
في تحول دبلوماسي لافت، يعيد رسم ملامح المشهد الدولي، تتسارع خطوات الاعتراف بدولة فلسطين، مع انضمام فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا إلى قائمة الدول التي قررت رسميا دعم قيامها. هذه الموجة الجديدة من الاعترافات، والتي جاءت وسط تصاعد الحرب على غزة وتصلب الموقف الإسرائيلي، تعكس تحولا في مواقف بعض من أبرز حلفاء تل أبيب التقليديين، وتضع إسرائيل أمام عزلة متنامية وضغوط غير مسبوقة لإحياء حل الدولتين.. وسط توقعات بفرض إسرائيل عقوبات دبلوماسية واقتصادية على باريس، كرد على موقفها الجديد.
إعداد: سهيلة التاور
تتصاعد موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، حيث تتحضر فرنسا إلى جانب عشر دول أخرى لإعلان موقفها رسميا، خلال قمة استضافتها الأمم المتحدة في نيويورك، والتي خُصصت لبحث آفاق حل الدولتين في ظل الحرب المدمرة على قطاع غزة. ويُعد هذا التوجه ثمرة مساعٍ دبلوماسية استمرت لأشهر بقيادة مشتركة من السعودية وفرنسا، بهدف تكثيف الضغوط على إسرائيل، وربط أي أفق للسلام في المنطقة بتحقيق قيام الدولة الفلسطينية.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقابلة مع قناة «سي بي إس»، يوم الأحد الماضي: «إذا أردنا عزل حماس، فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية وخطة السلام المرافقة له يشكلان شرطا مسبقا، الفلسطينيون يريدون وطنا، وإذا لم نقدم لهم أفقا سياسيا سيعلقون مع حماس باعتبارها الحل الوحيد».
وتزامنا مع قرار فرنسا الاعتراف رسميا بدولة فلسطين، أعلنت بلدية سان دوني في العاصمة الفرنسية باريس أنها قامت برفع العلم الفلسطيني فوق مبنى البلدية، تأكيدا على الموقف الفرنسي الجديد.
وتتوقع باريس أن تنضم إليها دول أوروبية صغيرة، مثل أندورا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وسان مارينو، ليصل العدد الإجمالي إلى 11 دولة جديدة، وبذلك يرتفع عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 147 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، وفق إحصاءات وكالة الأنباء الفرنسية.
الاعترافات الغربية السابقة
قبل القمة بيوم واحد، شهد، يوم الأحد، تطورا بارزا مع إعلان كل من بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وهو ما مثل تحولا في مواقف بعض من أقرب حلفاء إسرائيل التقليديين.
وقال كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، إن بلاده اعترفت بالدولة الفلسطينية «لإبقاء أمل السلام حيا»، مؤكدا أن الاعتراف خطوة موازية لفرض عقوبات إضافية على شخصيات من حركة حماس.
ومن جهته، أعلن مارك كارني، رئيس الوزراء الكندي، أن كندا تعرض شراكتها لبناء مستقبل سلمي للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. في حين شدد أنتوني ألبانيز، رئيس الوزراء الأسترالي، على أن الاعتراف يأتي كجزء من جهد دولي منسق لإحياء حل الدولتين ووقف إطلاق النار في غزة.
الخطوات الإسرائيلية «العقابية»
شن تشارلز كوشنر، والد صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسفير الأمريكي في العاصمة الفرنسية، هجوما جديدا على باريس.
وكتب كوشنر في منشور على حسابه الرسمي على منصة «إكس»، إنه كان هناك شروطا وضعتها فرنسا للاعتراف مسبقا، وأضاف متسائلا: «هل ستعترف فرنسا أولا بفلسطين، وتنتظر أن تنتزع حماس سلاحها وتعتبر الأمر منتهيا؟».
ولم تكن الأولى من نوعها، فقد وجه كوشنر أيضا انتقادات للرئيس ماكرون، قبل أسابيع، بعد أن رفض في نهاية شهر غشت الماضي استدعاء وزير الخارجية الفرنسية له على خلفية خطة احتلال مدينة غزة، متهما باريس بالتقاعس في محاربة «معاداة السامية»، اتهام رفضه الإليزيه منددا بـ«خلط غير مقبول».
وتقول «لوموند» الفرنسية إن السلطات الفرنسية تتوقع ما وصفتها الصحيفة بـ«الأعمال الانتقامية» من قبل تل أبيب، مقابل الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين، الذي سيعلنه الرئيس ماكرون خلال مؤتمر حل الدولتين الذي نظمته فرنسا إلى جانب السعودية في نيويورك، بمشاركة الرئيس الفلسطيني محمود عباس عبر الفيديو، حيث رفضت واشنطن منحه تأشيرة الدخول.
وبينما اتخذ وزراء من حزب الليكود ردود فعل سريعة على تسونامي الاعتراف، يوم الأحد، من أبرزهم بتسئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذين دعوا صراحة إلى تسريع ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة. ويناقش مسؤولون إسرائيليون ما يشبه القطيعة الدبلوماسية مع باريس.
ووفقا للصحيفة، تناقش تل أبيب موضوع إغلاق القنصلية الفرنسية في القدس، وطرد دبلوماسيين فرنسيين.
ولا يقتصر الموضوع على المعركة الدبلوماسية فحسب، إذ يتوقع الفرنسيون لجوء الإسرائيليين إلى مصادرة ممتلكات فرنسية مثل موقع «قبر الملوك»، وهو موقع أثري وديني تديره فرنسا منذ القرن التاسع عشر، ويعد من أبرز الرموز التاريخية المسيحية اليهودية في القدس، في حين حذر مصدر فرنسي من أن استهداف هذا النوع من المواقع يعتبر «تصعيدا خطيرا يمس بالإرث الثقافي والديني».
وبينما تتوقع مصادر دبلوماسية فرنسية «معركة إعلامية شرسة موجهة خصوصا ضد باريس»، تتحدث المصادر نفسها عن أن الهدف لن يكون فرنسا فحسب، بل ستوجه تل أبيب رسالة ردع إلى باقي العواصم الأوروبية المترددة، من خلال إجراءاتها.
وتقول «لوموند» إن تل أبيب قد تعيد السيناريو الذي نفذته تل أبيب في ماي 2024، عندما اعترفت إسبانيا والنرويج بدولة فلسطين، حينها سحبت إسرائيل سفيريها من مدريد وأوسلو، وهاجمت رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، ووزير الخارجية النرويجي إسين إيدي بحدة، ما أدى إلى «شبه قطيعة دبلوماسية»، على حد وصف الصحيفة الفرنسية.
مواقف متباينة
رحب الرئيس الفلسطيني محمود عباس باعترافات الأحد، معتبرا إياها خطوة على طريق «السلام العادل والدائم»، لكنه لم يتمكن من المشاركة حضوريا في القمة، بعد أن رفضت الولايات المتحدة منحه ووفده تأشيرات دخول.
في المقابل، صعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من لهجته، متوعدا بعدم السماح بقيام دولة فلسطينية، وواصفا الاعترافات بأنها «تهديد لوجود إسرائيل»، كما دعا إلى مواجهة ما وصفها بـ«الدعاية الكاذبة» في الأمم المتحدة، متوعدا بعرض «الحقيقة» في خطابه أمام الجمعية العامة.
أما أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، فاعتبر أن العالم يجب ألا يخشى من ردود الفعل الإسرائيلية، مشددا على أن تل أبيب تواصل «سياسة تقضي بتدمير غزة وضم الضفة الغربية».
وبانضمام فرنسا وبريطانيا، ستكون فلسطين قد حصلت على اعتراف 4 من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي (الصين وروسيا اعترفتا منذ 1988)، فيما تواصل الولايات المتحدة معارضة الاعتراف، واصفة الخطوة بأنها «استعراضية»، وداعية إلى «التركيز على دبلوماسية جادة».
تحول كبير
أوضح عاموس هرئيل، المحلل العسكري بصحيفة «هآرتس»، أنه حتى الآن اعترفت 149 دولة بدولة فلسطينية، ويتوقع انضمام المزيد عقب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمس الثلاثاء. ومع ذلك، تتمتع فلسطين بصفة مراقب في الأمم المتحدة منذ 2012، ما يطرح سؤالا من وجهة النظر الإسرائيلية، هل هذه الاعترافات رمزية دبلوماسية، أم أنها قد تغير الواقع السياسي؟
ويرى هرئيل أن الاعتراف الدولي يمثل تحولا دبلوماسيا كبيرا، لكن تداعياته النهائية تعتمد على الخطوات العملية التي ستتخذها تل أبيب. كما يعتقد أن هذا التطور يشكل موجة ضغط دولية وإقليمية على إسرائيل، ويضع الحكومة أمام تحديات سياسية وأمنية جديدة، تتطلب توازنا دقيقا بين الرد السياسي والعسكري، لتجنب التصعيد الدولي والمحلي.
وتحت عنوان «الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية- تسونامي أم موجات عاتية؟»، أصدر أودي ديكل، مدير برنامج أبحاث «من الصراع إلى التسويات»، في معهد أبحاث الأمن القومي بجامعة تل أبيب، تقدير موقف يتناول هذا الاعتراف.
ووفقا لديكل، فإن التداعيات تعتمد بشكل أساسي على رد فعل الحكومة الإسرائيلية، مشيرا إلى أن معظم الآثار السلبية موجودة بالفعل، وقد يزيد الاعتراف الدولي الواسع من تعقيد الوضع السياسي والأمني.
وبيّن أنه إذا اختارت تل أبيب الرد بقسوة، مثل فرض حصار على قطاع غزة أو احتلاله، أو الترويج لفكرة «الهجرة الطوعية» للغزيين، وفرض السيادة الإسرائيلية بالضفة، فإن النتائج المتوقعة تشمل عزلة دولية لإسرائيل وتجميد اتفاقيات السلام، وفرض عقوبات دولية وتصعيدا أمنيا محتملا في عدة ساحات.
وأشار إلى أن الصور المروعة من غزة، ورفض الحكومة لأي مبادرة سياسية، إلى جانب تصريحات عن ضم أراض وطرد الفلسطينيين من منازلهم، تشكل أسبابا رئيسية لموجة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، كون المجتمع الدولي بدأ يعي أن حل الصراع لا يمكن تحقيقه، إلا عبر تعزيز فكرة الدولتين.
ووفق ديكل، فإنه رغم «محدودية التأثير العملي الفوري للاعتراف الدولي»، فإن ردود الفعل الإسرائيلية، والإجراءات التي يمكن تفسيرها على أنها رفض للسلام، ستزيد من الزخم السياسي حول القضية الفلسطينية، ما يرفع مستويات التوتر الأمني والسياسي والاقتصادي.
ضغوط أمريكية ورسائل متناقضة
وصفت الولايات المتحدة اعترافات بريطانيا وأستراليا وكندا بدولة فلسطين بأنها «استعراضية». وشدد متحدث باسم الخارجية الأمريكية على أن واشنطن تركز على «الدبلوماسية الجادة»، معتبرا أن الأولوية تبقى لإطلاق سراح الرهائن، وضمان أمن إسرائيل، والتوصل إلى سلام لا مكان فيه لحركة حماس.
وتحاول واشنطن إقناع نتنياهو بتجاهل الموجة الجديدة من الاعترافات، والاكتفاء بردود دبلوماسية شكلية، حتى لا ينزلق إلى مواجهة أوسع. لكنها في الوقت ذاته لا تُخفي انزعاجها من خطوات حلفائها الغربيين، التي قد تُضعف موقفها التفاوضي التقليدي.
خيارات إسرائيلية مطروحة
أمام نتنياهو جملة من السيناريوهات للتعامل مع الاعترافات، بعضها قد يقتصر على خطوات رمزية، مثل إغلاق القنصلية الفرنسية في القدس الشرقية، لتوجيه الأنظار نحو أزمة دبلوماسية مع باريس، بدل مواجهة شاملة حول الضم.
لكن سيناريوهات أخرى أكثر خطورة مطروحة، بينها:
- ضم الأغوار: باعتبارها منطقة استراتيجية قليلة السكان الفلسطينيين، وقد حظيت بتهجير واسع في الآونة الأخيرة.
- تحويل مناطق «ب» إلى مناطق «ج»: ما يعني فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة إداريا وأمنيا على مساحات جديدة من الضفة الغربية.
- الضم الكامل: وهو مطلب اليمين الإسرائيلي، لكنه يضع تل أبيب أمام عزلة دولية خانقة.
ويحاول نتنياهو الموازنة بين إرضاء الداخل اليميني والحفاظ على هامش المناورة مع الخارج، لكن كلفة الخيارات كلها تبدو مرتفعة.
أركان الدولة والاعتراف الدولي
القانون الدولي يحدد أركان قيام الدولة: شعب، إقليم، وسلطة، إضافة إلى عنصر الاعتراف. ومع تزايد عدد الدول التي تعترف بفلسطين، يصبح الكيان الفلسطيني أكثر قربا من استيفاء هذه المعايير.
والاعتراف الدولي ليس مشروطا بعضوية الأمم المتحدة: «الأمم المتحدة ليست الجهة المخولة بالاعتراف بالدول، بل الحكومات هي التي تمنح هذا الاعتراف. انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة يظل مسألة سياسية، قد تعطلها واشنطن بحق النقض الفيتو، لكن ذلك لا يغير من واقعها القانوني كدولة».
وتستطيع فلسطين الموقعة على اتفاقيات دولية الانخراط في المنظمات والمحاكم الدولية، لملاحقة الاحتلال، حتى من دون عضوية كاملة في الأمم المتحدة.





