شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

هل يدمر ترامب العولمة؟

 

د. خالد فتحي

هل كانت أمريكا، القوة العظمى، ترزح تحت نير استعمار خفي دون أن يتنبه العالم؟ وهل دقت ساعة التحرير ليعلن ترامب، الثاني من أبريل، يوما للانعتاق الاقتصادي، فيُدرج اسمه في سجلات التاريخ كـ«جورج واشنطن» جديد، بُعث ليحرر أمريكا من أغلالها؟

من كان يجرؤ على التكهن، قبل بضعة أشهر خلت، بأن أمريكا، بجبروتها الأسطوري وتفوقها الكاسح، ستخرج لتشكو مرارة استغلال الأصدقاء قبل الخصوم، وتعلن حربا تجارية لا هوادة فيها ضد العالم أجمع؟

ببرود يشبه نادل مقهى يستعرض قائمة الأسعار، كشف ترامب لائحة الدول التي حلت عليها «لعنة» الرسوم الجمركية، مفصلا العقوبات لكل منها. يا لَلعجب! لقد غدت السياسة الدولية في عهده معادلة شديدة البساطة، تكاد تُختزل في صراع بدائي بين أمم لا تعدو كونها قطعانا من الذئاب المتناحرة، يحكمها قانون الغاب.

حين يتعلق الأمر بالمال، تتلاشى الفروق بين الصديق والعدو في قاموس ترامب؛ بل إنه يكشر عن أنياب أشد قسوة في وجه الحلفاء مقارنة بالخصوم. مبدأ وحيد يحكم بوصلته: أي عجز تجاري مع أي دولة، هو بمثابة سرقة موصوفة للولايات المتحدة. لم يتردد في توجيه سهامه نحو فرنسا وألمانيا، ولم تشفع لإيطاليا زعيمة اليمين ميلوني، بل عاقب الاتحاد الأوروبي برمته، متهما الأوروبيين صراحة بالاحتيال على الأمريكيين طيلة نصف قرن. وطالت سهامه الصين، خصمه اللدود، واليابان، حليفه الاستراتيجي، وتايوان، وفيتنام، حتى إسرائيل لم تسلم من هذه الرسوم العقابية.

إن ما نشهده اليوم هو زلزال جيوسياسي غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقطيعة مدوية مع عقيدة التبادل الحر التي لطالما تزعمتها أمريكا ودافعت عنها. أفليست هي من قادت ركب الاقتصاد العالمي المفتوح والتجارة الحرة لعقود؟
يبدو أن ترامب أحرق كل المراكب، وأنه ماضٍ قدما في تبني سياسات حمائية متشددة، آخذا أمريكا نحو عزلة اقتصادية، تناقض جوهر عقيدتها الليبرالية الكلاسيكية. إنه يسير، بكل عزم، نحو تدمير أسس النظام العالمي القائم، وإعلان نهاية «العولمة السعيدة» التي بشرت بها أمريكا ذاتها. فالعالم، من منظور ترامبي بحت، لم يعد قادرا على استيعاب هذا القدر من الانفتاح.

يتصرف ترامب بمنطق الثائر الذي يرى أمريكا ضحية «لسذاجتها وطيبتها» المفرطة في تعاملها مع أصدقائها. وكرد فعل، يرى أن من حقها المطلق أن تنكفئ على ذاتها وتتقوقع، فهي الأمة الوحيدة في التاريخ – حسب رؤيته-  القادرة على الاستغناء التام عن العالم الخارجي. إنه يسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، إلى عصر العزلة الأمريكية «المجيدة».

يطمح ترامب إذن إلى استعادة الصناعات المهاجرة إلى قلب أمريكا، وإعادة بناء قاعدة صناعية صلبة، مع تحفيز سوق العمل في قطاعات متعددة. يهدف بذلك إلى تعزيز القدرة التنافسية لـ«بلاد العم سام»، خاصة في الصناعات التكنولوجية والعسكرية المتقدمة، ومنح الاقتصاد الأمريكي دفعة قوية تنعكس رخاء على مواطنيه. لا يكترث إذا ما انكمش الاقتصاد العالمي، أو اهتز استقرار العالم جراء سياساته؛ فكل ما يهمه هو استعادة «أمريكا العظمى» لهيمنتها وقوتها. ومع ذلك، يحذر المحللون من أن هذه المقامرة محفوفة بمخاطر جمة؛ فبينما قد تحظى بتأييد شعبي من فئات تضررت من العولمة، فإنها قد تؤدي في المقابل إلى تفاقم التوترات والانقسامات الاجتماعية داخل الولايات المتحدة نفسها، مع تنامي قلق المواطنين على وظائفهم ومستقبل غامض يلوح في الأفق.

لكن السؤال الأكثر إلحاحا يبقى: هل سيمضي ترامب في هذه المغامرة حتى النهاية، ممارسا سياسة «حافة الهاوية» بجرأة؟ أم أن كل هذا ليس سوى مناورة تكتيكية لتحقيق أهداف أخرى؟ ربما يهدف من خلال فرض رسوم متفاوتة إلى إجبار الدول على التفاوض معه بشكل فردي، مستهدفا بذلك تفكيك وحدة الصف الأوروبي، إذا ما تحركت دوله منفصلة لمواجهته. فهو لا يخفي مقته للقيم الأوروبية المعاصرة، التي يراها تجسيدا لـ«إمبراطورية الووك»، الإيديولوجية التي يزدريها. ولعله يلقي بهذه «القنبلة النووية الاقتصادية» في وجه أوروبا، لصرف انتباهها عن جراحها النازفة في أوكرانيا.

تكمن قوة ترامب الحقيقية في ضبابية نواياه، وعدم قدرة الخصوم والحلفاء على التنبؤ بخطواته التالية. سحب كثيفة من الغموض تحيط بسياسته، ويبدو العالم بأسره حائرا، لا يدري على أي إيقاع يرقص مع هذا الزعيم المتقلب.

وأخيرا، يحق لنا أن نطرح تساؤلا وجوديا: هل تُعد قرارات ترامب هذه نذيرا بقرب انهيار المعسكر الغربي، على غرار ما حدث للاتحاد السوفياتي عام 1991؟ هل استشعرت الولايات المتحدة بأن أفول الغرب بات وشيكا ومحتوما، فآثرت النأي بنفسها عن تداعياته المدمرة من اضطرابات وأزمات وحروب، مدركة أن مركزية العالم الغربي ستجعل من سقوطه كارثة كونية؟ هل قررت أمريكا أن تتحصن خلف محيطاتها، في انتظار أن يُفني العالم نفسه، لتعود بعدها وتحكم ما تبقى من حطامه؟

في المقابل، قد لا تعدو كل هذه السيناريوهات كونها أضغاث أحلام. ربما تقود سياسات الانغلاق هذه إلى تآكل نفوذ أمريكا على الساحة الدولية، فتخسر حلفاءها التقليديين دفعة واحدة، وتتقلص قدرتها على التأثير في التوازنات العالمية، مما قد يغري خصومها بالتعاون لتقويض مصالحها، ويفتح الباب على مصراعيه لصعود قوى منافسة، كالصين والهند، لملء الفراغ.

لا أحد يملك يقينا بما يخبئه المستقبل القريب، ولكن ما بتنا نعرفه الآن، على الأقل، هو أن الليبرالية والحداثة الغربيتين تواجهان أزمة وجودية وقيمية عميقة. ولعل بداية معالجة أوجاع هذا العالم تكمن في مساءلة هذه الإيديولوجيات حول مساراتها المنحرفة، وحول هذا المصير المجهول الذي تُعِدّ له البشرية جمعاء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى