موطن الهجرات والفتوحات
ترجح أغلب التقديرات أن عدد سكان القدس كان يتراوح إبان الفتح الإسلامي ما بين 20 و60 ألف نسمة، وارتفع ليصل في عهد الصليبيين في القرن الحادي عشر الميلادي إلى نحو 200,000 نسمة نصفهم من العرب الأصليين، لكن بعد استرداد المدينة من طرف صلاح الدين الأيوبي انخفض سكانها إلى 44,000 نسمة، بعد إجلاء الصليبين. وفي سنة 1670م وبحسب إحصاء السلطان العثماني محمد الرابع، وصل عدد سكان المدينة إلى 46,000 نسمة سنة 1913م ثم إلى 90,000 نسمة، لكن وبسبب الحرب العالمية الأولى وتداعياتها انخفض هذا العدد ليستقر في 50,000 نسمة فقط، ثم عاد ليتزايد في ما بعد.
الوجود اليهودي والغزاة
تثبت المرويات التاريخية، بخصوص وجود اليهود بالقدس، أنهم سكنوها بعدما استولى عليها الملك/النبي داود، ثم صارت أعدادهم تتزايد وتتناقص بحسب الغزاة، إذ يؤكد الكثير من المؤرخين أن الرومان وكذا الصليبيين أجلوا اليهود عن المدينة خلال احتلاهم لها، في حين سمح لهم صلاح الدين الأيوبي بالمقام والعيش فيها. وبرأي السائح اليهودي بتاحيا، فإنه خلال العهد الصليبي في القرن 12م لم يكن سوى يهودي واحد فقط. غير أن أعداد اليهود ستتضاعف من خلال الهجرة التي شجعت عليها الوكالة اليهودية والسياسة الإنجليزية المنتهجة في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، ليبلغ عددهم بالقدس سنة 1944م ما يناهز 94,000 نسمة، وتبعا لإحصاء سنة 2007 فقد وصل العدد الإجمالي لسكان القدس 747,600 نسمة، يشكل اليهود منهم نسبة 64 في المائة والمسلمون 32 في المائة، فيما يشغل المسيحيون نسبة 2 في المائة فقط.
ودلت حفريات علماء الآثار على أن أول من سكن القدس قبائل بدائية من العصر الحجري القديم، وبدءا من القرن 4 قبل الميلاد عرفت المدينة هجرات منتظمة كانت أولها هجرة الأموريين الذين اعتبرهم كثير من الدارسين وثيقي الصلة بالكنعانيين، وقد استطاعوا السيطرة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ومما أكدته التوراة في هذا المنحى كون الكنعانيين أسسوا حضارة فتية قادت صراعا محتدما مع العبرانيين.
من بنى القدس؟
يبقى من الراجح أن اليبوسيين- وهم فرع من سلالة الكنعانيين العرب- هم من بنوا مدينة القدس تحت إمرة قائدهم الشهير، ملكي صادق، الذي كان يطلق عليه بنو قومه لقب «كاهن الرب الأعظم». وقد اشتهرت المدينة – المسماة آنذاك يبوس- بتحصيناتها وبزراعة العنب والزيتون، عدا عن كثير من المعادن كالنحاس والبرونز، فضلا عن استخدام الخشب في صناعة السفن والقوارب، إضافة إلى صناعة الأسلحة والثياب والزجاج. غير أن ما كان يعاب على هذه القبائل أو الشعوب العربية التي سكنت القدس، هو افتقارها إلى حكومة مركزية قادرة على بناء دولة قوية، وهو ما أدى إلى طمع العبرانيين في أرضهم، بل ونجاحهم في ضم أجزاء كبيرة منها في عهد القائد اليهودي يشوع بن نون- بحسب ما جاء في التوراة- وقد استمر الصراع بين الشعبين لمدة تقارب المائتي عام.
وفي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، نزح الآراميون إلى أرض القدس فدخلوا في صراع محتدم مع العبرانيين، ثم جاء من بعدهم الفلسطينيون بعد أن أرغمهم الهيلينيون على ترك جزيرة كريت فسكنوا بين يافا وغزة، وعاشوا مع بقايا الكنعانيين وبني إسرائيل. لكن لا ينبغي أن نغفل حكم الفراعنة للأراضي المقدسة، إذ ثبت من خلال رسائل تل العمارنة السبع أن مدينة أورشليم خضعت لفرعون مصر أمنحتب الثالث (حوالي 1413 قبل الميلاد)، وبذلك ظل الفراعنة يحكمون فلسطين عن طريق ولاة من أهلها مقابل دفع الجزية.
هجرة اليهود نحو فلسطين
سيكون من المفيد أن نلقي الضوء على الهجرة الأولى لليهود/الإسرائيليين نحو أرض فلسطين، وقد تزامنت مع هجرة الهكسوس والحوريين في الفترة ما بين 2100-2000 قبل الميلاد، وكان على رأس هذه الهجرة سيدنا إبراهيم الخليل الذي تروى التوراة أنه حل بأرض كنعان (فلسطين) غريبا بمعية ابن أخيه لوط وعائلتيهما، وعاشوا وسط الكنعانيين وتعلموا لغتهم، ويرجح أن سيدنا إبراهيم تسمى بالعبراني لعبوره نهر الأردن في طريقه إلى فلسطين، وأعقب ذلك هجرة العبرانيين من أرض فلسطين إلى مصر، وهي الهجرة التي ذكرها القرآن في سورة يوسف، بناء على دعوة العزيز (النبي يوسف عليه السلام) لأبيه يعقوب عليه السلام. فاستقروا في محافظة الشرقية وكان عددهم حوالي السبعين نفرا، واستمر بقاءهم في مصر حوالي 430 عاما، ثم جاءت الهجرة المعكوسة من مصر إلى فلسطين بقيادة النبي موسى عليه السلام، وهي الهجرة التي اعتبرها دارسو التاريخ البداية الفعلية لتاريخ اليهود في الأرض المقدسة، ومن ثم استؤنفت فصول الصراع اليهودي العربي بين الاسرائيليين من جهة والمديانيين والفلسطينيين من جهة أخرى، ويرى الكتاب الأمريكي ستبمبسون جورج أن بني يهودا وبني شمعون تمكنوا من حرق مدينة القدس وأسروا بعض سكانها اليبوسيين، لكنهم فشلوا في اختراق الحصن القائم على جبل صهيون، وما لبث أن استعاد اليبوسييون زمام الأمر فأعادوا بناء المدينة وحكموها خلال عهد القضاة وإبان عهد الملك شاؤول، لدرجة أن اليهود لم يعد لهم وجود بالمدينة إلا بعد أن استولى عليها الملك داود سنة 1006 ق.م. ولم يكن يخفى على النبي داود الأهمية الاستراتيجية للقدس، فهي من ناحية ذات موقع طبيعي يوفر لها الحماية ولسكانها، إضافة إلى أنها تتوسط فلسطين، هذا فضلا عن أهميتها السياسية المتمثلة في حيادها لكونها تمنعت عن الأسباط، إذ كانت تقع بين الأراضي التي احتلها سبطا يهوذا وبنيامين، كما أن موقعها أتاح لها السيطرة على خطوط المواصلات الرئيسية بين الشمال والجنوب. وهذه الأسباب مجتمعة هي التي دفعت النبي داود إلى نقل عاصمة دولته من مدينة الخليل (كانت تدعى جبرون في ذلك الوقت) التي بقي يحكم فيها مدة سبع سنين ونصف السنة، إلى أورشليم التي بقي فيها مدة 33 سنة، إلا أنه رغم تعاظم نفوذه ذلك، لم يستطع الملك داود أن يجلي اليبوسيين المتمسكين بأرضهم.
إبان عهد الملك سليمان الحكيم، قام هذا الأخير بمد الأسوار شمال قلعة داود وأنشأ عدة تحصينات بالمدينة، كما شيد لنفسه قصرا فخما على تل «أوفيل» وحصنه بأسوار منيعة قصد حمايته.