شوف تشوف

الرأيالرئيسية

نقد السرديات الليبرالية

 

 

عبد الإله بلقزيز

 

لم ينقضِ بعد زمن السردية الليبرالية عن المجتمع والاقتصاد والسياسة منذ بدأ تدبيجُها، في نهايات القرن السابع عشر، مع جون لوك وشُرِع في التنظير لها مع آدم سميث  ليُستكمل صوغها، في القرن 19، مع ريكاردو وجون استيوارت مل. استمرت تنمو وتتكيف مع ظروف الإخفاق أو التحدي، وما برحت تفعل ذلك حتى اليوم على الرغم من الهزات العنيفة التي تعرض لها النظام الاجتماعي- الاقتصادي الذي به اقترنت وعنه دافعت. وليس في قدرة هذه السردية الليبرالية على التجدد ما يُستغرب له، وإنما هو تجدد يَرد إلى أن النظام الرأسمالي الذي تستند إليها المقالة الليبرالية ما برِح يتمتع بوجودٍ يتأقْلم بنجاح مع أزماته التي تَعْرِض له بين فينة وفينة. هكذا تستمر السردية باستمرار النظام الذي تقوم عليه، على الرغم مما في استمرار ذلك النظام من فادح الغرامات التي تدفعها البشرية…

تزعم السردية الليبرالية، في تبريرها الرأسمال والتملك، بأن هذين يعبران عن مبدأ أساس في الوجود الإنساني، وعن حق طبيعي، هو الحق في الحرية. وليس من ترجمة لهذا الحق أجْلى من حيازة الحق في التملك؛ هذا الذي قاد مع الزمن  إلى ميلاد الرأسمال وبالتالي، إلى توسع النظام الرأسمالي في معاقله الأوروبية. إن حب التملك، أو الرغبة فيه، هو – قبل أن يكون حقاً طبيعياً (صار، مع قيام الدولة، حقاً مدنياً) – نزعة طبيعية في الإنسان أو ميل فطري تكون لديه قبل أي اكتساب. لذلك ليستِ المُلكية مجافية للطبيعة الإنسانية ولا اصطناعاً لطبيعة ثانية. وإذا كان سعي الإنسان الدائب إنما هو لإجابة حاجاته – تقول السردية – فإن الإجابة تلك تتحقق من طريق العمل والتكسب، وليس مثل النظام الاقتصادي الحر ما يشجع المرءَ على الكسب وتعظيم المكاسب وإشباع الحاجات.

ليس للدولة الحق – تقول المقالة الليبرالية – في مصادرة حق التملك، أو حرمان الفرد من حقه في الملكية الخاصة؛ فهذه، في العقيدة الليبرالية، موضع تقديس واحترام لا تضاهيها فيهما إلا الحرية (وحرية التملك فرع منها). بل ليس للدولة حتى إن تزاحم الأفراد (الخواص) في التملك والانخراط في عملية الإنتاج؛ لأن ميدان الإنتاج والاقتصاد – في نظر هذه العقيدة – ليس ميدان الدولة ولا من مشمولات عملها، وإنما هو مجعول، حصراً، للمجتمع وأفراده. كل ما على الدولة أن تفعله – تقول السردية – هو أن تحميَ الحق في الملكية الخاصة وبالتالي، الحق في تنمية المصالح الخاصة، أما المصلحة العامة – التي تعتقد الليبرالية أن الدولة تتخذها ذريعة للسيطرة على الاقتصاد والإنتاج – فتتحقق من طريق تحقيق المصالح الخاصة وتعظيمها…

هذه هي الفكرة الأساس التي تقوم عليها السردية الليبرالية ويقوم عليها، في الوقت عينِه، تسويغها مشروعيةَ نظام الاقتصاد الحر. ومع أن الليبرالية قدمت نفسها، كنظام اجتماعي- اقتصادي، في طبعات منها متعددة (ليبرالية تنافسية، ليبرالية احتكارية، ليبرالية اجتماعية، ليبرالية متوحشة)؛ ومع أن بعض تلك الطبعات/النماذج مزج فيه بين المبدأين الليبرالي والاجتماعي، بين التملك الخاص وتدخلية الدولة، فأنجب تجربة فريدة في تاريخ الليبرالية هي تجربة دولة الرعاية الاجتماعية، إلا أن الأساس الفلسفي للفكرة الليبرالية ظل هو نفسه من غير أن يشهد على تعديلٍ كبير. أما أن تكون الليبرالية قد انتبهت، بعد أزمة العام 1929 أو في ظل صيغتها الكينزية، إلى ضرورة أخذ الاجتماعي في الحسبان، وضخ بعض التوازن في عملية توزيع الثروة، وإقرار مبدأ تدخلية الدولة في الميدان الاقتصادي- الاجتماعي فما ذلك كله إلا من باب إعادة إنتاج النظام الليبرالي نفسه، لا للحد منه…

تعرضت هذه السردية الليبرالية لنقد حاد منذ منتصف القرن التاسع عشر؛ أي منذ اكتمل بناؤها الذهني كنظرية في الاقتصاد والاجتماع، ثم منذ اكتملت سيطرتها على المجال الأوروبي، منتقلة من معقلها البريطاني، وصيرورتها النظام الاجتماعي- الاقتصادي السائد. وفي كل مرحلةٍ من مراحلها، كانت تجد مَن يفند دعواها: كارل ماركس/إنغلز في طور المنافسة الحرة؛ لينين في طور الاحتكار؛ ماركيوز وبيتلهايم وسويزي في مرحلتها الكينزية؛ ثم سمير أمين في مرحلتها العولمية…إلخ. هؤلاء مجرد أمثلة لجهد نظري نقدي بُذِل على مدار مئة وسبعين عاماً في مقارعة السردية الليبراليّة وإماطة النقاب عنها. لكن مشكلة الإنسانية مع الليبرالية ليست – أو قل لم تعد – في توفير جواب فكري عن خطابها، بل في الإخفاق في العثور على جوابٍ مادي: اجتماعي- اقتصادي يتجاوزها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى