الرأي

الأحمق

لعل آخر ما قد يخطر على بالك حين تكون سائحا في بلاد أوروبية، هو أن تصادف أحمق في الشارع؛ فلقد تركت العديد منهم في بلادك، يصولون ويجولون ويثيرون الرعب والفوضى.
عندما تسافر إلى بلدان ذات تقدم وحضارة، فأنت تكون شبه متأكد من كون الجمال يطغى، وأنك سترى ما أبدعه الله من خلق وما أبدعه الخلق من بنيان.. سوف ترى النافورات والتماثيل، وستأكل ما لذ وطاب، وتسترخي على مقاعد الحدائق الغناء، تاركا نظرك يداعب الورود والخدود على مرماه..
هكذا، وجدت روما حين وصلت، وقبل أن ألتقي بالأحمق. كان على بُعد خطوتين مني، جالسا وسط درج ساحة «الجمهورية»، نظراته شاردة، ويتكلم دون إصدار أي صوت، فيما يداه تتحركان وكأنه يشرح شيئا ما، ملامحه آسيوية، وشكله مرعب ويتناقض تماما مع المكان، وكأنه انبعث من أحد العصور الغابرة أو وقع من كوكب ما غير الأرض..
ابتعدت عنه مهرولة، وجلست في المقهى المقابل للدرج، كانت لديّ رغبة في تأمله، وبقيت لفترة أحاول استيعاب أمر وجوده الغريب، فهل يكون مجرد ممثل يقوم بعرض فني أو ربما حيلة من حيل الكاميرا الخفية أو مشهد تصوير لفيلم ما. دقائق من التدقيق كانت كافية ليخيب كل ما فكرت فيه، وليبدو جليا أنه فعلا أحمق.. ساعتها، تساءلت داخل قرارة نفسي: كيف وصل من آسيا إلى أوروبا؟ وهل كان عاقلا قبل أن يصل؟ وتمنيت أن أعرف.. وبينما بقي الأحمق جالسا في مكانه، استمر الناس يمرون بمحاذاته بشكل عادي، كأنهم لم يروه وكأنه غير موجود. كما جلس مجموعة من الشباب بجانبه على الدرج نفسه يتحدثون ويأكلون «ساندويتشات»، ووقفت شابة إلى جواره تتكلم في الهاتف، وأمامه أطفال يلعبون بالأحذية ذات العجلات..
حينها، خجلت من نفسي كوني هربت حين رأيته.. تذكرت البلد الذي أتيت منه، حيث الكثيرون ينظرون إلى المجانين نظرة لا تخلو من اشمئزاز؛ بل قد يصرخ من رؤيتهم الكبار وقد يطاردهم الأطفال ويرجمونهم بما يجدونه أمامهم، يجعلونهم يغضبون ويثورون ويضربون ويحطمون، وبإساءة معاملتهم يصبحون أكثر عدوانية وأكثر حمقا. وهكذا، يعيشون معهم عداء دائما وخوفا متبادلا وكرها دفينا..
وقبل أن أغادر الساحة، ودعت أحمق بلاد الرومان من بعيد، وأنا أردد في نفسي: «كل شيء هنا جميل؛ حتى العلاقة بين العقلاء والمجانين»..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى