
خالد رمضان عبد اللطيف
درجت السياسة الأمريكية منذ سنوات طويلة على أنه عندما يترك الرؤساء مناصبهم، يسارع بعض الساسة والمفكرين لوراثة النموذج الفكري للرئيس السابق، وأبرز مثال على ذلك رونالد ريجان (1911–2004)، الجمهوريّ الذي احتمل إرث جون كينيدي (1917- 1963)، وكذلك باراك أوباما الديمقراطيّ الذي ادّعى إرث ريجان. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة تثور تساؤلات حول مستقبل «الإرث الترامبيّ»، ومن يحمله إذا خسر الرئيس الحالي دونالد ترامب الانتخابات، في الوقت الذي تدور فيه مناقشات حادة بين منظري السياسة بشأن تأثير منهجه المثير للجدل في تاريخ السياسة الأمريكية؟
كثيرة هي أوجه الشبه بين «الترامبيّة» و«المكارثيّة» التي ظهرت خمسينيات القرن الماضي، وأصبحت مرادفة في الوعي الجمعي الأمريكي للتعصّب الهستيري، بعدما بنى جوزيف مكارثي (1908– 1957) حياته السياسية، مثل ترامب، على الغوغائية والترهيب، بدلًا عن الإنجازات الملموسة أو الأفكار المتماسكة، والآن، وبعد أكثر من نصفِ قرنٍ على وفاة السيناتور الجمهوري مكارثي، يتهم التقدميّون المحافظين بالمكارثيّة، والعكس بالعكس، ويندرُ أن يقبل أيّ منهم باعتناق هذه التسمية، ولهذا فقد تؤدي خسارة ترامب المحتملة لاعتبار «الترامبيّة» مصطلحاً سيئًا، بوصفها شكلاً من أشكال التعصب والقمع، وتوحي بعدم احترام قواعد اللعبة الديمقراطية، وهو أمر مرير يتجاوز مجرد الانقسامات الأيديولوجية بين اليمين الفاشي واليسار الشيوعي في الولايات المتحدة.
بالرغم من أن النقاش حول معنى «الترامبيّة» لا يزال مقتصراً حتى الآن على المثقفين والمفكّرين الأمريكيين، إلا أن خسارة ترامب المحتملة قد تفتح عليه النار، عبر نقل المناقشات إلى العاصمة واشنطن، وحينها سيصطدم الديمقراطيون المصرّون على التغيير الجذري، مع المحافظين القادرين على صدّه، ومن ثم سيطالب التقدميون بتغييرات هيكلية تسمح لهم بإلغاء أو تجاهل «فيتو» اليمين، الظهير الوحشيّ للسلطة.
قد تتخذ مطالب التقدميين شكلاً من أشكال الإجراءات التنفيذية الجارفة، والتي ربما تكون أكثر عنفاً من قرارات الرئيس الملياردير، وضمن هذه الإجراءات التقدمية منح صلاحيات الولاية للعاصمة واشنطن وبورتوريكو، وتعديل هيكل المحكمة العليا، إلا أن البعض سيرى في تلك التحركات أسلوباً من أساليب الترامبية الأكثر تشدداً، وسيعتبرونها تهجّماً صريحاً على طريقة اللعب العادل، ولا شك أن الليبراليين بمحاولتهم توسيع المحكمة العليا، على سبيل المثال، سيواجهون انتقادات عنيفة بتكرارهم أسلوب ترامب في ازدرائه للمؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون، وإذا فرض خليفة ترامب الديمقراطي سياسات أقصى اليسار، فإن هذا سيدلّ دلالة قاطعة على امتناع كلا الطرفين المتناحرين عن الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية.
بطبيعة الحال، سيصف التقدّميون تلك المزاعم بأنها سخيفة، وسيجادلون بأنّ جوانب معينة من نظام الحكم الأمريكي ترسّخ على نحوٍ غير ديمقراطيّ امتيازات الجماعات المهيمنة عبر التاريخ، وبهذا المنطق، لا تشكل التغييرات الهيكليّة أيّ هجوم على الديمقراطية، بل إزالة للحواجز التي تعترضها، وعلى سبيل المثال يذكرون بأن تحويل العاصمة واشنطن إلى ولاية سيمنح حق التصويت لـ700 ألف شخص، نصفهم تقريبًا من السود، الذين ما زالوا يعاملون كمواطنين لاستعمار شبه تقليدي.
في المجمل، أظهرت سنوات ترامب الأربع أنه لم يتعلم من دروس التاريخ، فكرر أخطاء الخمسينيات التي شهدت نوعا من الإرهاب الثقافي الذي تأذى منه مجموعة كبيرة من المثقفين والفنانين ورجال الفكر، ومن هؤلاء مارتن لوثر كينج، وألبرت أينشتاين، وآرثر ميللر، وتشارلي تشابلن، وغيرهم، حيث تبين لاحقا زيف ادعاءات مكارثي، فوجه إليه مجلس الشيوخ اللوم وقام بتعنيفه وأنهى حياته السياسية، وفي ما بعد، قَلَّ التأييد لمكارثي، بعدما تأكد الأمريكيون أنه غوغائي، يوزع الاتهامات يميناً ويساراً، بدون أدلة كافية، وعلى ما يبدو فإن ترامب سيلقي نفس المصير، وسيتم إسدال الستار على حقبته المثيرة للجدل.


