
بقلم: خالص جلبي
أي طاقة في هذا الوجود هي بين ثلاث حالات: الكبت والانفلات والتنظيم. وينطبق هذا على قوى الطبيعة، كما ينطبق على قوى النفس، وهكذا فالسدود هي عملية ضبط وتنظيم لطاقة الماء بين شح المياه في عام، والفيضانات المدمرة في عام آخر. كذلك الكهرباء فهي بين حالة الصواعق الحارقة، أو القوة المجهولة، واستطاع الذكاء الإنساني تسخير هذه الطاقة بأفضل من قصة (علي بابا والمصباح السحري والجني)؛ حيث طوَّع هذه القوة الماردة والتي تشكل إحدى قوى الوجود الخمس الرئيسية (1) في سلك رفيع نحيف ليرفع المصعد، وينير المصباح، يرن التلفون، ويضيء التلفزيون، يستقبل الفاكس، ويتوهج الكمبيوتر.
كذلك هي الحال مع قوى النفس وغرائزها؛ فالغريزة الجنسية هي في حالة توتر بين شبق الشهوة وبرود الجنس، بين هلوسات الجنس والعفاف، بين الإفراط والتفريط، بين الوقاع بأشد من الأكباش، والعنانة المحطمة والعجز الجنسي المؤلم والمحير حتى للأطباء (2).
إن استراتيجية الصيام تجاه طاقات النفس هي إنشاء (الذات المنتظمة) التي تصقل (الإرادة)، من خلال رفع التوتر في مستوى (المثل الأعلى)، كي يتم ضبط الغرائز وتنظيمها، ومنها الطاقة الجنسية التي تُكسر حدتها ويَسهل لجمها ويزداد تطويعها. وبقدر ما يملك الإنسان نفسه بقدر ما يملك العالم.
في نهاية عام 1493 م، بعد عام واحد من سقوط غرناطة ورحلة كولومبوس لاكتشاف ما سمي بالعالم الجديد وما هو بجديد، حدثت واقعة عسكرية سخيفة في أوروبا لم يأبه لها التاريخ كثيرا، وحدثت العشرات منها في أوروبا، بدون أن تترك أية ذيول، وهي حادثة استيلاء الملك الفرنسي «كارل الثامن» على مدينة «نيابل»(3)، إلا أنها فجرت في ما بعد قنبلة مرضية تاريخية لم يتعاف منها الجنس البشري، ويتمكن من السيطرة عليها، إلا بعد مرور ما يزيد على أربعة قرون! فما الذي حدث في هذه الحملة العسكرية المشؤومة يا ترى؟
تقول كتب التاريخ إن هذا الملك كان يقود حملة عسكرية قوامها 30 ألف جندي فيهم خليط من الجنود المرتزقة من كل أوروبا، منهم الألمان والإسبان والسويسريون، وبالطبع كانت القوة الضاربة من الجنود الفرنسيين، وفي نهاية هذا اللجب جيب من الداعرات قوامه 500 أنثى، بهدف الترفيه عن هذا الجيش! ووُصِف الملك الشاب الذي كان في حدود 25 سنة بأنه كان: «ذا وجه يفيض بالشهوانية، وجسد غليظ، ورأس نادر مجوف يفيض بالبلادة، لا يعرف القراءة والكتابة ولا الحساب، كل ما عرفه وبرع فيه وأتقن فيه الصنعة كعشرة أبالسة هو السفاد، حكم فرنسا مدة 15 عاما كاملة كغول بشع، ومات عن عمر يناهز 28 عاما في عام 1498 م، بدون أن يترك هذا الأحمق الشبق أي أثر سياسي في مملكته، لم تشع من فنائه أية نبضات ثقافية أو روحية، وكل تطلعاته في الحياة كانت التقلب في فراش الحب مع آلاف الإناث من كافة الأصناف والأشكال والأعمار» (4).
ومما يذكر التاريخ وهو أمر لافت للنظر أن البابا ألكسندر السادس الذي لم يكن بصاحب الذكر الطيب، خرج لاستقبال الملك الفرنسي ليحتفل بدخول روما، قبل أعياد الميلاد، وليُمَتِّع الجيش العرمرم بتقديم آلاف الفتيات للترفيه، حيث تمت عربدة جنسية كاملة لمدة شهر بالتمام. ثم يذكر التاريخ دخول الملك الفرنسي مدينة نيابل، وممارسة الحب فيها أيضا بدون حدود. وتماما في عام 1496 م ومع موت الملك الفرنسي كارل الثامن، قائد الحملة العسكرية، وقبطان سفينة الدعارة هذه؛ حدث تحول خطير مع تشرذم هذا الجيش في كل أوروبا، وهو انفجار مرض الزهري أو (الإفرنجي = SYPHILIS) في كل أوروبا، بل وفي العالم كله.
وصف شاهد في ذلك العصر منظر المصابين مع نهاية القرن الخامس عشر هو «جوزيف جورنبيك فون بوركهاوزن»، سكرتير القيصر «مكسيميليان»، على النحو التالي: «البعض كان مغطى من مفرق الرأس حتى أخمص القدم باندفاعات جلدية حاكة مثل الجرب، وطائفة ثانية تحمل اندفاعات جلدية محددة، ولكن في قساوة لحاء الشجر، آخرون قد غطت أجسامهم التقيحات والبثور والفقاعات، وطائفة قد علت البثور وجوههم والآذان أو الأنف، بما يشبه الأورام والخوابير في شكل ثآليل قاسية خشنة كبيرة الحجم، مع رائحة تذكر بالطاعون» (5).
المراجع:
(1) يقوم الكون على خمس قوى رئيسية هي: الكهرباء، القوة المغناطيسية، الجاذبية، قوى النواة القوية، وقوى النواة الضعيفة، واستطاع مكسويل في القرن التاسع عشر دمج قوتي الكهرباء والمغناطيس في قوة واحدة، هي القوة (الكهرطيسية). راجع عدد «قصة الكون» إصدار سلسلة اليونسكو، العدد: 280 ـ شتنبر عام 1984م. راجع مقالة «العالم الأكبر والعالم الأصغر» بقلم «ديمتري نانوبولوس»، ص: (8): «وتتفاعل هذه المكونات الأساسية للمادة بفعل أربع قوى رئيسية على الأقل وهي: قوة الجاذبية التي تمسك الأرض في مدارها حول الشمس مثلا، والقوة القوية التي تبقي الكواركات داخل البروتونات، والقوة الكهرطيسية التي تحفظ الإلكترون في مداره حول نواة الذرة، والقوة الضعيفة المسؤولة عن انحلال النيوترونات الذي يعرف أيضا باسم انحلال بيتا». (2) من مشاهداتي الطبية الميدانية حالة عنانة عند شاب يبلغ من العمر 28 سنة، ظهر في تاريخه المرضي أنه كان يقوم بالاستمناء قريبا من خمس مرات يوميا، فلا غرابة إذا استهلك قواه الحيوية وأصيب بالعنانة. (3) كتبت التفاصيل المأساوية لقصة انفجار وانتشار (مرض الحب الفرنسي)، والذي سمي في ما بعد بالمرض الأوروبي (الإفرنجي ـ syphilis)، في مجلة «الشبيغل» الألمانية (Der Spiegel) واسعة الانتشار في العدد 40 – 44 من عام 1985م على شكل مسلسل. (4) مات الملك المذكور بـ(مرض الحب) عن عمر صغير وكان موته بداية طوفان مرض الإفرنجي في أوروبا، كما مات العديد بمريض الإيدز الذي ضرب الأرض في الثمانينيات من القرن الفائت، وليس له علاج ولا لقاح حتى اليوم، المصدر السابق نفسه مجلة «الشبيغل» = ترجمتها «المرآة». (5) المصدر السابق ذاته.
نافذة:
استراتيجية الصيام تجاه طاقات النفس هي إنشاء الذات المنتظمة التي تصقل الإرادة من خلال رفع التوتر في مستوى المثل الأعلى كي يتم ضبط الغرائز وتنظيمها