الرأيالرئيسية

الأدمغة الثلاثة عند الإنسان

ما زلت أتذكر تلك الليلة في رمضان قبل سنوات، عند منتصف الليل، والعراق تعصف به الدواهي والاقتتال، وقد اجتمعنا سبعة من الأطباء من اختصاصات شتى على مريضة تعاني من سبع علل، لاتخاذ قرار بتر الساق. هل يتحمل القلب؟ هل تتحمل المريضة التخدير وصدمة البتر نفسيا، قبل أن تكون عضويا بنقصان جسدها من ساق حملها سبعة عقود؟ ولكن في العاشر من رمضان، كان التلفزيون ينقل خبر مقتل سبعة أضعاف عدد الأطباء السبعة الذين أشرفوا على المريضة، حيث لم يكن الأمر هذه المرة يتعلق بخسارة ساق من امرأة مريضة مسنة، بل قتل 49 شابا عراقيا من المتطوعين للشرطة، كلهم لا يشكون من علل وغير مهددين ببتر الساق، قبضت أرواحهم على يد رسل الموت.

والسؤال من كان يقف وراء رسل الموت هؤلاء؟ من يقف وراء القتل كثيرون فقد تقاطعت عند مثلث الموت مصالح الفكر القومي الفاشي مع الإسلامي الأصولي وإسرائيل وعدد من الأنظمة العربية. وهو تلاق غريب، ولكن لكل وجهة هو موليها؛ فأما (البعثيون) الفاشيون فهم يبكون دولة خسروها، فهم لاستردادها يطمعون. وأما (الأصوليون) فهم يحلمون بإقامة دولة الخلافة، كما فعل السلاطين العثمانيون. فكان السلطان إذا جاء يوم تنصيبه، أمر بخنق كل إخوته بفتوى من مفتي الديار الإسلامية وبآية من القرآن، أن الفتنة أشد من القتل! وأما إسرائيل فهي تريد عراقا مفتتا إلى أجل غير مسمى، وهو مع كتابة هذه الأسطر مدمى ممزقا، ربما إلى قرن آخر. وأما مصلحة العديد من دول الجوار فهي فشل التجربة العراقية بكل المقاييس، فتحمد شعوبها رب العزة والجلال أن يبقى كافور الإخشيدي على ظهور العباد إلى يوم يبعثون. مع هذا، فقانون التاريخ غير قانون الأصوليين والبعثيين والصهاينة وطواغيت الحكومات العربية.

وأهم ما حصل في العراق أن الأوضاع فيه تحركت بعد جمود. وعندما كانت تنقل أخبار فظاعة المقصلة لفيلسوف التنوير «إيمانويل كانط»، كان يقول: كل هذه الفظاعات لا تقارن بيوم واحد من الاستبداد. وروى لي طبيب عراقي زار أهله، وكان يكرر سؤالا واحدا، ويلاقي جوابا مشتركا ما الذي تغير؟ وكان الجواب: هناك أمل الآن، أما في ما سبق فكنا في اليأس مقيمين. وحسب عالم الاجتماع العراقي «علي الوردي»، فإن المجتمع البشري بوجه عام «يهدده خطران: خطر الجمود من جهة، وخطر التفكك من جهة أخرى. والمجتمع الأمثل هو الذي تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد، فلا تطغى إحداهما على الأخرى».

والمجتمع هو في حالة حركة ومن درسه مفصولا عن الحركة، كان يفعل كما يفعل أطباء المخابر فيدرسون بنية الفيروس وهو كتلة من جماد، والطبيعة ليست كذلك، وقوانين علم الاجتماع أعقد وأصعب.

وحسب أحمد أمين في دراسته للتاريخ (العقلي) عند المسلمين، فإن خللا عارما حدث في العصر العباسي حينما قضي على المعتزلة، ونبت تيار أهل السنة والجماعة، وهو ليس بسنة ولا جماعة. ولو أن كلا من التيار العقلي والمحافظ بقيا يتدافعان، لبقيت الحيوية في المجتمع الإسلامي، ولكن مع سيطرة الفكر الوثوقي دخلنا التيه كما وقع مع بني إسرائيل، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة. ونحن ما زلنا نعيش أرض الحرام فنقتل ونسفك الدماء برهانا على ظن الملائكة فينا، عندما قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟

وهذه المسألة أعيتني منذ ربع قرن، وتتكشف لي أسرارها يوما بعد يوم. لماذا كان الإنسان هذا الكائن المرعب الذي يقتل ويطور آلة القتل بدون توقف؟

 وفي رمضان يطرح السؤال نفسه بإلحاح أكبر ما معنى الصيام، ولماذا شرع؟ والجواب هو (التقوى) لعلكم تتقون. والتقوى هو الانضباط، والانضباط هو التحكم في الغرائز السفلية الحيوانية. فلم نسمع يوما عن قط صائم أو عشب مارس الانتحار، والإنسان يفعل كليهما مضادا لذاته.

ونظام الصيام يهجم على نظام الغرائز من أجل ترويضها. ونحن كما يقول عالم الأعصاب «ماك لين» يتكون دماغنا من ثلاثة أدمغة مركبة، نتكلم بثلاث لغات، بدون قدرة على التفاهم. فمنذ 100 مليون سنة تشكل عندنا الدماغ السفلي، وهو دماغ الزواحف وهو دماغ لا يعرف المنطق، بل يعمل على المحافظة على النوع. وفوق الدماغ السفلي نبت دماغ جديد حول المخلوق إلى كائن ثديي يملك العواطف، وهو عالم نشترك فيه نحن والقطط والكلاب. وكل من الدماغ السفلي والمتوسط تفاهما منذ مائة مليون سنة، ولكن الدماغ الجديد عند الإنسان لم يتكون إلا منذ نصف مليون سنة، فلم يتلاءم مع أدمغة الزواحف والثدييات. والدماغ الجديد الذي يسميه الأطباء (القشر الجديد New Cortix) يقوم على القدرات العقلية الفائقة، مثل التخيل والتعقل والتذكر والمحاكمة.

وفي هذه النقطة من تناقض الأدمغة الثلاثة تولد المفاجآت، فالإنسان ليس إنسانا في حقيقته، بل ما زال الوحش نائما في صدره. والملكات الجديدة لا تنتقل بالوراثة، بل لا بد من تأسيسها عند كل مولود جديد. وهذا هو نبع العنف في الإنسان، فنحن من الناحية البيولوجية لم ننضج بعد، وهذا يعني أننا أمام رحلة طويلة من أجل تدريب الدماغ العلوي على السيطرة على الغرائز السفلية التي تدمدم في فضاء اللاوعي، حتى يتحكم قشر الدماغ العلوي بالدماغين السفلي والمتوسط عند الإنسان، فتجعله غير قابل للتنبؤ يخوض الحروب مثل المجانين.  

خالص جلبي  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى