شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

 من أجمل الكتب

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

أجمل الكتب تلك التي توقظ الوعي وتشحذ ملكة النقد، ولكنها ليست كثيرة. مقابل عالم التفاهة وطوفان عالم «اليوتيوب» و«التيك توك» حاليا. وأعظم عمل يعمله الفرد في بيته، وضع مكتبة من ذخائر الكتب لا تزيد على بضع مئات في فترة عشر سنين، ولكن الجيل الجديد لم يعد يتصفح كتبا، بل شاشات العمى والتفاهة في الموبايلات الحديثة.

وكتاب مثل القرآن غير التاريخ، وكتاب «رأس المال» لكارل ماركس تحول إلى إنجيل في يد الشيوعيين.

والكتاب الأحمر لماو تسي تونغ كان وقود الثورة الثقافية في الستينيات. أما الكتاب الأخضر فلم يوزع، إلا بقوة المخابرات والدولار لقوم لم يقرؤونه.

وأقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت، مثل قوة الذهب واليورانيوم.

والناس يقرؤون حتى اليوم حكم كونفوشيوس، والطرق الثمان لبوذا، وهكذا تكلم زرادشت لفيلسوف القوة فريدريك نيتشه. ويحلق «ابن خلدون» في مقدمته عبر القرون بكل جبروت فيطل من علو، أما كتابه في التاريخ فلا يقرؤه إلا المتخصصون.

ودُمِّرَ فكر المعتزلة، ولكن أفكار «إبراهيم النظام» في الطفرة ما زالت تستهوي «محمد إقبال»، فيكتب عنه في تجديد التفكير الديني في محاولة فهم مغزى الزمن، وحل معضلة زينون في الحركة، وميكانيكا الكم.

ويعتبر «بيرتراند راسل» أن مائة دماغ في التاريخ تزيد وتنقص كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا، ولو أجهضت بشكل وآخر لسارت أوروبا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ونحن نظلم التاريخ حين نقول إن أفكارا بعينها غيرت مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر وتفاعل عناصر لا حصر لها في ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيدا، ولذا كان الطب علما والسياسة دجلا.

وجانب كارل ماركس الصواب، حينما زعم أن الاقتصاد خلف كل شيء، أو فرويد أن الجنس محرك البشر، فالتاريخ عصي على كل تفسير.

ويحسن صنعا شراح الفكر الفلسفي حين يقولون للطلبة: يمكن لنا أن نشرح لكم تدفق الأحداث من نهايتها، أما ماذا يحدث في الغد فعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.

وحاليا نعرف أن الطيران بدأ مع القرن العشرين لتوفر الآلة، وعم في أكثر من بلد. والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل العرم، ولا يتفطن إلى هذا التطور كما يقول ابن خلدون إلا الآحاد من الخليقة. ومن ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر. وعندما أدخل بيت أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت المطبخ والأواني، عرفت أنه خارج إحداثيات الزمان والمكان يعيش مثل السنوريات.

ودخلت بيت طبيب يوما فرأيت الرفوف احتشدت بكتب ضخمة مذهبة العقب، فسألني عنها حين رآني أشمشم الكتب قبل كل شيء، وهي عادتي في دخول أي بيت جديد. قلت له عليك أن لا تغضب مني، فأنت تعيش عصر المماليك أيام سعيد جقمق.

والرجل فوجئ فقد كان يظن نفسه أنه يملك ذخائر المعرفة، كما أنه لم يكن قد سمع بسعيد جقمق. وكلمة جقمق تعني بالتركية ولاعة السجائر.

وفي النماص من عسير، تحدثت مع طائفة من مثقفي القوم عن فكرة ابن خلدون في النشوء والارتقاء، فاكتشفت أن بين القوم من لم يسمع بعد بكاتب من حجم ابن خلدون، وحين تنسى الأمم رجالها من العقول المبدعة فتودع منها. 

وقبل أيام كنت أحدث شابا متدينا عن رياض الترك الذي سجنه الطاغية الأسدي الأب سبعة عشر عاما في السجن الانفرادي، في الوقت الذي كان واعظ السلطان يقسم للطاغية أن ابنه يطير بجناحين من فضة في الجنة، ويأوي إلى حواصل طير خضر، قال: لم أسمع به؟ قلت إنها أرض تجمع قومين؛ من يعيش بيولوجيا وفكريا. وحاليا مات الأسد الطاغية الأب، كما مات رياض الترك هاربا إلى أرض لويس الرابع عشر، فالاثنان الآن في عالم الأموات يختصمان.

وتذكرت الأتراك في ألمانيا فقد يعمل العامل في مصانع «تيسين» عشرين عاما، ولم يسمع عشرين كلمة عن هايدغر وكارل ياسبرز وهيغل ونيتشه وموزارت وشوبنهاور من عمالقة الفكر والفلسفة والموسيقى، لأن ألمانيا تعني له عملا وعشاء وبرامج ترفيهية.

وفي يوم خرجتُ من صلاة العشاء، فحدثت طبيبا اختصاصيا في الجهاز الهضمي من جامعات فرنسية، عن توينبي المؤرخ العملاق. قال: لم أسمع به؟ قلت له: إنها كارثة فكرية. أجاب بحدة: هي لك وليس لي. 

قلت له: صدقت غلبتني. ورددت في قلبي قول الشافعي: ما جادلني جاهل إلا غلبني.

ومن قلب أمريكا أرسل إلي طبيب يدرس في أحدث أبحاث المناعيات إعجابه بواعظ شعبي، فتعجبت، وعرفت أن العقل المسلم منشطر إلى قسمين، فنصفه في الماء ونصفه في الطين، كما جاء في قرآن مسيلمة عن الضفدع. فالرجل قال: إن محمدا نزلت عليه سورة النحل والنمل والبقرة والفيل، وأنا نزلت علي سورة عن الضفدع المسكين الذي لا يعيره أحد بالا:

يا ضفدع بنت ضفدعين.. نقي ما تنقين .. لا الشارب تمنعين .. ولا الماء تكدرين .. نصفك في الماء .. ونصفك في الطين.

 

نافذة: 

أقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت مثل قوة الذهب واليورانيوم والناس يقرؤون حتى اليوم حكم كونفوشيوس والطرق الثمان لبوذا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى