدد كبير من الشخصيات الأجنبية التي حلت في المغرب، خصوصا خلال فترة حكم المولى الحسن الأول ما بين سنتي 1873 و1894.
وبعض هذه الشخصيات الأجنبية، كُشف أمرها بعد سنوات على اندماج أصحابها في الحياة المغربية. وقد تم تداول قصص بعض الشخصيات، سيما في منطقة الأطلس، على أنهم فرنسيون زُرعوا داخل البلاد تمهيدا لاحتلالها، قبل العملية العسكرية الشهيرة في الدار البيضاء سنة 1907.
ومما كُتب في التاريخ الشفهي، قصص بعض الشخصيات مثل «بوعمامة» و«زريقة»، نسبة إلى زرقة عيني صاحب اللقب، حيث نُسب لهما أنهما فرنسيان وُلدا في الجزائر بعد 1830، ونُقلا سرا إلى المغرب وبقيا هناك لأزيد من عشرين سنة، وفي فترة حكم المولى الحسن الأول تم تجنيدهما كل على حدة، لجمع معلومات عن المناطق وعاداتها وثرواتها وتحالفاتها القبلية، تمهيدا لاحتلال المغرب.
حتى أن قصة «زريقة»، يرد فيها أنه كشف عن هويته أمام أهالي قبيلة في نواحي الأطلس، في اللحظات التي وصل فيها الجيش الفرنسي سنة 1914 إلى حدود قبيلتهم، وأخبرهم أنه فرنسي، بعد أن عاش معهم 25 سنة كاملة، جاء إليهم خلالها طفلا وغادرهم شابا.
لكن قصصا من هذا النوع لا وجود لها في أرشيف المخابرات العسكرية الفرنسية في شمال إفريقيا، ولا أثر لها في ما جمعه المؤرخون المعتمدون من أخبار، وتظل حبيسة تراث التاريخ الشفهي الذي لا يُستبعد أن يكون مُطعما بالخيال، أكثر من المعلومة التاريخية.
لكن مسألة وجود جواسيس في المغرب، ظلت قائمة، بل وطالت أشخاصا أجانب حقيقيين. مثل المربية البريطانية «إيميلي كين» التي عملت في قصر الثري «بيرديكاريس»، فقد قيل إنها بعد زواجها من شريف وزان واستقرارها معه في طنجة، ليست إلا جاسوسة بريطانية، تعمل لصالح المفوضية البريطانية في المدينة، وجُندت لتجمع أخبار المغرب اعتمادا على موقع زوجها الاجتماعي وثقله في منطقة وزان.
لكن ما وقع من أحداث، كشف أن السيدة «كين» كانت أبعد من أن تكون جاسوسة مجندة لتعمل في المغرب، فقد بقيت زوجة لشريف وزان، وأنجبت منه واستقرت في المغرب حتى بعد رحيل الموظفين العسكريين والمدنيين الإنجليز، وحسم المصير الاستعماري للمغرب لصالح فرنسا وإسبانيا.
فهل قصة «الحاج البغدادي»، الاسم الذي عرف به المغاربة السيد «دي مورغا»، تأتي في سياق الجواسيس الأجانب الذين حلوا بالمغرب؟ علما أن رحلته جرت وقائعها، قبل حقبة المولى الحسن الأول بقليل؟ واستمرت في فترة وجوده على اعتبار أنه عاد مرة أخرى، لكن في الظروف نفسها؟
في الذاكرة الجماعية المغربية، قلما نجد قصصا مثيرة عن أشخاص من فئة «خوسي ماريا دي مورغا»، لكن النماذج التي عرفها المغاربة من صنف الأوروبيين الذين «تمغربوا» وعاشوا بين المغاربة، كانت موضوع إشاعات وحكايات اختلط فيها الواقع بالخيال.
المميز في قصة «دي مورغا»، أنه وثق لتجربته المغربية، وصمدت بعد رحيله.
الجانب العسكري من حياته، خصوصا وأنه كان قائدا في سلاح الفرسان الإسباني، وشارك في ما كان يعرف بـ«الحروب الكارلية»، جعل تجربته في المغرب محط شكوك، سيما وأن ظاهرة التجسس في سياق 1863 وما بعدها بقليل، كانت على أشدها.
وخصوصا وأن هذا المُغامر والرحالة، عاش باعتباره من فئة «المرتدين»، وكانوا أقل شأنا من بقية المغاربة وينظر إليهم باعتبارهم فئة تأتي في الدرجة الثالثة، ولم يكن أسفلهم سوى الخدم والعبيد.
هكذا كان المغرب عندما خاض «الحاج البغدادي» مغامرته
في الفترة التي قضاها «دي مورغا» بين المغاربة، أي ما بين سنتي 1863 و1866، ثم رحلته الثانية عند عودته إلى المغرب مرة ثانية سنة 1873- أي أنه عاصر حكم المولى محمد الرابع، وبداية حكم المولى الحسن الأول- كان المغرب يعيش على إيقاع إغلاق الحدود البحرية المغربية في وجه المد الأجنبي، خصوصا الإسبان والبرتغال. وكان هناك ما يشبه انفتاحا على الأمريكيين والبريطانيين، في مقابل تحفظ على التعامل مع الفرنسيين، بسبب سياستهم في الجزائر وبقية منطقة النفوذ العثماني سابقا.
الوجود الأجنبي في المغرب كان مقتصرا فقط على طنجة الدولية. حتى أن الأجانب الذين كانوا في مدينة فاس، خلال الفترة نفسها التي حل فيها «دي مورغا» في المغرب، لم يكونوا سوى موظفين رسميين أوروبيين في مهام محددة إلى المغرب، وكان وجودهم في فاس مؤقتا، أو محكوما بمهمة رسمية. ولم يعد وجود الأجانب مألوفا إلا بعد سنة 1894، عندما بدأ بعض الأجانب يأتون طمعا في الفوز بصداقة السلطان الشاب المولى عبد العزيز، ويحلمون باغتنام فرص تجارية في البلاد.
في منطقة الشمال، لم يكن مسموحا بتجول الأجانب، وهي القاعدة التي بقيت سارية المفعول إلى حدود بداية القرن الماضي، أي قبل الحرب الإسبانية في الشمال بسنوات قليلة.
وفي وسط المغرب، كان اكتشاف وجود أجنبي وحيدا يكلفه حياته دون نقاش. وهذا ما أكده رحالة أجانب، من جنسيات مختلفة، أجمعوا على ضرورة الاستعانة بحماية مخزنية، أو التنكر على الأقل وتوظيف مرشد من طنجة.
حتى أن المفوضية البريطانية في طنجة كانت تعمم إعلانا شهيرا على مواطنيها بمجرد وصولهم إلى المدينة، وتنبههم إلى أنها ليست مسؤولة عن سلامتهم إن قرروا التجول في المغرب من تلقاء أنفسهم، دون الاستعانة بخدمات مترجم ودليل موثوق.
وهو ما سجله صحافيون ومغامرون ورحالة وسياسيون، كلهم أكدوا أن المغرب ما بين فترة حكم المولى الحسن الأول وصولا إلى فترة الحكم المولى عبد الحفيظ، أي إلى حدود 1912، لم يكن مسموحا فيه للأجانب بالتجول بين مناطق المغرب بحرية. وهناك مناطق بقيت خالية تماما من الأجانب مثل قرى منطقة سوس، ومدينة وزان، وشفشاون، وغيرها من المناطق التي تحتل بُعدا روحيا ودينيا في حياة المغاربة، وكان وجود الأجانب فوق أرضها يُعتبر تدنيسا لبلاد المغرب، بأقدام النصارى، حتى لو ادعى بعضهم اعتناق الإسلام أو التحدث بلسان المغاربة بطلاقة، وارتداء ملابسهم وأكل طعامهم.
والعدد القليل من الأجانب الذين فرضوا أنفسهم في المغرب وقتها، كانوا يشتغلون لصالح الدولة المغربية إما في مصنع السلاح في مدينة فاس، والذي فُوت للإيطاليين، أو الألمان الذين تكلفوا بالتنقيب عن المعادن في نواحي فاس، وقرب مراكش. أو من بقية الجنسيات الأوروبية الذين سُمح لهم بالبقاء في بعض المدن – خصوصا طنجة الدولية- وربطوا صداقات مع الأعيان المغاربة، وهو ما جعل وجودهم بين المغاربة مألوفا، مع الإقرار بضرورة احترامهم لمقدسات المغاربة ومشاعرهم، وعدم استفزاز سكان المناطق المحافظة.
وكثيرة هي المجازر التي وقعت، وراح ضحيتها أجانب قللوا من أهمية الالتزام بهذه القواعد، مثل الطبيب الفرنسي الذي اغتيل في مراكش ما بين 1894 و1895، بسبب حضور زوجته معه، مكشوفة الرأس، لرؤية موكب السلطان في طريقه لأداء صلاة الجمعة، وهو ما جعل الحشود تنتفض ضده، وقُتل على يد الغاضبين من المشهد الذي لم يكن مألوفا نهائيا.
في هذا السياق إذن، حل «دي مورغا» بين المغاربة، وبما أن رحلته كللت بالنجاح، فالواضح أنه كان شديد الحرص على تجنب استفزاز مشاعر المغاربة المحافظين، إلى أن مرت رحلته المغربية بسلام.
مغامرة إسباني تنكر في زي «البدو» وطاف المغرب قبل 162 سنة
حل «الحاج البغدادي»، أو كما كان يلقبه الإسبان «الموري بيثكاينو»، في المغرب ما بين سنتي 1863 و1866. وزار عددا من المدن المغربية، وعندما عاد إلى إسبانيا، انهمك في كتابة مشروع هذه المذكرات باللغة الإسبانية، ونشرها سنة 1868.
وبعد الموت الرمزي لهذه المذكرات، بُعثت من رمادها في رف الأرشيف، وأعاد باحثون إسبان إحياء سيرة هذا «الحاج» الإسباني المغربي المثير للجدل، سنة 1969.
يقول الباحث د. خالد طحطح في تفاعله مع إصدار الترجمة العربية لمذكرات هذا المغامر الإسباني، وهو الحدث الثقافي الذي لا يخلو من إثارة وتشويق، بل وغرائبية أيضا، نظرا إلى أهمية هذه المذكرات وتسليطها الضوء لأول مرة على تجربة من هذا النوع:
«وفي 27 فبراير 1863، وصل دي مورغا إلى طنجة. وهناك تخلى عن ملابسه الإسبانية، ولبس زي الحاج المغربي، حيث ارتدى جلابة قصيرة وعمامة واسعة، متكئا على عصا، وبرفقته حمار، وكأنه يتماهى مع شخصية الدون كيشوت دي لامنشا. وبعد مكوثه في طنجة لأيام معدودات توجه إلى مدينة العرائش، ومن هناك بدأ انغماسه المثير في المغرب العميق، متفاعلا مع عامة الناس، وقد عايشهم عن قرب واستمع إلى قصصهم وروى بقلمه الفكاهي ما استرعى انتباهه.
كان دي مورغا ذكيا حين قرر إخفاء هويته الحقيقية، والتظاهر بأنه منشق ومرتد، وعرَّف عن نفسه باسم محمد البغدادي، وادعى أنه مسيحي اعتنق الإسلام.
خلال إقامة دي مورغا في المدن المغربية عايش المرتدين الإسبان، ونقل لنا بشكل مستفيض أوضاعهم ببلاد المغرب، وعمل خلالها في مهن عديدة منها قابلة للنساء اليهوديات، وطبيبا مُعالجا، وبائعا متجولا، وتاجرا، وراويا، وحاجا، ومتسولا. ومن خلال استغلال مهاراته العلاجية، تعلم الكثير عن الحياة اليومية للمغاربة ودخل حتى مساجدهم، وقام بتدوين الملاحظات والأخبار التي سمعها، ودائما سرًا حتى لا يتم التعرف عليه كأوروبي ومسيحي إسباني، لأنه وفقا للمؤرخ فيديريكو فيراستيغي: «كان سيعرض حياته للخطر».
استغرقت رحلته الأولى عبر المغرب ثلاث سنوات، من عام 1863 إلى عام 1866. وخلال تلك السنوات من التجوال والمغامرات، اعترف بأنه أصبح مغربيا حقيقيا، مما أدى إلى تسميته بـ«الموري بيسكاينو». في هذه الرحلة قطع المسافة بين طنجة وتطوان أولا، ثم واصل طريقه إلى العرائش، ثم إلى القصر الكبير وهناك كتب عن معركة وادي المخازن بأسلوب مشوق، ثم غادر في اتجاه مكناس وفاس وسلا والرباط وفضالة.
عند وفاة والدته في عام 1865، عاد إلى إسبانيا وبعد ثلاث سنوات، أي في عام 1868، نشر كتابه الممتع المعروف بعنوان «ذكريات مغربية للموري بيسكاينو».
يعد نص ذكريات مغربية ذا طابع رومانسي مميز، وهو نتيجة للعصر الذي عاش فيه.
وقد اشتاقت نفس دي مورغا (الحاج البغدادي) مجددا لزيارة المغرب، فقرر في عام 1873، القيام برحلة استكشافية ثانية إلى المغرب. غادر إسبانيا في أبريل وعاد في غشت. ومكث هذه المرة لفترة قصيرة، حيث أجبرته الحمى على العودة إلى طنجة، بعد أشهر قليلة من وصوله. إلا أنه زار أماكن مجهولة بالنسبة إليه، فمر بأزمور ومراكش وموكادور ومازاغان والدار البيضاء والرباط وطنجة، حتى وصل إلى جزر الكناري.
أثناء وجوده في طنجة، شهد مورغا اندلاع الحرب الكارلية الثالثة 1873-1876. وقد دفعته مُثُله الليبرالية ومبادئه الوطنية إلى العودة إلى إسبانيا كمتطوع في الجيش الليبرالي، مدافعا عن مسقط رأسه بلباو، وشارك في كسر حصار الكارليين.
وفي عام 1876، حاول العودة في رحلة ثالثة إلى المغرب، وكان هذه المرة قد درس تقنية التصوير الفوتوغرافي واشترى آلة مستوردة من باريس، من أجل توثيق رحلته القادمة. وعندما استعد لبدء مغامرته الثالثة، أدت مشكلة خطيرة في الكبد مع مضاعفات غير متوقعة إلى وفاته في 30 نونبر 1876».