شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

مُترجم فوق العادة..

يونس جنوحي

 

في أرشيف عدد من الدول الأجنبية والحكومات، يتوفر أرشيف هام عن المغرب، قلما انتبه إليه أحد. لكن ما هو أثمن من الوثائق الحكومية والمراسلات الرسمية، هو ما كتبه الصحافيون والرحالة والمغامرون.

هؤلاء نوعان. النوع الأول يُبالغ قليلا لكي يبيع كتاباته. النوع الثاني يبالغ كثيرا، وقد يؤلف الحكايات، وهؤلاء هم الأخطر.

الموظفون الرسميون كتبوا كثيرا عن المغرب بعد انتهاء مهامهم داخل الإيالة الشريفة. كانت بريطانيا في القرنين الماضيين ترسل وزيرا من الحكومة لكي يقضي مدة في طنجة الدولية رغم وجود بعثة قنصلية. واثنان من هؤلاء الوزراء كتبا عن تجربتهما في المغرب. أحدهما هو السيد «دريموند هاي». وعندما توفي كتبت زوجته هي الأخرى عن تجربتها المغربية. وكان الكتاب وصفا للحياة الاجتماعية للمغاربة، والمغربيات خصوصا، وبعيدا نسبيا عن هموم السياسة.

شهرة السيد هاي تكمن في أنه عاصر المولى الحسن الأول وأخر تقدم فرنسا نحو المغرب لعشرين سنة. وحده اسمه كان يغضب رؤساء فرنسا ووزراءها. فالرجل لم يكن وزيرا فقط، وإنما كان عارفا بخبايا الشخصية المغربية ويعرف متى يقترح اتفاقية على القصر، ومتى يلزم مكتبه حتى لا يغضب المغاربة منه.

هناك مترجم آخر كتب عن المغرب. واسمه ألفريد إيروين. وأول مهمة تعرف من خلالها على المغاربة، كانت عندما رافق البعثة الرسمية المغربية إلى لندن ليترجم تهاني المغرب سنة 1901 بمناسبة جلوسه على العرش البريطاني.

هذا المترجم تعلم اللغة العربية في الشرق. وعندما جرى تعيينه لكي يترجم كلمة الوزير المغربي المهدي المنبهي، ومرافقيه في الوفد، لم يقاوم الفضول الذي تملكه للتعرف على الوزير عن قرب، وقطع البحر مرة أخرى إلى طنجة لكي يحل ضيفا على الوزير.

ورغم أن وفد المنبهي كان يضم شخصيتين أوروبيتين، أشهرهما القايد ماكلين الذي صار مغربيا ودفن في المغرب بعد ما يقارب ثلاثة عقود في خدمة المخزن، إلا أن الرسميين اختاروا مترجما محترفا للمهمة، ووقع الاختيار على إيروين.

هذا الأخير كان فألا سيئا على الوزير المنبهي. فعندما لبى دعوة زيارة المغرب، كان المنبهي في قلب انقلاب سياسي للإطاحة به. وبمجرد ما أن وصل الى المغرب بحرا، عائدا من هذه المهمة إلى لندن، حتى تخفى عن الأنظار. فقد وصله خبر الإطاحة به من طرف وزراء السلطان واتهامه بالاختلاس.

تأجل اللقاء بين الوزير المنبهي والمُترجم لقرابة عامين إلى أن أطيح فعلا بالوزير وهرب بجلده وأمواله من فاس إلى طنجة ليستقر في قصره الشهير.. وعندها زاره إيروين، كان الوزير يملك الكثير من الوقت إلى درجة أنه لم يكن يفارق ضيفه إلا لأداء الصلاة.

كان مؤسفا ألا يكتب إيروين مذكرات الوزير المنبهي. فقد بدأ هذا الوزير الأسطوري حياته مخزنيا ينقل الرسائل ويقف عند الباب في انتظار الجواب، ليترقى بعد وفاة الصدر الأعظم باحماد ويصبح منذ 1900 وزيرا فوق العادة ويتضايق منه الوزراء الذين ورثوا الوزارة بالنسب ليقرروا الانقلاب عليه.

ولولا فشله في مواجهة الثائر بوحمارة، لبقي المنبهي وزيرا للحرب والخارجية والداخلية لسنوات أخرى..

في منفاه الطنجاوي، تعلم المنبهي لعب الگولف والتنس. ويقول عنه المترجم إيروين في دفاتر ملاحظاته إنه يفهم في العطور الباريسية حتى لو كان مصابا بالزكام! ويملك مجموعات نادرة من الأواني الخزفية ويعارض بشدة شراء الديكورات والتماثيل الصغيرة ويرفضها عندما يهديها له ضيوفه، ويخبرهم أنها محرمة. لكنه في الوقت نفسه لم يجد حرجا في مشاركة الدبلوماسيين احتفالاتهم بالقداس ورأس السنة الميلادية، بل كان يهديهم قطيعا كاملا من الديكة الرومية.

لو أن مشروع المترجم إيروين في الكتابة عن المغرب اكتمل ولم يتوقف عند مقالات يتيمة في الصحف، لا يتجاوز محتواها بضع صفحات متفرقة، لربما توفرت لنا قراءة فريدة عن كواليس مغرب القرن التاسع عشر وفترة التقارب البريطاني مع المغرب بعد 1894 لكن بدا أن إيروين شُغل بشيء ما.. أو لنقل بأشياء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى