
د. خالد فتحي
سواء كانت اعتباطية، أو مرتبة، أنجزت الصورة التي جمعت جين بينغ، بوتين، ومودي، هدفها. لقد نجحت في أن ترعب الغرب، وتجعله يحصي قواته من جديد، ليكتشف أن التحالف بين أكبر دولة من حيث السكان، وأشسع دولة في العالم، مع الدولة صاحبة ثاني اقتصاد عالمي، الدولة التي تنازع الولايات المتحدة الأمريكية زعامتها للعالم، إن تحقق، لسوف يقلب ميزان القوى، ويغير وجه السياسة الدولية لعقود طويلة.
لقد حولت الصين قمة شنغهاي إلى ما يشبه فزاعة حقيقية لأمريكا وحلفائها التقليديين. فأن تستعرض قوتك يكفي في أغلب الأوقات، كي تدخل في حسابات الخصوم، ولم لا أن يذعن هؤلاء الخصوم لك، ويرتدعوا، ويقروا لك جميعا بالتفوق.
لا شك أن الغرب في حال لا يحسد عليه. لم يحدث منذ سقوط جدار برلين أن بلغت الجرأة عليه هذا الحد. لكن هذا “الهوان” ما هو إلا نتيجة في جزء كبير منه لأخطائه، بل ولأوضاعه التي يتحمل هو مسؤوليتها: فترامب الذي له الولاية على أوروبا ربما هو نفسه يتمنى، في أعماقه، لو انضم لتلك الصورة الثلاثية، فهو مغرم أكثر بالأقوياء وبالأنظمة الأوثوقراطية أكثر مما تستهويه الديمقراطية وأنظمتها “الرخوة غير الفعالة”. وفرنسا مريضة، غارقة في الأزمة التي أودتها بها ديمقراطيتها وديونها الثقيلة، أما أوروبا فعليلة، تترنح اقتصاديا واجتماعيا بعدما فضحت حرب موسكو وكييف عجزها البين عن حماية حدودها. في حين أن تركيا أردوغان، ذاك البرغماتي، صاحب الألف وجه، الذي ينسج علاقاته وفق مصالحه لا غير، لم يعد يتورع عن إعلان عدم ثقته في هذا الغرب المتمنع الممن عليه. ولذلك فقد كان في مقدمة من هرعوا للقمة. لا شك أن السعد الجيواستراتيجي هو في ركاب الصين الآن، وأن الاقتصاد العالمي يتجه شرقا بثبات… لم يتبق لبكين، والحالة هاته، إلا أن تتم الأمر. وتعلن نفسها سيدة العالم لتجعل من القرن الواحد والعشرين قرنا آسيويا مثلما بحت بترديد ذلك حناجر منجمي الجغرافيا السياسية منذ زمن.
إنها أخطر نسخة لقمة منظمة شنغهاي للتعاون منذ تأسيسها. 26 دولة حضرت القمة، وكان ترامب، للمفارقة الكبرى، هو من أتى بأغلبها، بعد الضرائب الجمركية التي فرضها على الأصدقاء والأعداء على السواء.
ترامب هذا، الذي قرر في سياسته الدولية، أن يتخلى عن الجزرة، ويحتفظ بالعصا مع الجميع، بما في ذلك أنصاره، هو بالنسبة للصين، ولحدود الآن، ذاك “الأبله” أو “الأخرق” المفيد الذي تتوجس من أفعاله، لكنها لا تسوؤها، مادامت في النهاية تحشد لها الأنصار والحلفاء.
لقد سقطت خلال هذين اليومين استراتيجية أوباما، التي سعى من خلالها لمحاصرة الصين، بعدما تناست نيودلهي خلافاتها القديمة مع بكين، وحضر مودي جنبا لجنب مع جين بينغ وتحدثا وضحكا أو تضاحكا على مرأى ومسمع من العالم. الهند هي أكبر ديمقراطية في العالم، ومشاركتها في القمة بعد إهانة ترامب لرئيسها حنقا عليه بسبب شرائه للنفط من روسيا، يعني نجاح الصين في شق الصف الديمقراطي الذي يدعي الغرب زعامته.
الصين لا يكفيها ترامب، فهي تملك أخرق آخر، كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية… تحتفظ به لـ”اليوم الأسود”، إذا ما اضطرتها تصاريف السياسة الدولية أن تضع بدورها العالم على حافة الهاوية، فهي لم تهضم أبدا “نشوز تايوان”، ولعلها تضع خطة استعادتها وإرضاخها، ولا تنوي بما تمده من سلطانها يوما بعد يوم وقمة بعد قمة، إلا التمهيد للحظة الفارقة. الاشتباك الهندي الباكستاني فضح أن الصين بوسعها ذلك، فهي تمتلك عسكريا القدرة على حسم هذا الملف بأسلحتها التي قهرت العتاد الغربي في أقل من 100 ساعة.
الصين إذن تقول لترامب، ومن ورائه الغرب، إن ردي هو ما ترون لا ما تسمعون. ولذلك استعرضت عسكريا ودبلوماسيا واستراتيجيا، كأنها تقول للعالم كله: إذا كانت أمريكا تنسحب من زعامة العالم، فأنا قادمة، ولن أتركه دون بوصلة. وإذا كان ترامب يزرع الفوضى، فأنا سأحل النظام. وإذا كنت أتوسع، وأتمدد، فلأني أحشد القوى لتحد مباشر لأمريكا، إن لم يكن لتنحيتها، فعلى الأقل للحد من غلوائها وهذا في مصلحتنا جميعا .
لكن، وفي المقابل، ووسط هذا الزخم الذي يصور الصين، كما لو كانت ستتوج غدا سيدة للعالم، يطل سؤال جوهري برأسه: هل حقًا تملك الصين ما يؤهلها لتسنم عرش العالم؟ بل، هل في “جيناتها الحضارية” ما يغريها أساسًا بفكرة الزعامة العالمية على النمط الغربي؟
التاريخ الصيني العميق، الممتد آلاف السنين، يروي قصة حضارة اكتفت دائما بنفسها، ودولة بنت أعظم سور في العالم، لا لتفتحه، بل لتحمي نفسها. لم تعرف الصين بإمبراطوريات استعمارية عابرة للبحار، ولا بحملات تنصيرية أو عسكرية تسعى للهيمنة… سورها العظيم ليس جدار حجارة، بل هو رمز لقوة تنظر للخارج بريبة أكثر مما تطمح في التوسع عليه.
ثم إن روسيا، هذا “الحليف الظرفي” في الصورة إياها “المقلقة” للغرب، ليست دولة يسهل ابتلاعها. العلاقة بين بكين وموسكو أكثر تعقيدًا من شعارات “الشراكة الاستراتيجية”؛ إنها علاقة تنازع صامت على مناطق النفوذ، من آسيا الوسطى، إلى القطب الشمالي، إلى سوق السلاح والطاقة. والصين تدرك أن روسيا اليوم حليف مؤقت، لكنها في المدى البعيد ند ثقافي وتاريخي، وإن كان أضعف اقتصاديا.
أما الغرب، فربما أكثر ما يثير الحيرة فيه هو خسارته لروسيا من يده عن غباء استراتيجي مدهش. كان يمكن لروسيا أن تكون شريكا طبيعيا لأوروبا لو لم تعامل دائما كعدو دائم. فها هي اليوم تدار بالدفء الصيني، بينما يواصل الاتحاد الأوروبي (الخاسر الأكبر) المضي في أخطائه الهيكلية.
زيارة أورسولا فون دير لاين لبكين كانت نموذجا لهذا العجز: زيارة مقتضبة، بروتوكولية، مشبعة بالحذر والبرود، خرجت منها الصين بانطباع واضح: لا توجد قيادة أوروبية، إنها محض تابع لأمريكا. وللمفارقة، فإن أوروبا “الديمقراطية” تُبدي خضوعًا غريبًا لرجل كترامب، أكثر مما كانت تفعل مع رؤساء أقل اضطرابا. فهل ستحكم الصين العالم؟
ربما لا. فالصين لا تحكم، بل تقنع، ترهب، وتغرو.. طموحها أن تجعل العالم يدور في فلكها، لا أن تديره.. أن تجعله يعتمد عليها، لا أن يدين لها بالولاء. وإن كانت قد نجحت في تجميع الصورة، فإن الصورة وحدها لا تصنع إمبراطورية.
ولعل العالم – وقد أصبح أكثر توترا وتشظيا – بحاجة لمن يفككه برفق إلى أقطاب حضارية كبرى، لا إلى من يفرض عليه مركزا جديدا للقوة، مهما كان لامعا.





