الرأي

نظرية داروين (1 ـ 4)

بقلم: خالص جلبي

مع خريف عام 2008 تناهى إلى سمعي أن الكنيسة اعترفت وأقرت أخيرا بأن نظرية داروين صحيحة، ولا أعرف تماما صيغة الاعتراض على النظرية، لأنه قبل فترة احتدم الصراع في أمريكا حول تدريس نظرية داروين واستبدالها بفكرة التصميم الذكي، وهو نصف الطريق أو ربعه إلى نظرية داروين، في الوقت الذي لم تطرح النظرية للنقاش عندنا.
ولذا فالكنيسة سبقت العالم الإسلامي في هذه النقطة، مع أن ابن خلدون تحدث عنها ببساطة في مقدمته، وأن الخلائق تتطور من بعضها البعض. وهذا يحكي قصة توقف العقل الإسلامي، متجمدا في مربع الزمن أيام المماليك البرجية، وما نراه من انقلاب الجمهوريات الثورية إلى جملوكيات، يؤكد التحنط في مربع الزمن لشعوب تبتعد عن الحداثة مسافة خمس سنوات ضوئية.
ونرجع إلى الاعتراف الكنسي فهو جيد، وسبق هذا أيضا الأخذ بنظرية الانفجار العظيم، وتبرئة جاليليو، كما برأ الكنيس اليهودي سبينوزا من الهرطقة، ولكن الكنيسة ترددت في تبرئة جيوردانو برونو الذي أحرق في مطلع القرن السابع عشر حيا مثل فروج مشوي، لأن نظريته تنسف مركب الأقانيم من مفاصله فلا يبقى مركب وأقنوم.
وقامت الكنيسة بخطوة أكثر تقدمية، حين سمحت للباحثين بالدخول إلى دراسة 4500 ملف من أيام محاكم التفتيش، ما يعتبر بيريسترويكا كنسية، وتبرأ البابا من محاكم التفتيش، كما نتبرأ نحن من التثليث. في حين أن الفكر الديني عندنا ما زال يناطح السحب بقدسيته، فلا تمسه يد النقد والمراجعة، فيفرز تشددا وإرهابا ويقتل عقلا ونقلا، ويجعل الدين ضد الحياة، وضد المرأة، وضد هندسة البيوت وإنشاء الحدائق ونظام الأسواق، بل وتكريس الأنظمة الثورية على شكل بيعات تذكر بأيام سعيد جقمق من المماليك البرجية والبحرية. ولم يتم التخلص من الطاغوت البعثي على الأقل في شقه العراقي، إلا بالصدمة والدهشة التي عملتها أمريكا من خلف البحار، على أمل كسر جمود وتحنط الوضع العربي، فلم يزدد إلا بؤسا وخسفا ومسخا وريحا حمراء.
وقصة داروين تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، ففي عام 1859 صدر كتاب «أصل الأنواع»، وفي عام 1871 صدر كتاب «أصل الإنسان» فاهتزت الأوساط العلمية، ورجت رجا فكانت هباء منبثا. وهاجمه أكثر الناس وتبرأت منه الكنيسة، واعتبرته شيطانا مريدا، مع أن الرجل لم يشكك في الخلق الإلهي، بل تحدث عن كيفية حدوثه هل كان دفعة واحدة أم أطوارا؟
وهي النقطة التي تطرق إليها (عبد الحميد الجسر)، صاحب كتاب «قصة الإيمان»، الذي فرق بين الأمرين: أن يكون الخلق دفعة واحدة أو بالتدرج. ومسألة الخلق الإلهي لا يناقشها أحد؛ فكما شاءت إرادة الله أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، فهو ينطبق على خلق الإنسان وفق صيرورة خاصة به. والقرآن ذكر الإنسان في أوصاف متباينة بين الحمأ المسنون والطين اللازب وصلصال كالفخار، وتحدث عن مراحل تطور الجنين طبقا عن طبق. ولعل أهم الانقلابات في الفكر الإنساني، التي حدثت في تلك الأيام، وتركت بصماتها على الفكر الإنساني حتى اليوم، هي ما قام به ثلاثة: (كوبرنيكوس) و(فرويد) و(داروين).
ـ ففي (الكوسمولوجيا) نقض (كوبرنيكوس) بناء العالم، ولم تعد الأرض مركز الكون. ولم تعد الشموس والكواكب تدور حولها؛ بل تحولت إلى كوكب تافه، في عالم لا يكف عن التوسع. مع إمكانية وجود الحياة في كواكب أخرى. وما يمنع الاتصال هو بعد المسافات. والله على جمعهم إذا يشاء قدير.
ـ وفي (السيكولوجيا = علم النفس) اكتشف (فرويد) أن النفس طبقات مثل طبقات الأرض، تضم (الوعي) و(اللاوعي) و(ما فوق الوعي). والأخيرة، أي طبقة ما فوق الوعي، تشبه المادة الرمادية في قشر المخ، وهو في غاية الرقة والنحافة، لا يزيد سمكه عن 6 مليمترات، ولكنه مركز وهج العبقرية ولحظات الوعي الفائقة ولمعات الأفكار الإبداعية. و(الوعي) عندنا لا يزيد على 5 في المائة من مكونات الشعور. وما يقودنا في كثير من المواقف هو (اللاشعور). ومخزن (اللاشعور) هائل يضم الخبرات والعواطف والسلوك. وعندما يطل اللاشعور إلى الأعلى، فهو يبرز بقرون جديدة من الأحلام والعقد النفسية، وسبر غور (اللاشعور) يحرر الإنسان من العقد.
ـ وفي مجال (البيولوجيا) قام (داروين) برحلة علمية في سفينة (بيجل) عام 1831، ومع دجنبر عام 2003 نقل المكوك الفضائي الأوروبي العربة بيجل (الثانية) إلى سطح المريخ، اعترافا بفضل داروين بعد 125 عاما. ودامت رحلة داروين خمسة أعوام، ولكن أكثر فصولها إثارة هي تلك الأسابيع الأربعة التي قضاها في جزر (الجالا باجوس) بأمريكا الجنوبية التي أوحت له بنظريته، في أن التطور يسوق الخلائق، وأنه لا شيء ثابت في الطبيعة إلا التغير. وهي الفكرة الفيزيائية نفسها في النسبية، ولكن فكرة (الآلية) أعيته، فهو أدرك أن التطور هو الذي يحكم البيولوجيا، ولكن بأي آلية يتم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى