الرأي

منطق الطير

بقلم: خالص جلبي

في اللقاء العلمي الضخم الذي انعقد في مدينة (تكسون TUCSON) الأمريكية بـ(ولاية أريزونا ARIZONA) القريبة من الحدود المكسيكية في منتصف أبريل من عام 1996 م، الذي سافر إليه كم ضخم من الفلاسفة والأخصائيين في البيولوجيا العصبية والباحثين في آليات عمل الدماغ وعلماء النفس، تقدمت ثلاث سيدات باحثات في آليات السلوك في تطبيقات ميدانية، حول فهم الوعي والنطق عند الحيوان وبداية التفاهم معه باللغة الإنسانية، وكان أكثر ما شد انتباه الحاضرين ببغاء يحمل اسم (أليكس ALEX) يستطيع العد حتى رقم 6 ويستطيع التفريق بين الألوان، كما ظهر شمبانزي يمتلك قاموسا لغويا حتى 256 كلمة. وتقدمت السيدة الثالثة ببحث حول دلفين يتجاوب مع أنغام صفارة الكمبيوتر.
كان السؤال المثير والمحير عند الفلاسفة والباحثين في آليات الوعي والإدراك عند الإنسان، والذي سيطر على جو المؤتمر: هل يمتلك الطير منطقا؟ هل يوجد وعي عند الحيوان، أم هل يتفرد الإنسان باللغة التي هي العمود الفقري للوعي؟
بدأت المحاضرات في اللقاء العلمي بشكلها الأكاديمي الرتيب، فَعُرضت مشكلة الوعي وحرية الإرادة عند الإنسان، تأثير اللاوعي، بزوغ عصر الكمبيوتر العصبي. وانشغل الباحثون في قراءة تدفق التيارات الكهربية القادمة من الدماغ في النوم وخلال الأحلام؛ فالدماغ لا ينام على ما يبدو. كل ما يحدث هو تغيير طبيعة نشاطه من ميدان إلى آخر. كما تناقش الحاضرون حول عمل الخلايا العصبية وآليات اتصال النهايات العصبية بالخلايا، وكيفية مرور التيارات الكهربية، وعمل الإفراز الكيمياوي في الخلايا العصبية، ما هو الوعي الإنساني عموما؟ وأين هي الإرادة؟ وهل لها مركز محدد؟ ولكن التحدي الأكبر الذي حاول العلماء التقرب من فهمه، هو المشكلة القديمة الحديثة، الوعي الإنساني وكيف يتم؟
في هذا الجو فوجئ الحاضرون في المؤتمر بتقدم السيدة (إيريني بيبربيرج IRENE PEPPERBERG) وهي تحمل في يدها ببغاء رمادي اللون، يذكر بقصة جزيرة الكنز والكابتن سيلفر الذي لا يفارقه ببغاؤه الجميل. ما لبثت أن صاحت فيه: «أليكس .. عد للسادة ماذا تعرف من أرقام». لم يكرر كلماتها كما هي عادة الببغاوات، بل بدأ في العد: «واحد .. اثنان .. ثلاثة.. حتى الستة». أمسكت السيدة (إيريني) مفاتيح ملونة بيدها، ثم طلبت منه: «أليكس كم مفتاحا أحمر اللون في يدي؟»، فصاح بلغة مشبعة بلهجة أهالي الوسط الغربي لأمريكا؛ لهجة مدربته إيريني: «اثنان». و«كم مفتاحا بلون أزرق؟»، أجاب: «ثلاثة!». و«عدد المفاتيح الصفراء؟»، أجاب بثقة: «واحد». «وما لون هذا المفتاح؟»، أجاب: «أخضر». كانت إجاباته صحيحة دوما.
صُعق الحاضرون لأجوبة الببغاء الحكيم، هذه المرة لم يظهر غبيا يكرر الكلمات فقط كما هو معروف عن الببغاوات عادة. وبدأت الأرض تميد تحت أقدام السادة النخبة الذين شاركوا في المؤتمر؛ فالوعي والنطق عند هذا الطير اخترقا بعدين نوعيين جديدين. شعر العلماء المختصون في فهم الوعي الإنساني هذه المرة بنوع من الإحساس الخفي بعدم الأمان في المسلمات القديمة، بتفرد الإنسان بالنطق بين الكائنات، فالطير يملك منطقه الخاص، الذي يحتاج مثل النبي سليمان عليه السلام من يفك ألغاز حروفه. وبدأ الحاضرون يتناقلون كلمات الببغاء، متعجبين ومتسائلين كيف وصل إلى هذه العتبة؟
كان قاموس (أليكس) اللغوي قد وصل إلى مائة كلمة يفرق بين الألوان السبعة، يهتدي إلى خمسة أشكال من مثل المربع والمدور والمثلث والكروي، استطاع الوصول بالعدد إلى رقم 6، ويستطيع التفريق بين الأشياء حسب الشكل والحجم واللون، فهذا صندوق كبير، وذلك مفتاح أخضر، وهذه كرة مدورة. وكان الاستنتاج مزلزلا: هذا الطير يمتلك من الوعي ما يقترب به من مستوى الذكاء الإنساني لطفل عمره خمس سنوات!
السيدة (إيريني بيبربيرج) بدأت نشاطها المهني منذ حوالي عشرين عاما كباحثة في آليات السلوك، بزيارة إلى محل يبيع الحيوانات والطيور، حيث صادفت ببغاء رمادي اللون، انطلقت من إمكانياته في تقليد الأصوات الإنسانية، إلى فضاء معرفي جديد.
كان مشروع الباحثة (بيبربيرج) الطموح ليس صدح الكلمات وترداد الأصوات، فهي قصة قديمة معروفة عند الببغاء، ولكن برنامجها كان في إدخال الطير إلى دائرة الوعي والفهم و(مغزى الكلمات) التي يكررها أو تعرض عليه، فعصرت دماغها للتفكير في ابتكار وتطوير طريقة حديثة تدرب فيها الطير على دخول هذه البوابة الجديدة، أو بالعكس الدخول إلى دائرة الطير الداخلية، إلى وعيه الداخلي إن كان ثمة وعي يمتلكه، فالمشكلة مع الحيوان أنه عالم قائم بذاته لا يملك لغتنا لنتفاهم معه، بل يجب التمكن من لغته لمخاطبته، أو إدخاله إلى عالم اللغة الإنسانية كي يعبر عما يدور في نفسه.
كانت السيدة المساعدة في المختبر تمرر أمام عيني الطير شيئا ما، قطعة فلين .. جوزة .. مفتاح .. ثم تسأله: «ما هذا؟»، وفي الوقت الذي تكون الإجابة صحيحة، يتلقى الثناء والتشجيع وتدفع له القطعة. بسرعة اكتشفت الباحثة (بيبربيرج) أنها أيقظت الكوامن الخفية عند هذا الطير، وحرضت عند هذا الببغاء الفضول للمعرفة، آلية التعبير عن العالم الخارجي، وفي النهاية كان ينعق بالكلمات فلين .. مفتاح .. كرة .. بصوته الصادح المزعج.
وقف الفلاسفة في المؤتمر يتساءلون إذا أردنا إنكار الوعي جملة وتفصيلا عن الببغاء أليكس، فكيف يمكن أن نعلل ذلك؟ وماذا يفرق حقا الببغاء، حينما يفرق بين الألوان بهذه الطريقة عن جواب طفل عمره خمس سنوات؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى